تقع إسرائيل جغرافيًا في الشرق الأوسط، لكنها تنتمي ثقافيًا وسياسيًا إلى الغرب.
شمعون بيريز – رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق

لطالما رددت الأوساط الإعلامية والسياسية الإسرائيلية، مقولة مفادها أن إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهو ما توازى مع إطلاق ثعلب السياسة الإسرائيلية الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز مقولته الشهيرة: «إن إسرائيل تقع جغرافيًا في الشرق الأوسط لكنها سياسيًا وثقافيًا تقع في الغرب»، قاصدًا بها أن النظام السياسي في إسرائيل يحظى بنفس معايير الحرية والنزاهة، وعدم تحكم أو تأثير الجيش وجنرالات العسكر فيه، على غرار ما هو في الغرب.

ورغم هذا، فإن حقيقة المشهد السياسي الإسرائيلي تحمل صورًا ووجوهًا مختلفة عما يتردد؛ إذ تبدو سيطرة وتحكم جنرالات الجيش واضحه في تحريك هذا المشهد وتوجيهه وتشكيله، وهو ما يتضح بشكل جلي من خلال التدقيق في شكل الخريطة الحزبية والسياسية قبيل الانتخابات العامة الإسرائيلية المزمع عقدها مطلع أبريل/ نيسان المقبل، إذ تبدو سيطرة الجنرالات واضحة، لا ريب.


سؤال العسكري والسياسي في إسرائيل

هناك علاقة إشكالية تربط بين الجيش والسياسية والجمتع في إسرائيل بشكل عام؛ فرغم أن القانون الإسرائيلي يؤكد تبيعة الجيش إلى المستوى السياسي، بحكم القانون الذي تم سنه عام 1948، فإن الجيش في إسرائيل كمفهوم وكمؤسسة يحظى بمكانة اجتماعية وسياسية عالية جدًا، فهو بوتقة الصهر في إسرائيل، والمفهوم الوحيد الذي يجتمع عليه شتات يهود إسرائيل داخلها.

ومن الناحية التنظيمية والإدارية، فرغم تبعية رئيس الأركان الذي هو قائد الجيش في إسرائيل لوزير الدفاع مباشرة الذي يمثل المستوى السياسي، وليس شرطًا أن يكون من العسكر، فإن المستوى العسكري في كثير من الحالات والظروف تكون له الغلبة وسيادة القرار نظرًا لقلة الخبرة العسكرية للمستوى السياسي ووزير الدفاع، مما يؤدي إلى سيطرة الرأي العسكري،كما حدث عام 1967 حينما هدد أحد كبار الضباط المستوى السياسي بتقديم استقالته في حالة عدم الشروع في الحرب فورًا.

كل ما سبق، جعل دور المؤسسة العسكرية في إسرائيل لا يقتصر على الجيش والإجراءات العسكرية وحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل كذلك التأثير والتدخل في مؤسسات سياسية ومجتمعية،وصلت لدرجة التأثير المباشر في مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني التي هي على صلة وثيقة بالحياة السياسية في إسرائيل لاسيما في ظل غياب رقابة داخلية أو خارجية على الجيش. مما دفع الكثير من المتخصصين لوصف ظاهرة التداخل بين السياسي والعسكري في إسرائيل بالقول، إن إسرائيل هي (الدولة القلعة) أو (الدولة العسكرية)، أي أن نموذج الحكم فيها سياسي هو نموذج (المركب الصناعي العسكري) و(النموذج الوظيفي)، الذي يعكس مدى تأثير العسكري في المستوى السياسي، وذلك رغم إعلان بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل أن الجيش لا يقرر السياسة ولا النظام ولا القوانين ولا القرارات المتعلقة بالحرب والسلام.

ويمكن القول، إن بروز ظاهرة تدخل المستوى العسكري في الحياة السياسية، بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، حينما طرح يورام بيري -أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب- مفهومًا مختلفًا عن علاقة الجيش بالسياسية في إسرائيل، معتبرًا أن دوره لا يقتصر على الأمن والدفاع وفقط بل تقديم مشورات أمنية للمستوى السياسي، وهو ما أدى مع الوقت إلى تغول دور الجيش في الحياة السياسية بإسرائيل، فأصبحت له مهام أخرى لعل من أهمها الدفاع عن سياسات الحكومة أمام الرأي العام.

لم يكن غريبًا إذن، أن يكون دخول العسكر في إسرائيل إلى عالم السياسة وخوض غمار الانتخابات من الأمور التي وسمت عالم السياسة في إسرائيل، فدخول العسكريين في إسرائيل إلى عالم السياسة وخوض غمار الانتخابات لم يكن وليد لحظة الانتخابات المرتقبة، بل إنها ظاهرة قديمة تعود لزمن قيام إسرائيل عام 1948، رغم بروزها بقوة في العقدين الماضيين. فمن الناحية التاريخية هناك ثلاثة رؤساء سابقين للوزارة كانوا من الجنرالات، تحرروا من الجيش والتحقوا بعالم السياسة، وهم إسحق رابين، خامس رئيس وزراء في إسرائيل (1992-1995)، وإيهود باراك، عاشر رئيس وزراء لإسرائيل (1999-2001)، وأريئيل شارون، رئيس الوزراء الحادي عشر في إسرائيل (2001-2006).

كما يوجد حاليًا 20 رئيس أركان جيش سابق، 13 منهم، أي ما نسبته 65%، دخلوا عالم السياسية والتحقوا بالأحزاب وبعضهم صاروا أعضاء بالكنيست والحكومة. في حين أن 12 جنرالًا منهم التحقوا بساحة الانتخابات البلدية والمحلية، ومن أبرزهم يعقوب دوري، أول رئيس أركان لجيش إسرائيل الذي أصبح نائبًا لرئيس بلدية حيفا.

ومن بين هؤلاء الجنرالات الذين كانوا رؤساء لأركان الجيش الإسرائيلي، هناك 10 منهم تولوا حقائب وزارية، وواحد منهم وهو تسيفي تسور أصبح مساعدًا لوزير الأمن، أما الجنرالات العاديين الذين دخلوا عالم السياسة في إسرائيل، فيببلغ عددهم 24 جنرالًا، كما يوجد كذلك ثمانية عسكريين برتبة عميد، وكان أكثرهم شهرة وتحقيقًا لانتصارات سياسية، الرئيس الإسرائيلي السابع عزرا وايزمان، وكذلك أريئيل شارون الذي تولى منصبي رئيس الوزراء ووزير الدفاع.


تحالف عسكري

مع قرب إجراء الانتخابات الإسرائيلية العامة المقبلة في التاسع من أبريل/ نيسان، بدأ نجم العسكريين في المشهد السياسي يبزغ مرة أخرى، وذلك بسبب ظهور الجنرال بني جانتيس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق مع رئيس أركان الجيش الأسبق الجنرال جابي أشكنازي، اللذَّين قاما بتكوين حزب «مناعة إسرائيل»، ودخلا به في تحالف حزبي تحت شعار (أزرق وأبيض) – دلالة على ألوان علم إسرائيل- يضم التحالف حزب «تيلم» بزعامة رئيس الأركان ووزير الأمن الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، وحزب «يوجد مستقبل» بزعامة السياسي يائير لابيد، كما قام هذا التحالف بدعوة الجنرال المتقاعد إيهود باراك، رئيس الوزراء ووزير الأمن الأسبق، للانضمام إليه.

وبنظرة سريعة على هذا المشهد السياسي قُبيل الانتخابات، نرى بوضوح تزاحم عدد كبير من الجنرالات فيه، لدرجة أن هذا التحالف «أزرق أبيض» بات يطلق عليه في الساحة الإعلامية الإسرائيلية «تحالف رؤساء الأركان السابقين»، الذين دخلوا في تحالف سياسي متأثرين بتزايد حدة الخطاب الأمني والعسكري الذي يسيطر على الساحة الإسرائيلية حاليًا.

ورغم أن «أزرق وأبيض» تحالف سياسي لخوض الانتخابات المقبلة، فإنه يبدو كما لو كان تحالفًا عسكريًا، ليس لأن من يقوده هم من جنرالات الجيش المتقاعدين، لكن لكونه يعتمد على الوعود بتحقيق إنجازات عسكرية، ويتباهى بالإنجازات العسكرية السابقة التي حققها قادته، حينما كانوا في صفوف الجيش.

فقد اشتمل البرنامج الانتخابي لهذا التحالف على الوعد بالقضاء عسكريًا على مشروع حل الدولتين السياسي للصراع الإسرائيلي – العربي، متعهدًا بأن تكون أي عملية سلمية مستقبلية مع الفلسطييين محل استفتاء شعبي قبل إقرارها وتنفيذها، والعمل عسكريًا على تعزيز وحماية الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، مع التأكيد على أنه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من الضفة الغربية مثلما فعلت إٍسرائيل عام 2005، إضافة إلى زيادة الحماية العسكرية والأمنية لمستوطنات ما يعرف بغلاف غزة، المتاخمة للقطاع، والحفاظ على مفهوم أو مصطلح «القدس الموحدة» كعاصمة أبدية لإسرائيل.

وقد علقت عدد من التحليلات السياسية الإسرائيلية على هذه الظاهرة المتعلقة بعسكرة المشهد السياسي الإسرائيلي قُبيل انتخابات التاسع من أبريل/ نيسان، بأنها مجرد إعادة ترتيب للخريطة الحزبية الإسرائيلية، لكن بصبغة عسكرية واضحة وصريحة.

ففي تقدير موقف صادر حديثًا عن المعهد الإٍسرائيلي للديمقراطية، تحت عنوان «إسرائيل تعود إلى الكتلتين»، أشار إلى أن ظهور كتلة «أبيض وأزرق» مقابل ظهور كتلة الليكود، ناتج عن الفروقات الاجتماعية بالداخل الإسرائيلي، مما أدى إلى فراغ سياسي استدعى بزوغ نجم العسكريين مرة أخرى على الساحة السياسية، مما يعني زيادة حدة التطرف والتشدد في التوجهات السياسية الإسرائيلية مستقبلًا.


الخطاب العسكري

بعد أن وجد أن الخناق يشتد عليه من قبل الجنرالات الذين ملؤوا الساحة السياسية، لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي وزعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو إلى استدعاء خطاب عسكري، خلال حملته الانتخابية لمواجهة سطوة العسكر التي تهدد إمكانية بقائه في منصبه.

استخدم حزب الليكود صورًا للجنود الإسرائيليين خلال عمليات لهم في قطاع غزة وصورًا أخرى وهم برفقة نتنياهو، في محاولة من الحزب ونتنياهو ليوصلوا للناخب الإسرائيلي أن نتنياهو قادر على حماية إسرائيل وأمنها، وليس للجنرالات أفضلية في هذا، وهو ما أدى إلى أن يُصدر القاضي حنان ميلتسر رئيس لجنة الانتخابات قرارًا يمنع حزب الليكود من استخدام هذه الصور، في محاولة منه لوضع المؤسسة العسكرية على الحياد في هذه الانتخابات وعدم استخدام الجنود للدعاية السياسية.

مع ذلك، لم يتوان نتنياهو عن محاولاته تقديم نفسه في صورة القائد العسكري، حتى أفصح أكثر من مرة عن هجمات عسكرية إسرائيلية على أراضي سوريا، وهو ما أدى إلى تصاعد انتقادات قادة الجيش له، باعتبار أن ذلك يأتي في إطار استغلال سياسي لعمليات عسكرية، ومع ذلك نشر نتنياهو شريط فيديو يتباهى فيه بإنجازات الجيش الإسرائيلي، لكنه يظهر فيه وحده بعد منع ظهور الجنود بأي دعاية انتخابية، مشيرًا إلى أنه لا يفهم أسباب ودواعي هذا الحظر.