لن تغير الانتخابات الإسرائيلية التي أجريت مؤخرا شيئا في المنطقة وفي الصراعات التي تواجهها، لأنه لن تكون هناك أي تغييرات جوهرية لا فيما يتصل بالسياسات الإسرائيلية الداخلية تجاه العرب ولا فيما يتعلق بسياساتها تجاه ما يسميه البعض «مسيرة التسوية» مع الفلسطينيين والعرب.

ولتفسير هذا الأمر بشيء من العمق لابد لنا أن نجيب عن السؤال التالي: هل الانتخابات الإسرائيلية مثلها مثل بقية انتخابات الدول الديمقراطية الأخرى؟ ولماذا؟

الإجابة هنا: لا. الانتخابات الإسرائيلية ليست كبقية الانتخابات الديمقراطية التي تجري في دول أخرى، ولا الدولة التي تجري فيها الانتخابات كبقية الديمقراطيات المعاصرة.

يصف بعض الأكاديميين الغربيين والإسرائيليين الديمقراطية الإسرائيلية بـ«الديمقراطية الإثنية» التي تميز ضد كل ما هو غير يهودي

لقد اختارت الحركة الصهيونية (وهي حركة استعمارية استيطانية أرادت حل المشكلات التي كانت تعاني منها بعض الأقليات اليهودية في أوروبا على حساب شعوب أخرى) الشكل البرلماني للنظم الديمقراطية لكن بعد تهيئته للعمل مع أهداف الحركة الصهيونية. ولهذا فالديمقراطية توصف عند بعض الأكاديميين الغربيين والإسرائيليين «بالديمقراطية الإثنية»، أي ديمقراطية اليهود فقط التي تميز ضد كل من هو غير يهودي بطرق ومستويات مختلفة (دستورية وقانونية ومؤسسية وعلى مستوى الممارسات والسياسات).

بل وتميز «الديمقراطية الإسرائيلية» بين اليهود أنفسهم، فهناك درجات داخل الجماعات اليهودية التي هاجرت إلي فلسطين أو التي ولدت هناك. وهناك قيود مختلفة أمام حرية تشكيل الأحزاب أو الحصول علي مقاعد في لجان البرلمان أو الحصول علي المعلومات أو حرية العمل الصحافي. وهذه الأمور كلها تتناقض مع أبجديات أي ديمقراطية حقيقية.

ونظرا لأن تناقضات الجماعات اليهودية التي أقامت الحركة الصهيونية ثم الدولة الإسرائيلية تناقضات كبيرة سياسيا (علمانيون ومتدينون، يسار ويمين)، ومذهبيا (مذاهب يهودية كثيرة ومتصارعة)، وطبقيا (طبقات يسارية وطبقات من الأثرياء)، وإثنيا (جماعات يهودية من سلالات متعددة من الغرب والشرق)، ولغويا (تتعدد لغات الجماعات اليهودية بتعدد الدول التي جاءت منها)، نظرا لكل هذه التناقضات فقد اختارت الحركة الصهيونية الديمقراطية البرلمانية وآلياتها المختلفة حتى يمكن لهذه الجماعات المختلفة إدارة اختلافاتها الداخلية بطرق سلمية، وتم استبعاد فكرة النظام الرئاسي.

تعتمد الانتخابات الإسرائيلية علي نظام القائمة النسبية الذي يسمح بتعددية حزبية مقيدة لضمان تمثيل كل الجماعات والفئات

ومن هذه الآليات؛ آلية الانتخابات مع نظام القائمة النسبية وعلى أساس أن البلاد كلها دائرة واحدة، والسماح بتعددية سياسية وحزبية مع تقييدها بكثير من الوسائل . هذه الآلية تضمن تمثيل كل الجماعات والفئات وتضمن عدم سيطرة فئة واحدة علي البقية أو وصول حاكم قوي يمكن له أن يغير من المعادلات القائمة.

لكن الأهم – والذى يجب فهمه جيدا – هو أن هناك ثوابت جامعة بين هذه الجماعات أو ما يسمى أحيانا “الإجماع الصهيوني” والذي يدور حول الفكرة الجوهرية للصهيونية (استيطان الجماعات اليهودية في فلسطين وإقامة دولة لهم هناك).

ولولا هذا الهدف الجوهري أو الإجماع الصهيوني العابر للاختلافات الدينية والمذهبية والانتماءات الأيديولوجية والسياسية والفوارق الاقتصادية والاجتماعية واللغوية والإثنية لما نجحت الحركة الصهيونية في الأساس.

وفي واقع الممارسة، وحتى يمكن إخفاء التناقضات التي قامت عليها الحركة ومعالجة كافة الاختلافات التي تحول دون الوصول إلي الهدف، تطلب هذا الإجماع الصهيوني الكثير من الأمور، التي تمثل في واقع الأمر أعمدة الصهيونية، وهي سبعة على الأقل:

إدارة الاختلاف بين الجماعات اليهودية بطرق تحول دون تفجر الاختلافات وتفاقمها وإيجاد عناصر جديدة لهوية جديدة. ومن هنا جاءت الديمقراطية بشكلها المنحرف المشار إليه، بجانب آليات أخرى أهمها إحياء اللغة العبرية وجعلها اللغة الرسمية، وإنشاء جيش قوي ومؤسسات دولة أخرى تمثل جميعها بوتقة للصهر وتشكيل هوية جديدة.

إقامة نظام مزدوج للدين. فالدولة تسيطر على المؤسسات الرسمية للدين وتقيم ما يعرف في أدبيات السياسة بـ«الدين المدني» وذلك للاستفادة من قوة الدين وطقوسه وقيمه في خدمة المشروع الصهيوني، مع السماح في نفس الوقت للجماعات اليهودية المختلفة مذهبيا في إقامة مؤسساتها ومدارسها الدينية. وقد تم هذا الأمر عبر اتفاقية رسمية ـ سميت اتفاقية الوضع الراهن عقدت قبل قيام الدولة ذاتها عام 1947 ـ ويستمر هذا الأمر عبر سلسلة طويلة ومستمرة من المساومات وتبادل المنافع المتبادلة بين الجماعات المتدينة وغير المتدينة.

الترويج بوسائل مختلفة، ومن خلال كافة المحافل الدولية والأكاديمية والإعلاميةـ للهدف الصهيوني من خلال مجموعة من الأساطير والمغالطات التي تزيف الحقائق على الأرض وتتوجه لكل فئة مستهدفة على حدة: كمقولتي «أرض الميعاد»، و«شعب الله المختار»، لجذب الجماعات المتدينة من كل أنحاء العالم ـ أساطير «فلسطين أرض صحراء لشعب بلا أرض»، و«أسطورة الشعب اليهودي»، و«أسطورة اللاسامية»، و«مبدأ القوميات»، لليهود وللمجتمعات الغربية لتبرير الهجرة وتلقي الدعم الخارجي، وأسطورة «بيع الفلسطينيين لأرضهم»، و«أسطورة الفرص الضائعة» لتبرير الاستيطان وتحميل العرب المسؤولية. وغير ذلك من أساطير ومغالطات تاريخية ودينية.

قتل أهل فلسطين الأصليين، أو طردهم وتهويد البلاد من ناحية الهوية والتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، ولهذا دمرت مئات القرى والمدن، وقتلت وشردت مئات الآلاف من الفلسطينيين ومن العرب، وتم تهويد الكثير من المواقع والمعالم. وهذا يتطلب جيش قوي وعسكرة تامة للمجتمع.

التحالف مع القوى الدولية الكبري للحصول علي دعم دولي سخي وقوي ودائم منها وحمايتها من الإدانة.

الإبقاء علي حالة العداء مع العرب من ثوابت السياسة الإسرائيلية لاستمرار حالة العسكرة الدائمة والتحالف مع الخارج

الإبقاء علي حالة العداء مع العرب، ووجود تهديد دائم للدولة والإبقاء علي التفاوت والاختلاف بين هذا المشروع الاستعماري وبين جيرانه العرب. وذلك لتبرير كل ما سبق واستمرار حالة العسكرة الدائمة والتحالف الدائم مع الخارج. وقد استطاع هذا الكيان مد تحالفاته للنخب العربية الحاكمة حتى قال أحد رؤساء الوزراء السابقين (ايهود أولمرت) تعليقا علي انتقاد الحكام العرب لممارسات إسرائيل أن الإسرائيليين لا يسمعون مثل هذه الانتقادات من الحكام العرب في الجلسات الخاصة.

عدم قابلية هذا الكيان الاستيطاني العنصري بحالته الراهنة لأي عملية تسوية سلمية مع جيرانه. فأعمدة الصهيونية المشار لها تثبت استحالة قيام تسوية تاريخية بين الإسرائيليين والعرب في ظل بقاء هذا الجوهر الإسرائيلي العنصري من جهة، وتؤكد محاربة الإسرائيليين وحلفائهم لأي محاولات من العرب لإقامة حكومات مدنية وشرعية ومنتخبة بإرادة شعبية وتحقق مصالح الشعوب من جهة أخرى.

ومجمل القول إذا هو أن هذه الانتخابات لن تغير من جوهر الأمور شيئا، وسيأتي ائتلاف حكومي جديد لن يكون راغبا أو قادرا علي إدخال أي تغيير حقيقي فيما يتصل بالعلاقات مع العرب كما يتصور البعض، وسيستمر نفوذ الأحزاب الدينية بشكل أو بآخر لتحقيق المعادلة التي توازن بين الدين والسياسة، وسيستمر نفوذ الإسرائيليين في دوائر صنع القرار في العواصم الدولية المؤثرة نظرا لعوامل القوة والنفوذ التي يمتلكها الإسرائيليون هناك أو نظرا لطبيعة الأنظمة السياسية “الديمقراطية” القائمة في تلك العواصم. إن فهم هذا الجوهر الصهيوني وأعمدته المختلفة هو المدخل الحقيقي لمواجهته وهزيمته.