الشارع الإسرائيلي يغلي بسبب رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تعديل النظام القضائي. مظاهرات عارمة تجوب الشوارع، لم تشهد لها إسرائيل مثيلًا مسبوقًا. لكن في خضم تلك المعارضة الشرسة، وبدلًا من محاولة الصمت وتمرير الأزمة بسلام، فاجأت الحكومة اليمينية الجميع بالتصديق على قرار أشد استفزازًا وغرابة. إنشاء جهاز أمني جديد، الجهاز إعداد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. هذا الاسم منفردًا أُدين سابقًا بـ8 تهم، من بينها دعم منظمة إرهابية.

ليس من الدقيق القول إن إنشاء الجهاز جاء رغم المظاهرات، بل الأدق أن نقول إن المظاهرات من جعلت إنشاءه ممكنًا. فموافقة الحكومة على إنشائه جاءت ضمن مقايضة سياسية مع نتنياهو لتأجيل التصويت على مشروع قرار تعديلات القضاء في مقابل أن يصدّق على إنشاء وميزانية الحرس الوطني الإسرائيلي.

إسرائيل لا تعاني عجزًا في عدد أو نوعية الأجهزة الأمنية التي تمتلكها. لهذا يكون من البديهي التساؤل حول دوافع إنشاء جهاز أمني جديد. خصوصًا حين تكون المعارضة الإسرائيلية نفسها هي من تصف الكيان الوليد بأنه كيان مسلح ذو طبيعة خاصة، وأنه ميليشيا خاصة لابن غفير والمتطرفين. كما أنه من المنطقي أن نتساءل حول دلالة هذا الجهاز الجديد على سلوكيات قوات الاحتلال، العنيفة أصلًا، تجاه الفلسطينيين.

حراس إسرائيل الجُدد

رغم أن الموافقة على الجهاز جاءت حديثًا، فإن الفكرة ليست كذلك. منذ قرابة عامين كانت إسرائيل قد دخلت في مواجهات مع الفلسطينين في مناطق الخط الأخضر. تلك الحرب التي عُرفت بحرب الأبراج قامت فيها إسرائيل بتدمير أكثر من 100 كيلو متر من الأنفاق التابعة لحماس، وفق تصريح الجهات الإسرائيلية، كذلك قالت إنها دمّرت في تلك الحرب البنية التحتية لحماس.

كانت تلك المواجهات في مايو/ أيار 2021، سريعًا في يونيو/ حزيران وافق نفتالي بينيت، رئيس الوزراء آنذاك، على إنشاء الحرس الوطني الإسرائيلي. أُلحق الجهاز بالشرطة الإسرائيلية، باعتباره مجرد ذراع مساندة للشرطة الرسمية. لكن جاءت الانتخابات المبكرة لتعيد تلك الفكرة إلى الأدراج قبل دخولها حيز التنفيذ.

لكن عاد اليمين لاستدعاء المارد في يناير/ كانون الثاني 2023، قبل تشكيل الحكومة الجديدة. بن غفير أعلن أن ثمة عملية عسكرية إسرائيلية كبيرة على الأبواب، مثل عملية حارس الأسوار التي جرت في 2021. وقال بن غفير إن خبراء أبلغوه عن احتمالية هجوم كبير من المقاومة ضد إسرائيل، وسواء كانت إسرائيل ستهاجم أو ستدافع فإنها بحاجة لمتطوعين جدد. هنا ذكر بن غفير اسم الحرس الوطني مرة أخرى، حيث أكد أن المتطوعين الجدد سيكونون حرس إسرائيل الجدد. وأعلن في نفس السياق زيادة رواتب الشرطة بنسبة تصل إلى 40%، متحدثًا عن استقالة 1030 فردًا من الشرطة الإسرائيلية عام 2022 فقط.

الحرس الوطني، أو المتطوعون الجدد، تعهد الرجل أن يُدّعم الشرطة بـ4 آلاف عنصر منهم. ويحتفظ لنفسه بكتيبة متطوعين تبلغ 10 آلاف فرد، على أقل التقديرات، يمنحهم رخصة استثنائية لحمل السلاح. هذا الحرس الجديد سيتكون ابتداءً من قوات حرس الحدود البالغين 8 آلاف جندي، و46 سرية احتياط تضم 5 آلاف جندي.

وفي حالة معارضة هؤلاء الجنود، أو خروج أحدهم من الخدمة، فسيعيد الحرس الوطني تجنيده تحت مسمى التطوع، ومن ثم يحق لأي فرد في إسرائيل التطوع للانضمام لهذه القوة. التطوع سيكوّن 5 ألوية، تضم 2500 فردًا، على الأقل، مع وعد بإضافة 1800 وظيفة أخرى للحرس.

أهم من التعليم والصحة

هذه الوحدات هدفها المعلن أن تتيح للشرطة الإسرائيلية أن تتفرغ لمهامها العادية، من تلقي البلاغات وخلافه. لأن القوة الجديدة ستتكفل هي بما ليس تقليديًا، مثل حوادث الشغب أو حالات الطوارئ في حالات إطلاق النار أو عمليات الدهس. لهذا فإن الجهاز سيتبع نظريًا قائد الشرطة أيًا كان اسمه. لكن الواقع الحالي أن الجهاز سيكون مستقلًا تمامًا عن الشرطة. ويتبع رأسًا وزارة الأمن القومي التي يرأسها حاليًا بن غفير.

ربما تلك هي النقطة المستفزة للداخل الإسرائيلي. فوجود الجهاز تحت قيادة الشرطة الإسرائيلية كان عاملًا مطمئنًا بالنسبة لهم، لكن حاليًا باتوا في شك من حقيقة دور الجهاز. خصوصًا أن الحكومة الإسرائيلية بادرت دون تردد أو تشاور في اقتطاع نسبة 1.5% من ميزانية كافة الوزارت لتكوين ميزانية خاصة للجهاز. ما يعني أن الجهاز سيُولد بميزانية 111 مليون شيكل إسرائيلي، 32 مليون دولار أمريكي. تلك الميزانية ستُحول للجهاز مرة واحدة عند إنشائه، وبعد ذلك يحصل سنويًا على 17 مليون دولار أمريكي كميزانية خاصة. تلك الأرقام ستكون بجانب الميزانية الأصلية لوزارة الأمن القومي. التي تبلغ 9 مليارات شيكل سنويًا.

تلك الأرقام، والمسارعة في اقتطاعها من ميزانيات القطاعات الأخرى، تعيد طرح السؤال الملح حول طبيعة عمل الجهاز. بخاصة أن كافة التصريحات تستخدم مصطلحات الاضطرابات الوطنية، الأعمال العدوانية الكبرى، ويتم الاستشهاد دائمًا بأحداث فعلتها المقاومة الفلسطينية. ما يعطي تلميحًا، يصل إلى درجة الإقرار، أن الجهاز سيكون موجهًا ضد الفلسطينين فحسب. وتحاول الحكومة طمأنة المواطن الإسرائيلي أن عليه ألا يقلق من الجهاز أيًا كانت صلاحياته.

غير أن المهام المحددة للقوة الجديدة ستُعلن في غضون 90 يومًا، بعد مناقشة مشتركة من كافة الأجهزة الأمنية في إسرائيل. على شرط أن تنص تلك المهام على أن الحرس الوطني الإسرائيلي هو قوة ذات اختصاص ومؤهلة ومدّربة للقيام بمهام الردع السريع على المستوى العام، ومكافحة الإرهاب والجرائم التي تتم من منطلقات قومية. وأن يكون الجهاز هو الأداة الأولى المسئولة عن قمع الاحتجاجات والمظاهرات.

ميليشيا بن غفير

لكن مهما يوضع في توصيفات القوة الجديدة فإنها لن تغير من حقيقة أنها ميليشيا مسلحة تأتمر بأمر بن غفير، على حد وصف العديدين من الداخل الإسرائيلي. النائبة العربية في الكنيست الإسرائيلي قالت إنها عصابة مسلحة ممولة تخضع لوزير عنصري. مؤكدةً أن العرب، سواء كانوا مواطنين في إسرائيل أو فلسطينين، فإنهم أول المتضررين منه. ومن الأكيد أن المضي قدمًا في تشكيل هذا الجهاز سيؤدي إلى مزيد من البطش من قبل حكومة نتنياهو المتطرفة في حق الفلسطينيين.

إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، قال في تصريحات له إن هذا الجهاز وكونه تحت إمرة رجل أدين بقرابة 53 تهمة مجتمعين، معناه الاعتماد على مجموعة من المواطنيين للبطش بالفلسطينين. خصوصًا أن بن غفير معروف بمعاداته الشديدة للعرب، وارتكب العديد من المجازر، ويدافع باستماتة عن الإسرائيلين المتورطين في جرائم الكراهية.

هذا الجيش سيكون تحت إمرة أفينوعام إيمونا، المرشح الأبرز، الذي التقاه بن غفير. إيمونا عسكري حالي في الجيش الإسرائيلي. وهو بذلك يخالف قاعدة الجيش بعدم الاتصال بين قادة الجيش الإسرائيلي وكبار المسئولين دون موافقة مسبقة من أركان الجيش.

الجيش وجه اللوم لإيمونا بسبب ذلك. لكن الرجل سيتقاعد بعد 6 أشهر في كل الأحوال، لذا لم يبدُ مهتمًا بهذه البروتوكولات. إيمونا في أحد مقاطع الفيديو المسربة له يشجع جنوده على الابتسام والاستمتاع بقتل الفلسطينيين. وأنه أكد على جنوده ضرورة قتل العرب في أي هجوم حتى لو كانوا غير مسلحين أو يفرّون من ساحة المعركة. رغم أن تلك الرئاسة تبدو شرفية كثيرًا، فبن غفير هو المتحكم الأوحد، لكن حتى لو تُرك الأمر لإيمونا فلن يكون الأمر أقل سوءًا.

هذا الجهاز يكشف عن إسرائيل أكثر مما يكشف عن بن غفير أو نتنياهو. فإسرائيل مستعدة لتقليص ميزانية التعليم والصحة، وحتى الدفاع، لتمويل جيش خاص ببن غفير. وعلى الجانب الفلسطيني التعاطي بجدية مع هذا القرار. والتوافق على طريقة لكبح جماح هذه الميليشيا العنصرية التي يبدو أنها ستكون نكبةً جديدة في طريق القضية الفلسطينية.