في 17 سبتمبر/ أيلول الجاري شهدت إسرائيل الانتخابات الثانية لها في غضون أقل من ستة أشهر. وكانت الانتخابات قد أسفرت عن أزمة سياسية مستمرة في إسرائيل منذ ما يقرب من تسعة أشهر بعد حل الكنيست 21 ديسمبر/ كانون الأول 2018 والدعوة لانتخابات مبكرة.

بعد حل الكنيست في ديسمبر أُجريت انتخابات عامة في إسرائيل في أبريل/ نيسان الماضي، لم يحصل أي من الأحزاب الكبيرة فيها علي المقاعد اللازمة لتشكيل الحكومة، وتعذرت مفاوضات تشكيل الحكومة منذ أبريل وحتى أغسطس، مما جعل الحكومة تدعو لانتخابات مبكرة مرةً أخرى في أقل من ستة أشهر.

كان نتنياهو يأمل أن يحصد أغلبية تمكنه من تحسين وضعه السياسي ووضع حزب الليكود والتحالف اليميني الحاكم في إسرائيل، لكن لم تسفر انتخابات أبريل عن شيء سوى استمرار الأزمة السياسية، فلم يستطع حزب نتنياهو الفوز بالأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة وهي 61 مقعدًا من مقاعد الكنيست الـ 120.  ولم يستطع تكوين تحالف يمكنه من تشكيل الحكومة مما أدى في النهاية إلى تمرير الكنيست في مايو/ آيار الماضي قانونًا يدعو لانتخابات جديدة.

بشكل عام يتشكل الطيف السياسي الإسرائيلي في الوقت الحالي من قسمين أساسيين؛ اليمين الديني، واليمين العلماني. يمثل اليمين الديني أحزابًا كبيرة مثل الليكود وحزب شاس وأحزاب أخرى أصغر. واليمين العلماني وهو طيف واسع من أحزاب يمين ويسار الوسط، يمثله تحالف أزرق أبيض الذي تكوّن في 2018 وحزب إسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان، أما اليسار التقليدي والممثل في حزب العمل فقد بوصلته الأيديولوجية والآن إما يخسر أو يتحالف مع أحزاب يمينية أقرب إليه.

تحالف اليمين الديني المتطرف الحاكم الآن بزعامة نتنياهو خسر في الانتخابات الحالية خسارة مركبة، أولًا، لأنه لم يستطع تأمين عدد أكبر من المقاعد عن انتخابات أبريل التي حصد فيها 35 مقعدًا، وفاز فقط في الانتخابات الحالية بـ 32 مقعدًا في الكنيست. وثانيًا، لأن نتنياهو خسر أمام عدوه بيني جانتس، زعيم حزب أزرق أبيض. علي الجانب الآخر فإن تحالف أزرق أبيض، وهو تحالف انتخابي من يمين الوسط بزعامة رئيس أركان جيش الاحتلال بيني جانتس فاز بـ 33 مقعدًا في الانتخابات الحالية.

المفاجئ في الانتخابات الحالية كان فوز القائمة العربية المشتركة بـ 13 مقعدًا والتي بالطبع ستميل لدعم تحالف بيني جانتس، لكن طرفي المعركة الليكود وأزرق أبيض يتفقان على عدم وجود وزراء عرب في الحكومة القادمة.

في الغالب سيتحدد تشكيل الحكومة القادمة  بناء على مفاوضات نتنياهو – ليبرمان – بيني جانتس. في المجمل تفوقت كتلة يمين ويسار الوسط بالإضافة إلى الأحزاب العربية بفارق ضئيل على كتلة اليمين المتدين بقيادة نتنياهو بـ 56 مقعدًا مقابل 55، وفي المنتصف هناك 9 مقاعد لحزب «يسرائيل بيتنو»، الذي تعهد زعيمه، عضو الكنيست أفيجدور ليبرمان، بإجبار الليكود وأزرق أبيض على تشكيل حكومة وحدة. ما لم تنجح تلك المفاوضات بتشكيل حكومة وحدة ففي الغالب ستتجه إسرائيل لانتخابات هي الثالثة في أقل من عام.

سحر نتنياهو لم يعد يكفي

يسعى نتنياهو للحفاظ على موقعه كرئيس للوزراء في حكومة وحدة وطنية تجمع بين الليكود وأزرق أبيض، لكن هذا ليس سهلًا، خاصةً في ظل الحاجة إلى العدو الجديد والصديق القديم ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا، وأيضًا لرفض جانتس نفسه الانضمام لحكومة يقودها نتنياهو. يُعتقد على نطاق واسع أن ليبرمان هو صانع الملوك في الانتخابات الحالية لأنه يقود الوساطة بين الحزبين الكبيرين.

هذا السعي الدؤوب من قبل نتنياهو للحفاظ علي موقعه يأتي في ظل  قضايا الفساد المتهم فيها مع زوجته والتي من المرجح أن تستمر في ساحات المحاكم ما لم يبق نتنياهو رئيسًا للحكومة وبالتالي يمكّنه بقاؤه من تمرير قانون حصانة بأغلبية في الكنيست الإسرائيلي. وهو شيء لا يمكن عمله حال استبعاده من الحكومة الجديدة.

نجح  نتنياهو طيلة 13 عامًا في الحكم في إنتاج تحالف يميني قائم بالأساس على تحالف الليكود وأحزاب يمينية أخرى صغيرة، كان الدعم الانتخابي الأكبر لرئيس الوزراء الإسرائيلي من اليهود الأصوليين القادرين بشكل كبير على الحشد الانتخابي على ملفات محددة مثل منع تجنيد طلاب المدارس الدينية في إسرائيل. تجنيد الحريديم الأصوليين هو ملف كبير في الانتخابات الحالية خاصة مع سعي ليبرمان وجانتس تجنيد هؤلاء بينما يدفع نتنياهو والتحالف المحيط به لمنع تجنيد هؤلاء. هذا المد الديني وليس اليميني لأن المزاج العام في إسرائيل يمينيًا في المطلق حتى أن اليسارية صارت تهمة، يرى على نطاق واسع أنه نتاج لتغيير ديموغرافي أوسع في إسرائيل.

العلمانية في مقابل الأصولية في إسرائيل

تتجاوز قضية تجنيد اليهود الأصوليين الانتخابات نفسها لأنها تعبر عن صدع كبير داخل المجتمع الإسرائيلي، فتصاعد النزعات المتطرفة يعني في النهاية التأثير علي علمانية الدولة المفترضة، كما أن توغل هؤلاء داخل الدولة يقلق الكثيرين من يمين ويسار الوسط في إسرائيل. تعاني إسرائيل في الفترة الأخيرة من عدد من التصدعات العرقية والدينية وخلاف متصاعد بين التيار العلماني والديني في الدولة اليهودية. الأمر وصل إلى أن يسخر ليبرمان وزير الدفاع السابق واليميني المتطرف من قانون منع تجنيد الحريدم علانية في فيديو شهير.

ولفهم تلك العلاقة الإشكالية بين الأيديولوجيا السياسية اليمينة التي تتبناها أغلب النخب السياسية في إسرائيل وبين الدين علينا أن نتابع العلاقة بين الأحزاب الدينية ونتنياهو وجانتس. جانتس ومعسكر يمين الوسط لديه مخاوف حقيقية من تصاعد النزعات الدينية داخل الدولة الإسرائيلية. معسكر يمين ويسار الوسط في إسرائيل يتفق على مبدأ يهودية الدولة، لكنه يريد يهودية وعنصرية مخففة تجاه العرب والأفارقة في إسرائيل، ويتفق على عداء العرب والفلسطينيين، كما اليمين الديني لكنه يختلف كثيرًا حول إدارة هذا الخطاب السياسي العنصري. يرى يمين ويسار الوسط أنه لا داع لوجود المتدينين في الحكومة، وأن هوية الدولة العلمانية المفترضة سوف تتأثر بوجود هؤلاء.

في القلب من هذا الزخم اليميني الذي تشهده إسرائيل من فترة كبيرة هناك مشكلة ديموغرافية، فعائلات الحريدم والمتطرفون اليهود ترتفع فيها معدلات المواليد بضعف ما هي عليه في العائلات العلمانية التي تنجب بشكل أقل، ومن ثم فأعداد الشباب الذين ولدوا في الثمانينيات والتسعينيات الذين يميلون أكثر للتطرف الديني وبالتالي اليمينية السياسية هو الأكبر بالطبع. كانت تلك المشكلة الديموغرافية في القلب من التحولات السياسية في إسرائيل.  في العشرين سنة الأخيرة تصاعد دور المعسكر الديني في السياسة وداخل الدولة الإسرائيلية بشكل كبير نتيجة زيادة هذا المعسكر عدديًا.

كيف ستؤثر الانتخابات على سياسة إسرائيل الخارجية؟

أحد الملفات المهمة أيضًا في التصويت في الانتخابات كان السياسة الخارجية والذي يبدو أن الليكود قد نجح كثيرًا فيها في الأعوام الماضية، استطاع الرجل ضم الجولان، نقل السفارة الأمريكية للقدس، ضم المستوطنات في الضفة الغربية بل وحتى التعهد بضم الخليل وغور الأردن والمرور بإسرائيل بسلام من الصراع في سوريا، مع تحييد دور المقاومة في حماس رغم ما يمكن اعتباره فشلًا عسكريًا في السيطرة على القطاع. استطاع كذلك تطوير علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب لا سيما دول الخليج العربي والتي أصبحت الآن تفاخر بعلاقاتها علنًا مع الإسرائيلين.

لكن هذه هي المنطقة الغائمة بين التكتلين الكبيرين في الانتخابات. بيني جانتس وتحالفه أزرق أبيض يزايد في أحيان كثيرة على توجهات نتنياهو اليمينية، وهو شيء منطقي قياسًا بأن المزاج العام للإسرائيليين هو كره العرب والفلسطينين، وبالتالي فإن أي مرشح عليه أن يكون أكثر يمينية من نتنياهو في هذا الشأن.

هذا يقود أي شخص جاد للاعتقاد بألا شيء جوهري سوف يتغير في سياسة إسرائيل الخارجية في المنطقة، ستظل على رأس أولوياتها تحييد المقاومة في غزة ولبنان وأيضًا تحييد الخطر الإيراني، بل حتى يمكن أن يقود تشكيل حكومة من قبل بيني جانتس إلى تصاعد النزعة العسكرية داخل الحكومة الإسرائيلية.

في المجمل تتحدد السياسة الإسرائيلية الخارجية بمعيار الأمن القومي الإسرائيلي وبالتالي يتدخل جنرالات الجيش في تشكيل الخطاب السياسي فيها، ومن ثم يأتي دور المؤسسات السياسية التقليدية كالحكومة والكنيست في صياغة تلك السياسة.

يمكن القول إن اليمين العلماني معسكر جانتس وليبرمان استطاع حصد نتائج جيدة في الانتخابات الأخيرة بفضل الخوف من التصدعات العرقية والدينية التي تضرب المجتمع الإسرائيلي. سكان المدن الكبيرة تحديدًا كـتل أبيب والطبقة الوسطى المدنية خائفة من هذا المد الديني خاصةً أنه في أحيان كثيرة، يتصادم هؤلاء مع العلمانيين، لكن هذا لا يعني أن الحكومة الجديدة في إسرائيل سيكون لها أجندة مختلفة في السياسة الخارجية.