في سابقة تاريخيّة صوّت أعضاء مجلس النواب الأمريكي بأغلبية الأصوات على عزل رئيس المجلس كيفن مكارثي. 216 صوتًا اختارت عزله، بينما عارض القرار 210 نواب. وبالطبع اختار النواب رئيسًا مؤقتًا للحزب ريثما ينتخبون رئيسًا جديدًا لهم، الرئيس المؤقت هو باتريك ماكهنري.

عزل مكارثي يبدو كعقوبة من الجمهورين لأنفسهم، فالرجل ينتمي للحزب الجمهوري أيضًا. تعاقبه كتلة جمهورية لنجاحه في تفادي إغلاق جزئي للحكومة الأمريكية. فالرجل استطاع إقرار مشروع جديد يحظى بدعم عدد أكبر من الديمقراطيين مقارنة بأبناء حزبه. ما أثار حفيظة الجناح اليميني المتشدد في الحزب.

هذا الجناح الذي كان في البداية عائقًا أمام انتخاب مكارثي. فقد انتخب الرجل في يناير/ كانون الثاني 2023 بعد 15 جولة كاملة من التصويت. تلت كل جولة مفاوضات صعبة لإقناع الكتلة اليمينية، المؤيدة لترامب في أغلبها، بانتخاب الرجل. ويبدو أن الكتلة رضخت في نهاية المطاف بعد أن أخذت ما يضمن لها ولاء مكارثي، خصوصًا أن رئيس مجلس النواب هو المنصب الأهم على الإطلاق في الولايات المتحدة بعد منصب رئيس الجمهورية ونائبه.

لكنه بعد تجنب عملية الإغلاق قدّم مات جيتز، النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا، مذكرة في مجلس النواب تعلن شغور منصب رئيس المجلس. المذكرة كانت مناورة نادرة الحدوث، لكن بعد التصويت عليها بالموافقة باتت أمرًا واقعًا. وأشعلت بدورها حربًا جديدة داخل صفوف الجمهوريين أنفسهم، الذين يتمتعون بأغلبية في مجلس النواب، لكنها أغلبية ضئيلة في نهاية المطاف.

خصوصًا مع تخلي الديمقراطيين عن الرجل. فقد كان بإمكان أصواتهم إنقاذهم من هذا المصير. لكنهم رفضوا الانخراط في أي حديث حول التصويت على عزل الرجل. ولم يصدر قرار حزبي ديمقراطي موحد، بل تُرك الأمر للكتل الحزبية تفعل ما تراه مناسبًا. بالطبع كان من المتوقع أن يصوت الديمقراطيون لصالح بقاء الرجل مقابل مطالب محددة، لكن ذلك لم يحدث، وصوتّت الأقلية الديمقراطية لصالح العزل.

من الصقور الثمانية؟

المفاجئ هو تصريح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي قال إنه يتعجب من انشغال الجمهوريين بالصراع بينهم، دون الالتفات للديمقراطيين الذين يدمرون البلاد، على حد وصف ترامب. لكن لا يبدو ترامب صادقًا في هذا التعجب، فالصقور التي التهمت مكارثي هى في الأصل تابعة لترامب.

فثمة حرب أهلية داخل الحزب الجمهوري تشتعل داخل الحزب منذ سنوات. لكنها كانت مستترة تحت رباط الحزب الواحد، لكن الأقلية الترامبيّة أخرجت هذا الخلاف للسطح. فقد كانت ناقمة منذ انتخابات الرئاسة الماضية، وعدم وصول ترامب للبيت الأبيض مرة أخرى. خصوصًا أن رغبة مكارثي المُلحة في الفوز بالمنصب جعلته يعطي عديدًا من الوعود للصقور اقتربت من حد الخضوع التام لهم، لأنهم كانوا رغم قلة عددهم الورقة الرابحة بالنسبة له في مرحلة ما.

لكن حين تخلى عنهم أرادوا ردّ الصفعة. أبرز هؤلاء الصقور هو مات جيتز، المتولي مقعد فلوريدا منذ عام 2017، وحليف ترامب المقرب. أما الرجل الثاني فهو آندي بيجز، بولاية أريزونا، الذي يترأس تجمع الحرية اليميني المتطرف. ويعتبر من أشد الصقور عداوة لمكارثي، وغرّد على موقع إكس بشكل مكثف يهاجم مكارثي.

أما ثالث الثمانية، فهو كين بوك، في الكونجرس الأمريكي منذ عام 2015، وحانق على مكارثي منذ اتفاق سقف الدين السابق الذي توصل له مكارثي مع بايدين. تيم بورشيت، نائب ولاية تينيسي منذ عام 2019، وكان ممن صوتوا لصالح تولي مكارثي في يناير/ كانون الثاني. لكنه برر تصويته الحالي بأنه يراه الأفضل لصالح الشعب الأمريكي ككل.

إيلي كرين، خدم في البحرية الأمريكية سابقًا ويمثل ولاية أريزونا، كان تصويته لعزل مكارثي متوقعًا. فالرجل لم يصوت له في البداية، وكان معارضًا بشدة لاتفاق سقف الدين بين بايدن ومكارثي. يماثله في هذا  بوب جورد، ممثل ولاية فيرجينا منذ عام 2021، فقد كتب بعد تصويته ضد مكارثي أن رئيس مجلس النواب يجب عليه القتال للحفاظ على الوعود التي قطعها، لا أن يتحول لمجرد رجل يعقد الصفقات التي تجذب حوله أكبر عدد من الأصوات.

نانسي ميس، نائبة عن ولاية ساوث كارولاينا، قالت كذلك إن تصويتها ضد الرجل لم يكن عقابًا شخصيًا، بل بحثًا عن مهرب من الفوضى التي أحدثها مكارثي. أما مات رونالد، ممثل ولاية مونتانا، فكان معارضًا له منذ اتفاق سقف الدين مع بايدن. لهذا لم يتردد في التصويت على عزله.

الصدع تفاقم

قد تبدو أسباب الجمهورين مبررة للتصويت على عزل الرجل، سواء لأنه أخلف وعده معهم، أو لأنهم يحاولون تمهيد الأمور لتولي ترامب لاحقًا. اللافت أنه لأول مرة يقف الديمقراطيون نظريًا في صف عدوهم اللدود، صقور الحزب الجمهوري. فيبدو أنهم يريدون دفع الجمهوريين لانتخابات وهم في تناحر داخلي. خصوصًا أن ترامب هو الآخر كان بإمكانه إنقاذ الموقف بكفّ صقوره عن مكارثي، لكنه لم يرد ذلك هو الآخر.

فالانقسام الحزبي يخدم مصلحته، كما أنه يظهر للجميع أن لديه كتلة فاعلة داخل الحزب والنواب، صحيح أنها كتلة أقل حجمًا من باقي الكتل، لكنها كتلة قادرة على عرقلة المسار بالكامل.

المعضلة أن عدم التدخل قد عمّق الشرخ داخل الحزب، فالقيادات الوسطية التي كانت تقف جوار ترامب في الأيام الماضية، التفت حول مكارثي في الأزمة الراهنة. وظهر ذلك في ردود فعلهم الغاضبة من أن يتسبب الجمهوريون في إسقاط أنفسهم. وأن الوضع الراهن يعتبر أسوأ من الحالات السابقة التي حدث فيها أمر مشابه مثل عام  1998حين ترك نيوت جينجرتش المجلس بعد حدوث خلافات بينه وبين فريقه. وفي عام 2015 ترك جون بينر المنصب أيضًا.

لكن في الحالتين أعلاه كان هناك بديل جمهوري جاهز لتولي الدفة سريعًا. لكن في الأزمة الحالية لا يبدو أن هناك بديلًا جاهزًا، وتتضاءل احتمالية التوافق على اسم جديد بمرور الوقت. ويتوقع أشد المحللين تفاؤلًا أن الأمر سيستغرق أسابيع، ويرى الآخرون أن الأمر لن يتم إلا في بداية العام الجديد.

هذه الأزمة ستلقي بظلالها على اختيار المرشح لانتخابات الرئاسة عام 2024. فرغم أن ترامب هو الأوفر حظًا بالترشح، لكن بعد المأزق الأخير بدأ عديدون يرونه كشخص ورطهم في عديد من الأزمات التي أدت لتآكل ثقة الأمريكيين فيهم.

الجمهوريون جميعًا سيدفعون الثمن

لكن الصورة الكبرى تقول أن قوة الحزب الجمهوري ككل باتت موضع شك. وبات الحزب يعاني حربًا باردة بين مرشحي الحزب المختلفين في سباق الرئاسة.  المقلق أن الوضع لم يعد مرتبطًا بشحص ترامب من عدمه. فالجمهوريون في مجلس النواب صاروا منقسمين بناءً على اختلافات أيديولوجية عميقة.

فقد باتت داخل الحزب الجمهوري عدة أجنحة منقسمة، لكنهم يجتمعون إجمالًا في تيارين أساسين. التيار التقليدي، الذي دفع بمكارثي في البداية، والتيار اليميني المحافظ الذي أسقطه لاحقًا. التيار الأخير لا يتخطى كونه بضعة نواب فحسب، ثمانية في معظم التقديرات، لكنهم سيطالبون بمزيد من الضمانات ويفرضون شروطهم على أي رئيس قادم لمجلس النواب.

صراع الأجنحة يظهر في مطالبة النائب الجمهوري دون بيكون بطرد جايتس، صاحب اقتراح عزل مكارثي، من المؤتمر الجمهوري. مؤكدًا أن تلك الخطوة من شأنها أن تضعف جبهة الجمهوريين ككل في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2024. خصوصًا أن المعركة القادمة في اختيار الرجل الذي سيمسك مطرقة مجلس النواب من شأنها أن تزيد الشقاق الداخلي، وتكشف للناخب الأمريكي حجم الانقسام الموجود داخل حزب الجمهوريين.

كذلك فإن احتمالية صعود الديموقراطيين تزداد يومًا بعد الآخر. مثلما حدث عام 1910 حين واجه جوزيف كانون، الجمهوري ورئيس مجلس النواب وقتها، انقسامًا مثل الحاصل حاليًا. كان جوزيف ملقبًا بالقيصر لتحكمه في كافة التشريعات والتعديلات، وتوزيعه لرئاسة اللجان المختلفة على أصدقائه. فجرى تصويت على عزله بتحالف الديمقراطيين مع الجمهورين المستائين من أدائه.

رغم صمود كانون في وجه العزل، بحيلة دستورية، فإن الانقسام ظل موجودًا بين الجمهورين، وتجلى ذلك بمنح الديمقراطين منصب رئاسة البلاد بأكملها. فهل تكون الأزمة الراهنة هى القطرة التي يطفح منها كيل الناخب الأمريكي من صراعات الجمهوريين، ويمنح صوته، مقتعنًا أو معاقبًا، للديمقراطيين