منذ إطلاق حركة حماس عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شعر الإسرائيليون بتهديد وجودي يتمثل في أن المكان الذي اختاروه وطنًا ومستقرًا لهم أصبح ساحة قتال مشتعلة، وأن أصحاب الأرض الأصليين لن يتنازلوا عنها وما زالوا يحاولون استعادة حقوقهم، وأن الاعتماد على القوة العسكرية الإسرائيلية غير مضمون ولا موثوق.

ووسط هذه الحالة من الفزع والصدمة هرعت أعداد هائلة من المحتلين إلى الخارج لا يلوون على شيء تاركين وراءهم أحلامًا تبددت وصارت أوهامًا على يد المقاومة الفلسطينية، وبدأ الكثيرون يحزمون أمتعتهم ويُصفون أعمالهم وأملاكهم في إسرائيل استعدادًا للرحيل عن أرض يرونها لا تستحق الموت من أجلها أو الحياة فيها تحت التهديد الدائم.

وكشفت الصحافة الإسرائيلية أن أكثر من 230 ألف مستوطن غادروا خلال شهر واحد تقريبًا منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، وبالنظر إلى أن عدد اليهود في الأراضي المحتلة يبلغ 7 ملايين و145 ألفًا طبقًا لإحصاء أبريل/نيسان الماضي، فهذا يعني أن فلسطين ستخلو من أي يهودي إسرائيلي في أقل من ثلاث سنوات لو استمرت الهجرة بهذا المعدل الجنوني، وهذا سيناريو مرعب للاحتلال، مع أنه من غير المتوقع أن تستمر الهجرة بهذه الوتيرة الاستثنائية.

فبعد أن عادت شركات الطيران العالمية إلى مطار بن جوريون بعد توقفها في بداية طوفان الأقصى، تدفق المهاجرون على المطار في الأسبوع الثاني للحرب، ويُتوقع ارتفاع أعداد المهاجرين للخارج خلال الحرب الحالية التي اتضح أن استمرارها يمثل تهديدًا وجوديًا للكيان المحتل، كما أوردت تقارير إعلامية أن الكثيرين يخططون للرحيل بعد توقف الحرب.

«لنغادر البلاد معًا»

اتضح خلال فترة الحرب للكثيرين أن الأراضي المحتلة غير صالحة للعيش بالنسبة للإسرائيليين الذين يعيشون تحت حماية آلة عسكرية جبارة، لكنها عاجزة عن توفير الحياة الطبيعية لهم، فمع استمرار قصف حركات المقاومة من قطاع غزة وقصف حزب الله من جنوب لبنان نزح نصف مليون إسرائيلي حسب إعلان جيش الاحتلال بعد أيام قليلة من بدء طوفان الأقصى.

واستمر النزوح الداخلي للمستوطنين من مناطق غلاف غزة جنوبًا، والجليل الأعلى شمالًا، مما خلف آثارًا اقتصادية واجتماعية سلبية كبيرة عليهم، وأعلن رئيس اتحاد الفنادق الإسرائيلية، أن نصف غرف الفنادق تستخدم لإيواء النازحين من مستوطنات غلاف غزة، وما زالت أعداد كبيرة ترفض العودة خشية قصف المقاومة رغم وجود حشود عسكرية كثيفة حول القطاع المحاصر.

كما أن منطقة تل أبيب الكبرى تشهد قصفًا شبه يومي أصاب الحياة فيها بالرعب المستمر، وصارت صفارات الإنذار تدوي ليل نهار لتحول عاصمة الكيان وقلبه النابض إلى ساحة حرب يجري سكانها إلى الملاجئ حرصًا على حياتهم بسبب عجز منظومة القبة الحديدية عن منع وصول التهديد إليهم.

ومع تكرار اتهام عائلات الأسرى والمتضامنين معهم لحكومة نتنياهو بالتلكؤ في تحريرهم من قبضة المقاومة والاستهانة بأرواحهم سواء برفض صفقة التبادل أو بموت بعضهم تحت القصف في غزة، وكذلك بالعجز عن تحريرهم بالقوة، كل ذلك أسهم في التشكيك بالتزام الكيان الصهيوني باستعادة أي أسير لدى العدو. ولم يؤد التوغل البري إلى تحرير الأسرى بل أضاف عشرات الجنود والضباط إلى قوائم القتلى، وبالنظر إلى اتساع نطاق الخدمة العسكرية الاحتياطية فإن معظم السكان رجالًا ونساء يخشون من الدفع بهم في محرقة غزة.

ويمتد سن خدمة الاحتياط إلى عمر 50 عامًا؛ أي ما يصل إلى نحو 90% من نسبة الأيدي العاملة الإسرائيلية، وهذه مشكلة أخرى؛ فمع تعطل نسبة كبيرة من القوة العمالية، ارتفعت في المقابل نسبة البطالة بسبب توقف المنشآت الإنتاجية عن العمل بسبب ظروف الحرب، بالتزامن مع تعطل إنتاج مستوطنات غلاف غزة التي تنتج معظم الخضراوات في إسرائيل.

وأسس بعض الإسرائيليين مبادرة شعارها «لنغادر البلاد معًا» للتشجيع على الهجرة إلى خارج الأراضي المحتلة، وأطلق رجل الأعمال الإسرائيلي، يوسى تاجوري، مبادرة «سفينة نوح الثانية» بهدف الفرار خارج إسرائيل وإنشاء مجتمعات يهودية في الخارج، والعودة بعد ذلك في حال تحسنت أوضاعها السياسية والأمنية.

وصمة «يِريدا»

أمام التدفق الحالي للهجرة العكسية، حاول الكيان الصهيوني النظر للاستفادة من حالة الغضب الشعبي العالمي ضد جرائم الاحتلال واستغلالها كفرصة لتخويف المستوطنين من مغادرة الأراضي المحتلة بحجة حمايتهم من ارتفاع حالات العنف المُمارس ضد اليهود في الدول المختلفة، وقال مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ووزارة الخارجية في بيان مشترك إنهما «لاحظا ارتفاعًا كبيرًا في معاداة السامية» في الخارج.

لكن الأمر ليس وليد اليوم؛ وقد بذلت الحكومات المتعاقبة جهودًا كبيرة في تشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل التي انخفضت وتيرتها لصالح زيادة الهجرة العكسية رغم تطبيق خطط استيعاب مربحة للمهاجرين المغادرين لمحاولة إعادتهم مرة أخرى.

ولم تقتصر الجهود على الإجراءات والقرارات بل شملت الأدوات الثقافية؛ فمن يتخلى عن الوطن القومي المزعوم يوصم بعار مجتمعي، ويُطلق على هجرة اليهود إلى خارج إسرائيل اسم «يِريدا» (Yerida) وهو مصطلح ازدرائي يقصد به إهانتهم، لكن مؤخرًا مع تزايد الهجرة العكسية وتقبل الكثيرين لها بات يُستخدم مصطلح «إعادة التوطين» (Relocation) كمسمى بديل.

ومع تولي حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم رموز اليمين الصهيوني المتطرف اندلعت احتجاجات شعبية مناهضة لصعود اليمين الديني وخططه لتقييد صلاحيات المحكمة العليا، مما أجج الانقسامات الداخلية وأشعر اليهود العلمانيين بأن الكيان يتحول إلى الحكم القمعي ويتخلى عن الديموقراطية.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي كشفت تقارير إسرائيلية رسمية إقبالًا ملحوظًا للحصول على الجنسيات الأوروبية بهدف الهجرة، كما شهد الصيف الماضي طفرة غير مسبوقة في الإقبال على خدمات تسهيل الهجرة وإعادة التوطين في دول أجنبية، ومعظم من ينوون الهجرة من جيل الشباب.

وفي شهر يوليو/تموز أظهرت نتيجة استطلاع أجرته القناة «13» المحلية أنّ نحو ثلث الإسرائيليين ينوون مغادرة البلاد مع إصرار حكومة نتنياهو على تمرير التعديلات القضائية، وأكثر من ثلث الأطباء وطلاب الطب لديهم نوايا للمغادرة قريبًا.

كما رصدت صحيفة «معاريف» العبرية، في مايو الماضي أن أكثر من نصف الإسرائيليين يخشون نشوب حرب أهلية بين اليهود بسبب مشاريع قوانين «الإصلاح القضائي» التي يريد المتدينون فرضها.

وقفزت عملية طوفان الأقصى بمعدلات الهجرة العكسية إلى الذروة وجعلت مئات الآلاف ممن كانوا يتبنون الفكرة يهاجرون بالفعل، لأنها جاءت في عمق أزمة التعديلات الدستورية، لذلك كان تأثيرها أكبر، وذلك على عكس وجهة النظر القائلة إن هجوم حماس وحّدَ الداخل الإسرائيلي بعدما كان منقسمًا.

ساعة رملية

برغم أن ظاهرة الهجرة العكسية قديمة لكنها تزداد غالبًا بعد تصاعد هجمات المقاومة كما حدث عام 2015 بعد معركة العصف المأكول، فحينها بلغ عدد من غادروا إسرائيل قرابة 17 ألفًا، فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع مهاجرين من أصقاع ودول شتى، جاء الكثير منهم إلى أرض لا تربطهم بها رابطة بحثًا عن ظروف معيشية أفضل، وظل الكثيرون منهم يحتفظون بعناوين ذويهم في الخارج تحسبًا ليوم يقررون فيه العودة إلى بلادهم الأصلية.

 واليوم تتفشى نظريات ومشاعر قرب نهاية إسرائيل ليس بسبب الأحداث الجارية المختلفة فقط، بل بسبب «لعنة العقد الثامن» التي تعني التنبؤ بزوال كيان الاحتلال لأن ممالك إسرائيل في السابق لم تعمر أكثر من ثمانية عقود، وهي نبوءة رددها قادة الكيان مرارًا، وتعطيها الأحداث الحالية مصداقية لدى المجتمع الإسرائيلي.

ومع تراجع الهجرة إلى إسرائيل وزيادة الهجرة العكسية، تتزايد معدلات مواليد الفلسطينيين وهذا السلاح الديموغرافي يقلق تل أبيب بشدة، كما تخشى النخبة العلمانية اليهودية أيضًا من التحول الديموغرافي الداخلي المتمثل في تراجع نسبتهم السكانية في مقابل ازدياد نسبة المتشددين الحريديم كثيري المواليد.

وأخيرًا فإن عملية طوفان الأقصى جاءت في وقت ظنت تل أبيب فيه أنها أصبحت أمرًا واقعًا وغرست نفسها في عمق المنطقة العربية وبدأت الدول تعترف بها تباعًا، لكن اشتعال الحرب الحالية وما تبعها من مستجدات أعاد التذكير بحقيقة الوجود الهش المهدَّد لكيان الاحتلال وسط محيط عربي إسلامي يلفظ إسرائيل.

فللجغرافيا دور لا يمكن إنكاره، فبخلاف بلاد الأندلس (أسبانيا والبرتغال حاليًا) مثلًا التي تقع في غرب أوروبا، فإن فلسطين رغم الحملات الصليبية المتكررة والغزو الاستعماري الأوروبي، رحل جميع المحتلين عنها لأنها تقع في قلب منطقة عربية إسلامية ترى الوجود الصهيوني أمرًا طارئًا لا يلبث أن ينتهي كما انتهى غيره ليعود المحتلون من حيث أتوا ويظل أصحاب الأرض في بلادهم مهما تقلبت بهم الظروف لأنهم لا يعرفون لهم وطنًا غيرها.