يقولون اطلب العلم من المهد إلى اللحد، باعتبار أن المسافة الزمنية بين المهد واللحد مسافة طويلة عليك أن تقضيها كلها في التعلم. لكن لا تكون المسافة طويلة دائمًا، بل في دولة ما تكون المسافة في الغالب قصيرة للغاية، ما بين الولادة والموت، كما بين الشهيق والزفير. يؤذن الأبوان في فلسطين في أذن الطفل فرحًا بولادته، ثم لا يلبثان إلا وهما يقيمان الصلاة لأداء جنازته، وتدق الأجراس احتفالًا بملاكٍ جديد يضفي لمحة من الحياة على أسرة مقدسيّة، ثم سرعان ما تنوح نفس الأجراس لتنادي المُصلين لتشييع الملاك.

أن تكون فلسطينيًا يعني أن ولادتك لأبوين على قيد الحياة احتمالية ضعيفة. فالشهور التسعة للحمل تحمل آلاف التهديدات لروح الأب، وعملية الولادة تحت القصف والحصار تهدد نجاة الأم من مخاضها، أن تُولدَ في فلسطين قد يعني أنك قد لا ترى لك أبًا أبدًا، فربما أنت واحد من أطفال الحرية الذين قهروا جبروت الاحتلال ولم يزالوا بعد نُطفةً غير مُخلّقة. لكنك حين تُوجد، إذا وُجدت، فلا تشفع لك المآسي السابقة على ولادتك عند قوات الاحتلال ليمنحك حياة شبه طبيعية.

قد تمنحك الأقدار فرصة الحياة بين أبويك، وتهديك حضنًا أبويًا دافئًا تشعر فيه بالأمان، لكن تخترق رصاصة القناصة حصنك، وتنزعك من بيد أبيك، كما فعلت مع محمد الدرة منذ قرابة عشرين عامًا مضت. حتى إن وقفت أمام منزلك تلعب بعيدًا عن القصف والرصاص، قد تأتيك القذيفة أمام بيتك، كما فعلت مع الطفلة آلاء القدوم منذ أيام حين اخترقت الشظية رأسها. بين الدرة وآلاء سنوات طويلة، وقتلى كُثر من الأطفال، وسياسة واحدة يتبعها الاحتلال الإسرائيلي.

2230 شهيدًا، نسمح لأنفسنا أن نصفهم بالأطفال لصغر سنهم، قضوا بين الدرة وآلاء. 2230 طفلًا قتلهم الاحتلال في 4 حروب على غزة، في الأغلب، منذ الانتفاضة الثانية في بدايات عام 2000. القتل لأطفال فلسطين مأساة، لكنها مأساة وسط العديد من المآسي، فقبل القتل حصارٌ وتجويعٌ ومنعٌ من الطفولة، فبات الأطفال رموز الانتفاضة، ورموز المقاومة، فهم أغصان الزيتون المكسورة في ريعانها، وحمام السلام المذبوح غدرًا على عتبات الاحتلال.

كل طفل ضحية محتملة

إيمان حجو، الرضيعة ذات الشهور الثلاثة، هدى غالية، جميلة الهباش، فتيات أبادتهن إسرائيل ومعهن أسرهن بالكامل. فتهاوت منازلهن ليطمس ركامها غرفهن الوردية، وسائر المنزل وسكانه. حمزة نصّار خرج صائمًا ليشتري الخضروات لأهله قبل الإفطار بساعة، فأعادته غارة جوية إسرائيلية لأهله ملفوفًا بالكفن. زيد محمد غنيم قُتل برصاص الاحتلال الذي استقر في رقبته وظهره. محمد دعدس، المقتول غدرًا بالرصاص الحي في نابلس. محمد أبو خضير، أحرقه المستوطنون بعد اختطافه.

315 طفلًا قتلوا خلال حرب إسرائيل على غزة عام 2008. وفي عدوان عام 2012 حين بدأت إسرائيل باغتيال أحمد الجعبري، قتلت معه 43 طفلًا، و15 امرأة يمكن أن تكون أمًا حاليةً أو محتملةً لطفل. أما في حربها الأطول على غزة حرب عام 2014 التي استمرت خمسين يومًا ، فتكت إسرائيل بـ546 طفلًا. أما في عدوان 2021 الذي استمر 11 يومًا فأزهقت إسرائيل أرواح 72 طفلًا. أما في حربها في أغسطس/ آب 2022 فقتلت إسرائيل قرابة 6 أطفال.

أسماؤهم أكبر من أن تحصى، لكن لا يمكن التعامل مع الأطفال باعتبارهم رقمًا. فلو كانوا أرقامًا لما اكترثت قوات الاحتلال بقتلهم، فقائد في المقاومة هدف يستحق مئات الآلاف من الدولارات المهدرة في طلعة جوية لاغتياله. لكنهم المستقبل، حين يُغتال طفل يغتال معه حلم بأن العودة للديار ممكنة، وأن طبيبيًا سيوجد ليداوي جرح المقاومين، أو مهندسًا سيبني ما خربه الاحتلال، أو معلمًا يزرع القضية في جيل قادم كي لا ينسوها.

وجود الأطفال في دائرة القصف والاغتيال يعني أن كل طفل في فلسطين ضحية محتملة، وأن كل حلم قد يُغتال في أي وقت. وتستغلهم إسرائيل بذلك، فقتل الأطفال يضغط على الأهالي، الذين قد يضغطون بدورهم على المقاومة للخضوع لشروط الاحتلال من أجل إنهاء الغارات. ولأجل ضمان قتل عدد أكبر من الأطفال تستهدف إسرائيل غالبًا الضواحي ومناطق اللعب الخاصة للأطفال، والأماكن المأهولة بالسكان والمتوقع أن عدد الأطفال فيها سيكون أكبر بطبيعة الحال.

استهداف الأطفال مسموح

الدرة وأطفال غزة ليسوا أول أطفال تطالهم يد المحتل. في فجر التاسع من أبريل/ نيسان 1948 شنت إسرائيل هجومًا وحشيًا على دير ياسين. مجزرة مروعة قُتل فيها 360 طفلًا، إضافة للنساء الحوامل اللاتي أزهقت أرواحهن وأرواح أجنتهن في ذلك اليوم. تقول وزارة الصحة الفلسطينية، إن قرابة 23 ألف طفل فلسطيني أصيبوا بالصدمة النفسية لما رأوا من أهوال ذلك اليوم، وكانوا في الغالب دون العاشرة من العمر.

وأول حالة موثقة لقتل الاحتلال لأطفال فلسطينين بشكل مباشر، واستهدافهم هم تحديدًا دون أن يكونوا جزءًا من عملية اعتداء أكبر، كانت عام 1950. حيث أطلقت قوات الاحتلال النار على 3 أطفال من قرية يالو، بالقرب من دير أيوب. وأطلق جندي النار على الأطفال الثلاثة، دون أن يتدخل أحد من كتيبته لمنعه، ما أوضح أن استهداف الأطفال أمر مصرّح به ومتوقع. بعد تلك الحادثة بثلاث سنوات أطلق جنود الاحتلال النار على 5 من رعاة الماشية في قرية البرج، كان من بينهم طفل.

وفي أثناء غارة إسرائيلية على بيت جالا عام 1952 أزهق الاحتلال أرواح 4 أطفال، ونُقل 54 قاصرًا إلى المستشفيات بإصابات خطرة. فلم تستثنِ إسرائيل المدرسة من مجزرة قبية عام 1953. وفي كفر قاسم عام 1956 ذبح الاحتلال 46 فلسطينيًا، من بينهم 23 طفلًا. رابطة الأطباء الفلسطينية نشروا تقريرًا أثناء الانتفاضة الأولى يقولون إنهم كانوا يرون طفلًا، دون السادسة، مصابًا بطلق ناري بمعدل طفل كل أسبوعين.

 وفي شتاء 2008 نشر مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان، بتسليم، تقريرًا يؤكد فيه أن إسرائيل قتلت 320 قاصرًا فلسطينيًا، أعمارهم دون 18 عامًا، لم يشاركوا في القتال. وقُتل 18 طفلًا أثناء وجودهم في مناطق اشتباك. وقال التقرير، إن ما إجماله 352 طفلًا فلسطينيًا قد قتلوا نتيجة للأعمال العسكرية الإسرائيلية.

نسبة 64% من الأطفال قتلتهم إسرائيل في غارات جوية أو جراء فتح الجنود النار بشكل عشوائي على الفلسطينين. أما نسبة 35% فماتوا نتيجة الإصابات التي حدثت لهم أثناء الغارات أو بعد إطلاق النار. وغالبية الإصابات والقتلى كانت نتيجة لخطط قوات الاحتلال أو تحركه لتنفيذ هجمات أو مداهمات، بينما الأطفال في مناطقهم المعتادة دون أن يقتربوا من نقط أمنية أو مناطق تمثل تهديدًا، أو خطًا أحمر، للمحتل.

القتل بالحياة

أن تسلم من القتل في فلسطين لا يعني بالضرورة أنك تنعم بالحياة. فمن لم يمت، حتى الآن، من أطفال فلسطين قد يكون معتقلًا. فبحسب إحصاءات اليونيسيف ومنظمة العفو الدولية، يقبع قرابة 700 طفل في المعتقلات الإسرائيلية. ويتعرضون للتعذيب وظروف الاحتجاز المشابه لظروف احتجاز البالغين. كما تتم محاكمتهم بنفس التهم أمام نفس المحاكم، وقد تصدر ضدهم أحكام بالمؤبد أو الاعدام. وطبقًا لتقرير اليونيسيف فإن إسرائيل اعتقلت في 10 سنوات قرابة 7 آلاف طفل.

وإذا لم تكن معتقلًا أو قتيلًا فيمكن أن تكون جريحًا. خلّف الاحتلال الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى قرابة 69 ألف جريح، معظمهم من الأطفال. ويعاني 40% من المصابين الأطفال من إعاقات دائمة. ويعاني 65% من شلل دماغي أو نصفي أو علوي. أما الانتفاضة الثانية فقد عاقب الاحتلال أهل فلسطين عليها بقرابة 32 ألف جريح. وعدد الأطفال الجرحى من عام 2008 حتى 2021 بلغ 29 ألف طفل، يعانون من إصابات خطيرة مثل بتر أحد الأطراف أو فقد عضو حيوي.

تقرير من 57 صفحة أعدته الحركة العالمية للدفاع عند الأطفال وقدّمته لجنة التحقيق الدولي في الأمم المتحدة. التقرير يرصد استهداف إسرائيل لأطفال فلسطين أثناء المسيرات، خصوصًا مسيرات العودة السلمية. ويقول التقرير أن 57 طفلًا قتلوا على أيدي قوات الاحتلال عام 2018 فحسب. ويؤكد التقرير أن جميع الأطفال الذين قتلوا أثبتت كافة الأدلة أنهم لم يشكلوا أي تهديد على قوات الاحتلال.

صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ذكرت في عام 2015 أن استهداف الأطفال عقيدة ممنهجة لدى جيش الدفاع الإسرائيلي. وقالت إن جيش الدفاع يعتقل ما لا يقل عن ألف طفل فلسطيني كل عام، وغالبًا ما تكون تهمتهم هي الرشق بالحجارة. ووصفت الصحيفة أنه بوصول هؤلاء الأطفال لمراكز الشرطة الإسرائيلية يتم تكبيل أياديهم، وإلقائهم على الأرض، ويهرع جنود الاحتلال لضربهم انتقامًا من الحجارة التي ألقوهم بها.

وأد المستقبل

شعور دائم يسكن نفوس أطفال فلسطين بأنهم محل الاستهداف سواء بالاعتقال أو القتل. ويترسخ داخلهم شعور دائم بعدم الأمان، فتصبح أرواحهم وأجسادهم مجروحة جروح لا شفاء لها. خصوصًا أنهم يُلقى بهم لأسابيع في سجون انفرادية قبل السماح لمحاميهم وذويهم بالوصول إليهم. وقد يوقعون على اعترافات ثم ينكرونها لاحقًا لأنهم وقعوها تحت وطأة التعذيب.

وقد يعتقل الاحتلال الأطفال داخل منازلهم، فيجبرهم على البقاء في نطاق محدد يوجد فيه جنود الاحتلال ليضمنوا أن المقاومة لن تقصفهم. ما يعني استخدام أطفال فلسطين كدروع بشرية. كذلك كشفت تقارير دولية أن قوات الاحتلال تستخدم الأطفال المعتقلين لتفتيش الأماكن والممتلكات. التي يشعرون أنها مفخخة. ففي عام 2010 أدين جنديان إسرائيليان بتهمة استخدام طفل، 9 سنوات، كدرع بشرية لفتح طرود بريدية ظنًّا أنها مفخخة. ولم يعاقبا إلا بوضعهما تحت المراقبة لثلاثة أشهر ثم خفض رتبتهما.

غياب العقاب يعني استمرار العنف الإسرائيلي ضد الأطفال. فلم تفرض المجتمعات الدولية ولا منظمات حقوق الأطفال أي عقوبات على إسرائيل جراء ممارستها الوحشية تجاه أطفال فلسطين. والشعور الإسرائيلي الدائم بأنها دولة فوق العقاب سيشجعها لمزيد من سياسة إطلاق النار لأجل القتل، حتى لو على طفل لا يملك إلا حجرًا، وفي الغالب يكون لا يملك شيئًا. كما أظهر التقرير الذي أعدته منظمة أمريكية مناهضة لقتل الأطفال. التقرير وثق قتل 78 طفلًا فلسطينيًا عام 2021 فقط.61 منهم قتلوا في قطاع غزة، و17 قتلوا في الضفة الغربية. وأظهرت مقاطع الفيديو أن الأطفال لم يشكلوا أي تهديد لإسرائيل.

غياب التهديد الذي تعنيه المنظمة هو التهديد المباشر كإمساك سلاح أبيض أو زجاجة مولتوف. لكن الاحتلال الإسرائيلي لا يتمثل له التهديد في تلك الصورة المباشرة فحسب. بل يرى التهديد في مجرد وجودهم، فالاحتلال الإحلالي لن يتهاون مع إمكانية أن تستمر مقاومته للأبد، أو أن يظل السكان الأصليون يتزايدون يومًا بعد الآخر. فنتيجة لاستهداف الأطفال والقصرّ انخفضت نسبة الزواج المبكر لمن دون 18 عامًا. فانخفضت نسبة الفتيات اللاتي عقدن قرانهن إلى 11% عام 2020 بعد أن كانت24% عام 2010. وأصبحت نسبة الشباب الذين عقدوا قرانهم 05.% بعد أن كانت 2% في نفس السنوات السابقة.

لذا فكل طفل فلسطيني هو دليل على أن اليأس لم يتمكن بعد من أهل البلاد، وأن شرارة المقاومة لن تنطفأ قريبًا، وعلى الاحتلال أن يظل في حالة تأهب دائمة لمواجهة الثائر القادم. لأن شعلة الحياة لا تخمد في فلسطين.