على مرّ الأيام الأربعة الماضية، لا حديث يعلو على حديث حرائق الغابات الممتدة في إسرائيل التي ما تزال مندلعة حتى لحظة كتابة هذه السطور..

احتفل مئات الآلاف من العرب والمسلمين بهذا الحدث، وتناقلوا صور الحرائق بمنتهى السعادة والتشفي. وأخذ البعض يبشر بقرب زوال إسرائيل، بينما اكتفت الغالبية باستغلال الفرصة للتشفي قبل أن تنجح إسرائيل في إطفاء الحرائق، وينتهي هذا الموسم الاستثنائي الخاطف للشماتة في ذلك الكيان السرطاني الصغير حجما، والمتضخم تأثيرًا وإيذاءً، والذي كثيرًا ما أذاق ويذيق -وسيذيق للأسف- أمتنا الأمرَّين منذ سبعين عامًا وإلى الآن.

وكان طبيعيًا أن يحتل وسم (هاشتاج) «إسرائيل_تحترق» الصدارة على مواقع التواصل الاجتماعي في معظم الدول العربية والإسلامية. وإن قلَّل من سعادة الكثيرين أنه رغم احتراق المئات من بيوت الإسرائيليين، واضطرار إسرائيل لإجلاء عشرات الآلاف من سكانها ومستوطنيها القاطنين في مركز الحرائق أو قربها، فإن الخسائر البشرية ظلت في أضيق نطاق.

فإسرائيل وإن كانت كيانًا غاصبًا، فهي ليست بجمهورية موز أو شبه دولة، مثل التي يموت المئات من سكانها في حريق قطار، أو يغرق المئات في مراكبها قبل أن تصلهم المساعدة، أو تغرق كبرى مدنها نتيجة أمطار زائدة نسبيًا..إلخ.

فرغم الارتباك الواضح في إسرائيل نظراً لفُجائية الحدث، وضخامة الحرائق وامتدادها، وتعدد بؤرها في غابات شمال ووسط فلسطين المحتلة، واقتحامها لحيفا ثالث أكبر مدن فلسطين المحتلة، ما اضطر إسرائيل لطلب المساعدة من أصدقائها وجيرانها (وفي مقدمتهم الجيران الأبرار في السلطة الفلسطينية والأردن ومصر وتركيا)!

إلا أن الأجهزة الإسرائيلية امتلكت الحد الأدنى من الكفاءة لمحاصرة الكثير من بؤر النيران، والإجلاء المسبق للكثير من السكان قبل امتداد ألسنة اللهب إلى أرواحهم وبيوتهم، مما جعل الخسائر البشرية في أقل المعدلات مقارنة باتساع الكارثة.

وهذا يُظهر لاشك أن الإسرائيليين استفادوا كثيرًا من درس حرائق غابات الكرمل في شمال فلسطين المحتلة عام 2010م، التي أدت لموت 44 إسرائيليًا أغلبهم من حراس ونزلاء سجن الدامون القريب من مركز الحرائق في حينها.

وما أشد بؤس المقارنة بين إدارة الأزمة لديهم ولدى الغالبية العظمى من أجهزتنا ودولنا.

شخصيًا؛ أتابع الأخبار بقلق خوفا من امتداد النيران إلى مناطق الضفة الغربية الفلسطينية، أو مناطق تركز عرب الداخل الإسرائيلي، أو السجون التي تحتوي على الغالبية من أسرانا.. إذ أشك أن يكون حظ هؤلاء وافرا في إدارة الأزمة وحماية الأرواح والممتلكات.

وسواءٌ كان الحدث وامتداده طبيعيًا، أو بفعل فاعلين اختاروا هذا التوقيت عبثًا أو تدبيرًا، أو كان كلا الأمرين صحيح، فالحدث وردود الفعل عليه تحمل الكثير من المعاني.


حديث الانتقام الإلهي ليس في صالحنا

سارعَ الكثيرون إلى تفسير هذا الحدث بالانتقام الإلهي من إسرائيل التي مرَّر برلمانها مؤخرًا قانونًا يمنع الآذان في الأرض المحتلة!

إن أية مقارنة بين جرائم إسرائيل ومذابحها ضدنا، ومذابح أنظمتنا القمعية ضدنا، ستصب إنسانيًا في مصلحة إسرائيل قطعًا

أزعم أنني -وكل البشر- غيرُ مؤهل للتدخل في المقادير الإلهية أو الاطلاع عليها. ولذا فأنا على الحياد من منطق هؤلاء. لكن إذا أخذنا هذا المنطق على امتداده وأقرَرْنا بصوابه، فالأولى بالانتقام الإلهي بلادٌ وإن صدح الآذان في ربوعها صوتًا، فإنه لا يُجاوز الحناجر، وترتكب تحت أرضها وسمائها من الكبائر الجسيمة ما تكون الجرائم الصهيونية صغائرٌ في حضرتها.

أليس الأولى بنقمة المنتقم الجبار من سارعوا إلى نجدة العدو الصهيوني، بينما بنو شعوبهم يظلون يحترقون أو ينزفون لساعات في حوادث صغيرة قبل أن تصلهم النجدة الهزيلة بعد فوات كل أوان؟ ومن هؤلاء من هم أيضًا يد إسرائيل وعينها في إحكام الحصار على قطاع غزة المقاوم خدمة لأسيادهم، وتأمينًا لعروشهم.

أليس أحق بضربات القدر، من أنفقوا مئات المليارات من الدولارات من المال العربي لإجهاض الربيع العربي، وإن كان الثمن إحراق الأخضر واليابس، وقتل عشرات الآلاف، واعتقال أمثالهم، وتشريد أضعافهم في نواحي الأرض، وإخراج ثلاث دول عربية على الأقل من الخدمة لتكون عبرة لشعوبهم إن فكرت أن تقول لا للعُصب الحاكمة التي تبدِّد ثرواتهم وكرامتهم دون حق أو عقل؟

أليس أجدر بالويل والثبور وعظائم الأمور من يرون أن مقاومة إسرائيل والتصدي لمشروعها لابد أن يبدأ أولًا بتركيع شعوبهم وإذلالها، وسوقها إلى حرب طائفية مجنونة، وإفناء حلب وكل مدينة تعارضهم من الوجود، ويستنصرون على شعبهم بالمحتل الروسي المجرم؟ بينما كثيرًا ما مارس هؤلاء ضبط النفس أمام اعتداء إسرائيل عليهم، لكنهم يقصفون العَُّزل المعارضين لهم في الداخل بالطيران والمدفعية.

إن أية مقارنة بين جرائم إسرائيل ومذابحها ضدنا، ومذابح أنظمتنا القمعية ضدنا، وجرائمنا ضد بعضنا البعض عموما، ستصب إنسانيًا في مصلحة إسرائيل قطعًا. ويبقى فارق جوهري،أن جرائم إسرائيل ضد عدو خارجي بالنسبة لها.


عصر ذهبي للكيان ولاشك

لاشك أن إسرائيل ستتجاوز هذا الموقف الراهن في غضون أيام أو أسابيع على الأكثر، لتواصل استمتاعها بعصرها الذهبي الحالي. ولم لا يكون عصرًا ذهبيًا، وكل الأعداء الحقيقيين والمحتملين لإسرائيل يتقاتلون في جنون، ويفني بعضهم بعضًا!

حقٌّ لإسرائيل الأنجح إداريًا وديموقراطيًا وعلميًا وتقنيًا وسياسيًا وعسكريًا أن تتشفى فينا حتى الثمالة. وأن تتربَّع باسمةً على عرش النشوة والانتصار..

الربيع العربي الذي ارتعدت فرائصها منه بعد أن كاد يقلب طاولة المعادلات والتوازنات في المنطقة تمامًا، تحول إلى صيف مُحرق تأكل فيه قوى الأمة بعضها البعض. وتحولت آمال الشعوب فيه إلى آلام وإحباط واستسلام.

حلم إسرائيل بإشعال حرب شاملة طائفية -أو متدثرة بالطائفية- بين السنة والشيعة في المنطقة تكسر عظامها، وتبيد ما بقي من قوتها، وتعيد رسم خرائط المنطقة، وتفتيت ما تفتَّت فيها، لتكون أكثر مناسبة لمصالح إسرائيل ومن وراءها، أصبح أمرًا واقعًا في اليمن والعراق وأم المعارك في سوريا الذبيحة.

الجيش المصري الذي أذل كرامتها منذ أربعين عامًا في حرب رمضان/أكتوبر/تشرين الأول 1973م، والذي لم ينجح مبارك على مدار ثلاثين عامًا في تغيير عقيدته القتالية المعادية لإسرائيل، نجح السيسي في أقل من ثلاث سنوات في جعله حارسًا لأمن إسرائيل، وغير عقيدته إلى عنوان الحق الذي لا يراد به إلا الباطل “الحرب على الإرهاب”. ويقوم بتفريغ سيناء من سكانها في جنون أمني وسياسي، ويعمل بشكل دؤوب على قطع ما تبقى لغزة من شرايين مصرية تحت رمال سيناء. وتحول لدى الكثيرين إلى آداة قمع ذات سجل لا يقل سوءًا في هذا المجال عن الشرطة سيئة الذكر.

الشعب المصري أصبح كالمغشي عليه من الموت تحت ضربات القمع وغلاء المعيشة وخوف المجهول، وحوّل سدنة الإعلام بوصلة كراهيته إلى فلسطين ومقاوميها بدلا من العدو الصهيوني الأزلي.

الجيش السوري شريك حرب رمضان/أكتوبر/تشرين الأول، والذي أذل دباباتها في سهول البقاع في اجتياح 1982م، وكان سندًا للمقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل وحلفائها في اليمين اللبناني، وكان التخطيط يجري على قدم وساق في واشنطن وتل أبيب لكيفية القضاء عليه ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد.

تكفَّل (السفاح) بشار نيابة عنهم بتفتيته وتدميره وتحويله إلى ميليشيات تخضع لإدارة الروس والإيرانيين عندما لم يضبطْ نفسه على من ثار على ظلم نظامه من شعبه، ووجهه لسحق الناس. فيتحول على الأقل ثلثي الشعب السوري المناهض لإسرائيل في مجمله إلى ملايين من اللاجئين، ومئات الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى.

إيران التي أوجعت إسرائيل بشكل مباشر وغير مباشر في لبنان 2006م وغزة 2008 و2012 وحتى 2014. منهمكة يوميًا في الخوض في دماء السوريين واليمنيين والانسياق أكثر وأكثر في الجنون الطائفي العارم في المنطقة. ويكاد الكثيرون في العالم العربي خاصة بين السنة، يعتبرونها أسوأ من إسرائيل. ولو قصفتها إسرائيل باكرًا بالقنابل النووية، لشاهدنا الكثير من الاحتفالات لدى هؤلاء!

مشاريع الإسلام السياسي التي كانت تعتبرها إسرائيل خطرًا استراتيجيًا وجوديًا عليها، تتقلب الآن بين الفشل والدمار والحصار والتيه.

حزب الله الذي أذل الميركافا في 2006م، يستعرض في 2016 بدبابات أمريكية قديمة في شوارع مدينة القصير السورية التي حرَّرها من سكانها الذين قالوا لا لقاتلهم. ويتلقى يوميًا عشرات من التوابيت، ليس من ساحات الخيام وبنت جبيل وغيرها من علامات الجنوب اللبناني الباسل، إنما من حلب وحماة وحمص!

منظمة التحرير الفلسطينية التي قديمًا قارعت إسرائيل في مخيمات الجنوب اللبناني وفي بيروت في السبعينات والثمانينات، تحولت إلى سُلطة قمعية فاسدة لا همّ لها إلا قمع المقاومين وإسكات كل صوت معارض. ولا صوت يعلو عندها الآن فوق صوت الصراع على سلطة اللاشيء بين عباس ودحلان!

حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية محاصرة في غزة، وأصبحت بين مطرقة إسرائيل وأذنابها وحصارهم المستمر لأكثر من 10 سنوات تخللتها ثلاثة حروب مؤلمة لتركيع المحاصَرين، آخرها وأقساها لم يكد يمر عليها عاميْن ، وسندان “الممانعين” من أتباع بشار وحلفه الذين عاقبوها -خاصة حماس- على موقفها الأخلاقي بعدم دعم حليفهم بشار في حربه على ثورة سوريا.

تركيا التي كادت تتحول إلى الجانب المعارض لإسرائيل بعد أزمة سفينة «مافي مرمرة» وشهدائها الثمانية في 2010م، وكادت تتخلص من مواريث الصداقة الحميمية مع الكيان لعشرات السنين، تحاول الآن بضغط الوقائع المتلاحقة داخليًا وخارجيًا أن تعيد المياه إلى مجاريها مع الكيان بشروط ميسّرة.

وسرطان داعش الخبيث يزيد العراق وسوريا خرابًا على خراب، ويلتهم أرواح الجميع سوى الصهاينة! والغالبية العظمى من ضحاياه من أبناء هذه الأمة. ويزيد الجنون الطائفي الذي ترعاه إسرائيل اندلاعًا وامتدادا.

لمن الحق في التشفي إذن؟


بقَيْعات من نور

الشعب المصري أصبح كالمغشي عليه من الموت تحت ضربات القمع، وحوّل الإعلام بوصلة كراهيته إلى فلسطين ومقاوميها بدلا من العدو الصهيوني الأزلي.

رغم سوداوية المشهد وازدياده قتامة في كل لحظة، تبقى بعض العلامات الإيجابية التي يمكن تلمُّسها من مشهد الحريق الإسرائيلي الراهن.

أولًا: رد الفعل العفوي الشامت لدى الملايين من أبناء الأمة، يدل على أن اللاوعي العربي والمسلم ما زال مشبّعًا بكراهية إسرائيل. ومازال -وسيظل- هذا الكيان العدو الأول والأخير لأكثرنا، رغم تجرؤ المطبِّعين، والقصف الإعلامي الممنهج لتسميم الوعي ومحاولة تحريف بوصلة العداء بعيدًا عن إسرائيل.

ثانيًا : أثبتت موجات الشماتة في مصاب إسرائيل والتي شملت أناسًا من مختلف أحزابنا وطوائفنا، أنه لا اجتماع لهذه الأمة إلا على جثة إسرائيل، وأنه لا حل إلا بكسر الجنون الطائفي وسعار الثورات المضادة التي تقضي على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ، ليلتف الجميع حول قضيتنا المركزية.. فلسطين وقدسنا. وتنقية الوعي هي الأولوية الأولى لتحقيق كل هذا.

ثالثًا : رغم أن إسرائيل عَلَت عُلوًا كبيرا، تأتي مثل هذه الحوادث لتثبت الهشاشة البنيويَّة لكيانها الغاصب. فهذه الحرائق أظهرت إسرائيل وكأن جسدها كله يحترق.

وقد أعلنت سلطات إسرائيل اليوم القبض على 13 مشتبهًا بهم في الإشعال العمدي للحرائق. وبدأت الألسنة في إسرائيل تلوك مصطلح «إرهاب الحرائق» تعبيرًا عن الحدث الطارئ.

وفي رأيي إن ثبت تدبير هؤلاء أو غيرهم للأمر، فإن كيانًا ينجح العشرات أو حتى المئات في إغراق أكثر من نصفه بدخان الحرائق في بضع ساعات، فيتحول الأمر إلى كارثة على مستوى الدولة، لمن العار أن يظل مهيمنًا علينا كل هذه السنين.

قل هو من عند أنفسكم..