في منتصف ديسمبر/ كانون الثاني بدا كل شيء على وشك التغيّر، صفعات متتالية تلقتها إسرائيل في ساعات قليلة. فقد أعلنت إسرائيل عن أكبر خسائرها اليومية، وأقساها، منذ بدء العملية البرية في قطاع غزة. 9 قتلى، من بينهم عقيد ورائد في كتيبة 13 من لواء جولاني، اللواء الأكبر والأهم في الجيش الإسرائيلي.

مما دفع وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، إلى التصريح بأن لواء جولاني قد فقد عديدًا من عناصره في معارك حي الشجاعية. ثم عمّم قائلًا إن الجيش الإسرائيلي عمومًا يعاني من خسائر كبيرة في صفوفه خلال المعارك البرية. لكنه كذلك شدّد أن قواته ستواصل القتال حتى تُحقق هدفها، القضاء على حماس.

جاء هذا الإعلان بعد إعلان حاولت فيه إسرائيل التقليل من حدة خسائرها، قائلة إن 20 جنديًا من قتلاها سقطوا بنيران صديقة، لا بيد المقاومة. هذا الإعلان رغم أن الهدف منه كان إثبات القوة أمام المقاومة، كشف عن تخبط كبير في القيادة الميدانية للمعركة. فحتى لو كانوا قد قُتلوا بنيران صديقة، فذلك يعكس غياب التنسيق المركزي، وارتباك الجنود في الميدان، وانعدام الثقة في كل شيء، وتوتر الجنود الذين لا ينتظرون تأكيد الهوية ممن أمامهم.

الخسائر المتصاعدة في حي الشجاعية تُضاف إلى خسائر إسرائيل الإجمالية منذ بدء عملية طوفان الأقصى، التي زادت بشدة بعد بدء العملية البرية. فقد تحدثت الصحف الإسرائيلية في تقارير مُرسلة، لا يسمح الجيش من التأكيد من صحتها لكنها أقرب للواقع، عن أن مصابي الجيش مثلًا يُحصون بالآلاف، من 5000 إلى 6000 مصاب. وأن عدد منهم، يقارب 2000 كرقم أدني، قد جرى تصنيفهم كمعاقين، أي لا يمكنهم العودة للقتال بأي حال، كما يحتاجون إلى إعانات حياتية لاحقة. كما تحدثت الصحف عن آلاف آخرين يعانون من كرب ما بعد الصدمة بسبب هجوم السابع من أكتوبر، أو بسبب دخولهم لميدان المعركة في العملية البرية.

كذلك فإن الخسائر الاقتصادية تنزف باستمرار. كذلك فإن الهجرة العكسية من إسرائيل للخارج قد زادت بمعدّلات غير مسبوقة، بلغت قرابة نصف مليون مستوطن، ويبدو أنه لا نية لديهم للعودة. كما أن مستوطنات غلاف غزة من المحتمل أن تبقى مهجورة لفترة زمنية طويلة، حتى يستعيد سكانها شعورهم بالأمان، وهو ما يبدو صعبًا للغاية في الظروف الراهنة، ولاحقًا كذلك.

 فيبدو أن العملية التي تهدف إلى القضاء على حماس ستقضي على الجندي الإسرائيلي. فقد كانت الهزيمة الأولى بعد السابع من أكتوبر/ تشيرين الأول أهون نسبيًا مما تعيشه إسرائيل الآن بعد اندفاعها في حرب لم تدرسها بشكل كاف. فكأنما لفّت إسرائيل بنفسها حبل المشنقة حول عنقها، وكلما زادت حدة معاركها البرية أو الجوية يضيق الخناق على رقبتها ورقاب جنودها ومستوطنيها.

خصوصًا أنه لا يوجد، أو لم يُعلن، عن وجود خط نهاية ستُعلن عنده إسرائيل أنها قد حققت مرادها من العملية العسكرية وسوف توقف عملياتها، أو تقلل من حدتها. كما أن غياب الأفق العسكري يعكس غيابًا للأفق السياسي، فلم تقدم حكومة نتنياهو أي سيناريو لما سيحدث لاحقًا. سواء استطاعت القضاء على قيادات حماس الكبار، أو لم تستطع.

وسواء سيطرت عسكريًا على القطاع فهل ستحكمه إسرائيل، أم تتركه للسلطة الفلسطينية باعتبارها الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني. غير أن نتنياهو يرفض كل الحلول، يقول لن نبقى في القطاع كي لا يخسر مزيدًا من الجنود، وكي لا يتورط في حكم القطاع بعد تدهوره. كما أنه يرفض القول بتسليم القطاع للسلطة لأنها لم تُدن حماس، وبالطبع لن يقبل الاعتراف الضمني بأن حماس ما زالت موجودة في القطاع بأن يترك لها مقاليد الحكم.

هذا المأزق زاد تعقيدًا حين فُوجئ العالم ببيان مشترك من كندا ونيوزيلندا وأستراليا يدعمون فيه وقف إطلاق النار في غزة. الدول الثلاث من أقرب الحلفاء الدوليين للولايات المتحدة. وقد كانت مواقفهم في بداية الأزمة واضحة بدعم إسرائيل ومنحها حق الدفاع عن نفسها رغم كل المجازر التي ارتكبتها. لكن يبدو أن تغيّر مواقف تلك الدول الثلاث جاء استجابة للضغط الشعبي الدولي المتصاعد على الحكومات لتبني موقف إنساني ضد إسرائيل وجرائمها في غزة.

لكنه في الوقت ذاته يعكس احتمالية أن القادة الدوليين باتوا يدركون أن فاتورة دعمهم المطلق لإسرائيل ستكون باهظة عليهم داخليًا، وأن إسرائيل لا تقف عند أي خطوط حمراء، لذا قرروا القفز من المركب قبل فوات الآوان. لكنهم بذلك تركوا الولايات المتحدة وحيدةً في مواجهة العالم، كما ظهر في استخدام الولايات المتحدة لحق النقض، الفيتو، ضد مشروع قرار مجلس الأمن المُطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة.

ويبدو أن رهان نتنياهو على بايدن يوشك أن يخسر أيضًا. فقد زادت الصدمة التي عاشتها إسرائيل بعد معارك الشجاعية بتصريحات الرئيس الأمريكي. فقد حذر بايدن إسرائيل من أنها على وشك فقدان الدعم الدولي لحربها ضد حماس. هذا الانتقاد، الأشد في تاريخ علاقة بايدن ونتنياهو، تبعه تصريح آخر لبايدن يقول فيه إنه على نتنياهو تغيير موقفه من حل الدولتين. كما وصف بايدن القصف الإسرائيلي لغزة بأنه قصف عشوائي.

تلك التصريحات استدعت من نتنياهو أن يؤكد وجود خلاف بينه وبين بايدين، لكن بسبب النقاش حول الطريقة التي سيُحكم بها القطاع بعد انتهاء الحرب الحالية، لا بسبب الحرب نفسها. لكن باقي تصريحات بايدن يقول عكس ذلك. فقد أشار بايدن إلى أن الولايات المتحدة اتخذت قرارات خطأ بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وأنه ليس على إسرائيل أن تقع في نفس الخطأ.

كما ردّ بايدن على مقولة لسابق لنتنياهو قال فيها إن قوات التحالف قد سوّت ألمانيا النازية بالأرض، وإنها قد ألقت قنبلة نووية على اليابان. بايدن قال إن ذلك كان خطأ، وأن عديدًا من المؤسسات الدولية قد قامت لضمان عدم تكرار هذا الأمر. كذلك قال بايدن إن نتنياهو يواجه خيارات صعبة في ما يتعلق بحكومته اليمينيّة المتطرفة. وإن تلك الحكومة تجعل حركة نتنياهو صعبة، وإن عليه أن يُغيّرها كي يمتلك حرية أكبر في الحركة.

وأضاف بايدن أن حكومة نتنياهو لا تريد حل الدولتين من قريب أو بعيد، وقال إن الحكومة الحالية هي أكثر حكومة محافظة في تاريخ إسرائيل. وقال إن وجود الشعب اليهودي بات على المحك حرفيًا، وفق تعبيره. ليّرد نتنياهو في بيان منفصل أن رئيس الوزراء المناسب لهذه المرحلة هو الرئيس الذي يستطيع مواجهة الضغوط الأمريكية. فيما يبدو أن الفجوة بين الطرفين تتسع.

تلك التصريحات قد لا تكون وليدة اقتناع شخصي لدى بايدن، ولا حتى استجابة للضغط الخارجي، بل استجابة للضغوط الداخلية في الجبهة الديمقراطية نفسها. فقد انتقدت عديد من البرقيات السياسية السرية سياسة بايدن مع إسرائيل. كما نشر أكثر من 500 شخص قد عملوا في حملة بايدن الانتخابية رسائل تدعو بايدن إلى المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار. كما نظم مجموعة كبيرة من موظفي الكونجرس وقفة احتجاجية أمام مبنى الكابيتول للمطالبة بنفس الأمر. كذلك قد توعد عدد من المسلمين الأمريكيين بالتخلي عن بايدن في انتخابات الرئاسة المزمع إجراؤها عام 2024. فقد صرّح 6 زعماء في ولايات حاسمة، ومتأرجحة، بأنهم سيحشدون لعدم التصويت لبايدن.

مما يعني أن تلك التصريحات قد تكون للاستهلاك المحلي أكثر منها كتصريحات قد تُترجم لأفعال ومواقف رسمية. خصوصًا وأن تصريحات بايدن بات التراجع عنها فعلًا روتينيًا في الإدارة الأمريكية الحالية. ومن الممكن أن يخرج البيت الأبيض للتراجع عن هذه التصريحات، أو الزعم بأنها فُسرت بطريقة خطأ. بالتالي التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والسماح لها بقتل بضعة آلاف أخرى من المدنيين.

أو تكون الإدارة الأمريكية قد ملّت من تعنت وجنون نتنياهو، وحرصه على الهروب للأمام بإطالة أمد الحرب. وتريد وجهًا جديدًا لا يتحدث عن القضاء على حماس، لأن الشهور الماضية أثبتت أنه لا يمكن تحقيق ذلك. وكذلك سيكون مطلوبًا من الوجه الجديد تحقيق مقاربة جديدة مع السلطة الفلسطينية ترفع الحرج الدبلوماسي عن الولايات المتحدة. الحرج الذي جعل الولايات المتحدة تتراجع عن مكانتها الأخلاقية بصفتها حامية الديمقراطية والإنسانية في العالم. وهو ما صرّح به بايدن بأن بلاده تفقد مركزها الأخلاقي في العالم.

رغم أن تلك التصريحات قد تعني بداية مرحلة جديدة من العلاقات الأمريكيةـ الإسرائيلية، لكنها بنسبة كبيرة لا تعني نهاية العدوان الحالي بشكل عاجل، ولا تعني حدوث تغيّر جذري حقيقي في العلاقة بين الحليفين. ولا توفر ضمانًا من أي نوع لعدم تكرار تلك المجازر مرة أخرى في سنوات لاحقة أو في سياقات أخرى. فربما كان الدافع لها هو العدد الهائل للضحايا المدنيين في غزة، والتدمير المتعمد للمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء الدولية. وتتابع الصور والمقاطع المصوّرة التي تُظهر المآسي التي يعيشها أهل غزة، مما جعل من الضروي على الولايات المتحدة أن تُصرّح بذلك.

بل من الممكن أن تكون تلك التصريحات في مصلحة إسرائيل عكس ما يبدو. فالمأزق الإسرائيلي في قطاع لا يبدو أنه سيصل لنقطة نهاية. والخروج من غزة أو إعلان إيقاف المعارك دون مكسب واضح سيُعد هزيمة مدوية تُضاف إلى هزيمة السابع من أكتوبر. هنا تأتي التصريحات الأمريكية الغاضبة لتُعلّق عليها إسرائيل قرارها بإيقاف العمليات العسكرية، فتكون بمثابة تضحية اضطرارية بمعركة ضد حماس لضمان الحفاظ على الود الأمريكي، ولضمان ألا تخسر إسرائيل واشنطن.

فتكون بذلك كافة الأطراف فائزة، الولايات المتحدة تثبت للعالم أنها في لحظةٍ ما قررت التدخل لإيقاف المجازر الإسرائيلية، واستجابت للمطالب الشعبية العالمية. كما تكون إسرائيل قد خرجت من مأزقها، ووجدت عذرًا تسوّقه للداخل والخارج عن سبب خروجها دون القضاء على حماس، كما بالطبع سيكون أهل غزة فائزين في إيقاف آلة الحرب الهمجية التي تحصد أرواحهم بكل السُبل الوحشية.

لكن بالطبع فإن الأرواح المدنية هي آخر ما يٌوضع على مائدة النقاش الأمريكية الإسرائيلية، لكن قد تكون أرواح الأسرى الإسرائيلين لدى حماس هي إحدى الأوراق الضاغطة التي قد تدفع إسرائيل لقبول أي تسوية، أو التفاف للوصول إلى تسوية، تٌخرج الأسرى كي لا يتأزم الداخل الإسرائيلي ضد نتنياهو أكثر مما هو حاليًا. وستكشف الأيام القادمة عن مآلات الخطاب الأمريكي الجديد، وعن اللحظة التي ستُعلن فيها إسرائيل أنها لن تحتمل مزيدًا من الخسائر وتحتاج إلى إيقاف الحرب، الآن.