حين شنت المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عملية طوفان الأقصى في الـ7 من أكتوبر، بدا أنها قفزت نحو مستقبل مجهول، فالصدمة الإستراتيجية التي صعقت بها العدو الإسرائيلي عُدَت بمثابة التهديد الوجودي لكيانه وبالتالي لم يكن مستغربًا أن يجن جنونه ويستخدم كل قوته المفرطة بما فيها السلاح النووي الذي لوّح به وزير التراث الإسرائيلي في 5 نوفمبر الجاري.

وعلى الفور، أعلن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، الذي يُصارع للحفاظ على ما تبقى من مسيرته السياسية التي أوشكت على الأفول، أن هدف تل أبيب من الحملة العسكرية الجارية/ عملية السيوف الحديدة كما تسميها على قطاع غزة هو إنهاء وجود حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، وتأسيس واقع جديد يضمن ألا يتكرر طوفان الأقصى مرة أخرى، غير أن هذا الهدف ما زال بعيد المنال بالنظر إلى الواقع الميداني في قطاع غزة المحاصر والتاريخ الطويل  للمقاومة الفلسطينية المتجذرة في تربة الوطن.

وخلال الأيام التالية، شرعت دولة الاحتلال، المدعومة أميركيًا وغربيًا بصورة غير مسبوقة، في عمليتها العسكرية عبر عملية تمهيد نيراني كثيف شاركت فيها الأسلحة المختلفة (القوات الجوية والبحرية ووحدات المدفعية.. إلخ)، وبلغ حجم المتفجرات التي أسقطها جيش الاحتلال على القطاع نحو 30 ألف طن أي ما يعادل نحو قنبلتين نوويتين، وفقًا للتقديرات غير الرسمية، وهو ما يُعطي لمحة عن حالة الرغبة في الانتقام المتجذرة في عقلية القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية.

وعمد جيش الاحتلال إلى الاستفادة من الخبرات الأمريكية في الحرب الحضرية، والمعدودة كأصعب أنواع الحروب، مستعينًا بمجموعة من القادة العسكريين ،الذين أوفدوا من واشنطن إلى تل أبيب في إطار الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، على رأسهم الجنرال جيمس جالين الموسوم بـ«سفاح العراق» الذي أدى مع نظرائه دورًا استشاريًا في مرحلة التجهيز للاجتياح البري لقطاع غزة والذي رغب الأمريكان في أن يكون كعملية انتزاع الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، عام 2016، وليس كمعركة الفلوجة الثانية في 2004.

الخيارات الصعبة بين نموذجي الموصل والفلوجة

على أن الرؤية الأمريكية للحرب، والتي لم تلق استجابةً كاملة من صناع القرار في تل أبيب، تقوم في جوهرها على المفاضلة بين نموذجين مكلفين من الناحية العملياتية أولهما نموذج الموصل التي شهدت قتالا عنيفًا على مدار 10 أشهر تقريبًا وتكبدت القوات المهاجمة فيها خسائر بالآلاف حتى إن  نخبة القوات الخاصة المشاركة فيها «الفرقة الذهبية» تعرضت لخسائر جسيمة وجرى إعادة هيكلتها بفعل هذه الخسائر، وبين نموذج الفلوجة 2004 التي دامت المعارك فيها لنحو 70 يومًا وتكبدت فيها القوات الأمريكية خسائر كبيرة الأرواح والمعدات.

ويكمن الفارق في المنظور الأمريكي بين النموذجين في طبيعة عملية الانخراط البري في كليهما، فواشنطن وجنرالاتها العسكريين الذين أمدوا نظراءهم الإسرائيليين بالدعم والمشورة لا تريد أن تكون الجولة الحالية عبارة عن معركة من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت كما حدث في معركة الفلوجة الثانية، بل ترغب في أن تكون  عملية منسقة يتم فيها استخدام القوات الخاصة وعمليات القصف الجوي المكثف، مع التركيز على الوصول إلى الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية في الوقت الحالي.

وبغض النظر عن النموذجين، فمسرح العمليات في قطاع غزة له طبيعة خاصة، فبجانب كونه مسرحًا حضريًا معقدًا توجد فيه شبكة أنفاق تُقدَر بنحو 300 ميل من الأنفاق، وهذه الأنفاق ستشكل تهديدًا حقيقيًا للقوات المهاجمة لأنه يصعب التنبؤ بما ينتظرها أو جمع المعلومات الاستخبارية عن الخصم (المقاومة الفلسطينية) بشكل كامل، وبالتالي فإن مقاتلي المقاومة ستكون لهم مزايا تكتيكية في مواجهة جيش الاحتلال وستنعكس هذه المزايا على حجم الخسائر المتوقعة في صفوف قواته.

ومع الإقرار بعدم وجود أي تكافئ في القوى بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية إلا أن تحليل الأداء القتالي للمقاومة في الأيام الأولى لعمليات التوغل البري التي يشنها الإسرائيليون توحي بأن المقاومة تستعد لمعركة طويلة وتعول على استنزاف القوات المقاومة وتكبيدها أكبر قدر ممكن من الخسائر حتى تقنع قيادة الاحتلال العسكرية والسياسية أن السيطرة على غزة ستكون كلفتها أكبر من الانسحاب منها.

ووفقًا للمصادر المختلفة فإن كتائب القسام لديها نحو 40 ألف مقاتل في الوقت الحالي، موزعين على مختلف مناطق القطاع بجانب الآلاف من مقاتلي سرايا القدس والفصائل الأخرى الذين يتوزعون على قطاعات عملياتية مختلفة ضمن خطة انتشار عسكري معروفة سلفًا للمقاومين، فيما حشد جيش الاحتلال نحو 300 ألف من قوات الاحتياط بجانب قواته الضاربة التي تشمل ألوية المشاة جولاني، وناحال، وجفعاتي، والمظليين إلى جانب الألوية المدرعة ووحدات المشاة الميكانيكية، فضلًا عن القوات الجوية والبحرية ووحدات المدفعية التي تواصل قصف غزة صباح مساء.

وتتبع فصائل المقاومة الفلسطينية إستراتيجية تقوم على المزج بين التكتيكات النظامية وغير النظامية للحروب بمعنى أنها تحولت إلى أسلوب قتالي هجين يجمع بين الخطوط الدفاعية وعمليات الدفاع النشط مع التركيز على النوع الأخير لاستحالة الاحتفاظ بخطوط دفاعية ثابتة في مواجهة غزو بري كالذي يقوم به جيش الاحتلال، فضلًا عن تنفيذ عمليات الكمين والإغارة التي تتميز بها مجموعات حروب العصابات لاستنزاف قوات العدو  وتشتيته.

وتلجأ المقاومة الفلسطينية إلى توظيف الإستراتيجيات المختلفة في محاولة لاستغلال نقاط ضعف جيش الاحتلال نظرًا للوضع العملياتي والميداني الصعب التي تجد نفسه مجبرة على القتال فيه في ظل إحاطة العدو بها من كل جانب، ويبدو أنها هيأت نفسها من قبل لمعركة طويلة مما يجعل نموذج الموصل نفسه، المفضل لدى الجانب الأمريكي، تهديدًا حقيقيًا لجيش الاحتلال وبالتبعية لتماسك الجبهة الداخلية التي لا يبدو أن صناع القرار في تل أبيب منشغلون بالحفاظ عليها بصورة حقيقية، حتى الآن.

حرب استنزاف طويلة

وبالنظر إلى عمليات القتال، في الأيام القليلة الماضية، وكذلك مراجعة العمليات العسكرية السابقة التي شنها جيش الاحتلال في عامي 2009 و2014، يمكن القول إن جيش الاحتلال يُسير عملياته تبعًا لمراحل مخططة سلفًا، غايتها النهائية تدمير القدرات العسكرية الفاعلة للمقاومة الفلسطينية بما في ذلك تدمير منصات إطلاق الصواريخ، واستهداف مراكز القيادة والسيطرة واغتيال الكوادر المسوؤلين عنها، فضلًا عن تصفية وحدات النخبة المقاومة التي تُمثل صداعًا مزمنًا في رأس الاحتلال.

وسعيًا لهذه الغاية، بدأ جيش الاحتلال في المرحلة الأولى من عملياته الحالية، بالتمهيد النيراني الكثيف معتمدًا على أسلوب الأحزمة النيرانية، وهو أسلوب معروف سبق أن اتبعته القوات الأمريكية في معاركها ضد تنظيم الدولة الإسلامية وضد فصائل المقاومة العراقية في العراق وسوريا.

وفي المرحلة الثانية من العمليات التي بدأت فعليًا منذ عدة أيام، تتوغل القوات البرية لاحتلال مناطق والسيطرة عليها، وتعمل قوات الاحتلال في هذه المرحلة على تطويق وعزل مناطق شمال قطاع غزة عن جنوبها، ومن الجدير بالذكر أن عمليات التوغل البري الحالية شبيهة بما جرى في 2008 و2014 لكن على نطاق أوسع.

ويتركز المجهود الحربي لجيش الاحتلال، حتى كتابة هذه السطور، على 3 محاور  في شمال قطاع غزة (مناطق الشمال الغربي)، وشرق القطاع، وجنوب مدينة غزة، ويهدف جيش الاحتلال إلى إتمام المرحلة الحالية وتطويق مناطق شمال غزة ومن ثم البدء في المرحلة التالية وهي القيام بعملية استهداف قوات المقاومة في مناطق شمال غزة والعمل على القضاء عليها.

وبالتزامن مع عمليات التوغل البري، يواصل جيش الاحتلال عمليات القصف المركز على الأحياء المدنية وفي محيط المستشفيات في مختلف مناطق القطاع، متبعًا ما يسميه عقيدة/استراتيجية الضاحية التي يتم فيها استهداف القاعدة الشعبية للمقاومة الفلسطينية لزيادة خسائرها ودفعها للانقلاب على المقاومة، ولعل هذه العقيدة تُفسر المجارز المتواصلة التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد المدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة.

وفي المقابل، عملت فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام على استنزاف القوات المهاجمة عن طريق العمليات الخاطفة (الكر والفر) في مختلف محاور القتال، وخصوصًا على المحور الشمالي الذي شهد أعنف المواجهات التي جرت حتى الآن، ونجحت في استهداف وتدمير عدد كبير من المدرعات الإسرائيلية المختلفة وقتل وإصابات العشرات من جنود الاحتلال الذي لا يُعلن عن خسائره دفعة واحدة حفاظًا على الروح المعنوية في صفوفه وتماسك الجبهة الداخلية في آن واحد.

ويبدو أن فصائل المقاومة الفلسطينية أعدت نفسها لقتال طويل قد يدوم لشهور ولا يظهر أن قوتها الضاربة قد تعرضت للتقويض رغم الحملة المكثفة التي يشنها جيش الاحتلال حتى الآن، لكن التحدي الحقيقي الذي سيواجهها هو مدى تمكنها من الحفاظ على قدراتها وإدامة الزخم والاستمرار في عمليات استنزاف العدو حتى نهاية المعركة التي لا تلوح في الأفق، في الوقت الراهن.

مستقبل الجولة الحالية من الصراع

وتشير التطورات المتعاقبة منذ 7 أكتوبر 2023 إلى أن الجولة الحالية من المواجهات بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال تختلف إلى حد كبير عن الجولات السابقة، لا سيما عمليتي «حرب الفرقان» 2008، ومعركة «العصف المأكول» 2014 واللتين شهدتا التوغل البري لجيش الاحتلال في قطاع غزة، إذ إن تل أبيب لا تُظهر أي بوادر للاستجابة للضغوط  الإقليمية والدولية المنادية بوقف الحرب أو على الأقل إعلان هدن إنسانية حقيقية، كما أن القيادة العسكرية لجيش الاحتلال ومن خلفها السياسيون المتطرفون يرغبون في إحراز أي انتصار لحفظ ماء الوجه واستعادة جزء من سمعة جيشهم المتضررة ولو كانت على حساب الخسائر الكبيرة المتوقعة في صفوفه جراء العمليات الحالية.

ومن المتوقع أن يدفع تحالف السياسيين اليمنيين مع القادة العسكريين المتطرفين نحو استمرار العملية الحالية، حتى لو دامت لشهور، دون النظر إلى الخسائر البشرية في صفوف جيش الاحتلال، وبالطبع دون إعارة أدنى اهتمام لعمليات الإبادة الجماعية والقتل الوحشي التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين، ما لم يكن هناك تغيير في المعطيات الراهنة بصورة تقلب الموازين كأن ينخرط ما يُعرف بمحور المقاومة في مواجهة شاملة مع جيش الاحتلال أو يكون هناك موقف عربي أو دولي قوي يؤدي لإنهاء العدوان، وهو الأمر الذي لا يمكن الجزم به حاليًا.

وفي الحقيقة، فإن دروس المواجهات السابقة تؤكد أن استمرار عمليات القتال في الميدان تتوقف على إدراك النجاح وليس على حجم الخسائر التي تتكبدها القوات المُهاجمة، وهو ما يدفع في الاتجاه المؤيد لاستمرار القتال، لكن هذا لا يعني أن جيش الاحتلال سيتمكن من تحقيق نصر حاسم أو القضاء على المقاومة الفلسطينية بصورة يضمن معها ألا يتكرر «طوفان الأقصى».

وبناءً على ذلك، فقد تنتهي الجولة الحالية من المواجهات كما انتهت الجولات السابقة أي بإضعاف قدرات المقاومة الفلسطينية دون هزيمتها أو القضاء عليها نهائيًا، لأن هزيمة المقاومة يقتضي أن تُهزم إرادتها وتفقد رغبتها في القتال وهو أمر مستبعد بالنظر لعديد من العوامل والأسباب.

غير أن هذه النهاية، ستعني أن تل أبيب ستفقد وللأبد واحدة من أهم الأساطير التي قامت عليها وهي نظرية «الردع» التي روجتها كأساس لأمنها القومي، وستجني حصيلة الفشل الاستراتيجي الشامل الذي ظهر جليًا في 7 أكتوبر بما يتضمنه ذلك من ارتدادات قوية على البنية والتماسك الداخلي لدولة الاحتلال، وهو ما لا ترغب فيه القيادات السياسية والعسكرية والأمنية لدولة الاحتلال.

أما على الناحية الأخرى، فقد حققت الفصائل الفلسطينية نصرًا إستراتيجيًا في 7 أكتوبر، وذلك بغض النظر عن النتيجة النهائية للجولة الحالية من الصراع، وهو ما يعني أن قفزتها الدراماتيكية نحو المستقبل المجهول لم تكن إلا خطوة على درب  المقاومة المتجذرة في نفسية وعقلية الشعب الفلسطيني، الذي يُناضل من أجل انتزاع حقوقه وأرضه التي لطالما أكدت أن «الأرض تقاتل مع أهلها».