في 29 أبريل/نيسان الماضي، وصلت رسالة تهديد وصلت إلى عائلة رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت، وذلك بعد يومين من رسالة مشابهة عندما تلقت العائلة رصاصًا في مظروف مع رسالة تهديد بالقتل. المرة الأولى تضمن المظروف رصاصة مسدس، وصلت إلى منزل عائلة رئيس الوزراء الصهيوني في مدينة رعنانة، بينما المرة الثانية وصل مظروف تضمن رصاصة إلى نجله يونيت بينيت، لكنها هذه المرة رصاصة بندقية.

تعاملت السلطات الإسرائيلية مع الرسالة الأولى بجدية وزادت من تشديد الحراسة على بينيت، وفتحت تحقيقًا مع فرض حظر على النشر، ولكن الرسالة في المرة الثانية أفضت إلى اعتقال صاحب الرسالة وهو «إسرائيلي»، بعد ساعات من الكشف عن محتوى الرسالة من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلي.

هاتان المرتان ليستا الأوليين من نوعهما، فسبق أن اتصل رجل إسرائيلي بالشرطة في أغسطس/آب 2021، يبلغهم نيته اغتيال رئيس الوزراء نفتالي بينيت، وبعد اعتقاله أكد تخطيطه لتنفيذ العملية.

التهديدات باغتيال بينيت أتت في إطار الصراع الدائر في السياسة الإسرائيلية بين معسكر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، ومعسكر الحكومة الحالي الذي يضم قوى عديدة على رأسها نفتالي بينيت، وزير التعليم السابق في حكومة نتنياهو، وحزبه «أزرق-أبيض» أحد أحزاب اليمين الإسرائيلي، فكيف سارت الأمور إلى هنا؟

من الاغتيال إلى التهديد

تذكر التهديدات الموجهة ضد بينيت بما حدث في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1995، عندما أطلق الشاب الإسرائيلي إيغجل عامير ثلاث رصاصات إلى ظهر رابين، بينما كان الأخير خارجًا من اختتام مهرجان لتأييد عملية السلام الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات، ليرديه صريعًا، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يتم اغتياله، وانتهى الأمر بالحكم على المنفذ بالسجن المؤبد.

جاء اغتيال رابين بعد عامين وشهرين من توقيع وزير خارجيته آنذاك شمعون بيريز اتفاقية إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، التي عرفت إعلاميًا باسم «اتفاقية أوسلو»، مع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات.

بعد اغتيال رابين، تولى شمعون بيريز السلطة بدلًا منه، لكن بيريز لم يدعُ لانتخابات مبكرة وفضّل استكمال فترة سابقه. وعلى الرغم من إضافته لسجله الدموي المزيد من الجرائم بحق الفلسطينيين، ولعل أبرزها مجزرة قانا في أبريل/نيسان 1996، لم يتم انتخابه رئيسًا لحكومة الاحتلال في الانتخابات التالية، حيث كان ينظر إليه باعتباره شريكًا لرابين في صناعة اتفاقية «أوسلو»، كما كان قد قلّل من التوسع الاستيطاني الصهيوني لمحاولة إنقاذ الاتفاقية.

وصل بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء الإسرائيلية عام 1996، بعد سلسلة من الانتقادات اللاذعة لاتفاقية أوسلو، واستمر في السلطة حتى عام 1999، لكنه وقع اتفاقًا مع السلطة الفلسطينية من شأنه الانسحاب 80 بالمائة من أراضي مدينة الخليل، واتفاقات لانسحابات أخرى من الضفة الغربية المحتلة معتمدًا على الضرورة الديمغرافية لوقف التهديد الفلسطيني للمحتلين، لكنه خسر الانتخابات اللاحقة لصالح إيهود باراك الذي جاء للسلطة محمولًا على وعوده بالقضاء على المقاومة الفلسطينية تمامًا.

على مدار السنوات التي تلت اغتيال رابين، اتفقت حكومات اليمين الصهيوني على عدم تنفيذ اتفاقية أوسلو بإقامة شبه دولة فلسطينية، لكن دون اجتثاث السلطة الفلسطينية تمامًا باعتبارها ضرورة غير عسكرية لتحقيق «أمن إسرائيل». حتى إرئيل شارون الذي أعقب باراك بوعود شديدة التطرف فقد اضطر إلى الانسحاب عسكريًا من قطاع غزة، وتلا ذلك سيطرة المقاومة على القطاع. بعد هذا الانسحاب، تلقى شارون 70 تهديدًا بالقتل من قادة اليمين المتطرف.

جاء نتنياهو للسلطة عام 2009 بإستراتيجية لاجتثاث المقاومة. وفي عام 2013، جاء اعتزال إيهود باراك (شريك نتنياهو في محاولة اجتثاث المقاومة) للسياسة ووزارة الدفاع بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب على غزة عام 2012، وذلك لأن استطلاعات الرأي وقتها أشارت إلى أنه لن يحصل على مقعد واحد في الكنيست بعد أن اتهمه اليمين المتطرف بإبطاء عمليات الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، ومعارضته شن حملة برية جديدة على غزة.

على مدار تلك السنوات ازداد المزاج اليميني الصهيوني تطرفًا في مواجهة اتفاقية رابين التي تمنح الفلسطينيين إمكانية إقامة شبه دولة على 22 بالمائة من أراضيهم. ففي عام 2011، أقر الكنيست قانونًا يخلّد ذكرى السياسي الصهيوني المتطرف رحبعام زئيفي، الذي اغتالته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001، وكان أكبر داعٍ لطرد الفلسطينيين من أراضيهم. كان هذا القانون بمثابة رد على قانون صدر لتخليد ذكرى إسحاق رابين.

استمر رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو في السلطة رغم فشله في السيطرة على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. فاليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان الذي بنى اقتراحًا في برنامجه الانتخابي لحل الدولتين عن طريق تبادل الأراضي مع الفلسطينيين للوصول إلى إسرائيل يهودية تمامًا، اشترط على نتنياهو «القضاء على حماس» للمشاركة في الحكومة الإسرائيلية عام 2016، ليكون وزير دفاع جديد بوعود أشد تطرفًا نحو «اجتثاث المقاومة».

في 2017، عكف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على إعداد خطته للسلام التي حملت لاحقًا اسم «صفقة القرن» التي كانت نسخة أشد إجحافًا من اتفاقية أوسلو سواء في حجم الأراضي التي تنبني عليها الدويلة الفلسطينية منزوعة السلاح والسيادة، خاصة بخسارة القدس الشرقية. كانت الخطة التي تصاعدت وتيرة الحديث عنها والترويج لها باعتبارها المخلّص لـ «الأزمة»، أحد الأسباب وراء فشل نتنياهو في الحصول على أغلبية مطلقة في الكنيست في انتخابات تلو الأخرى، مما انتهى إلى تقاسمه السلطة مع وزير دفاعه بيني غانتس، ثم تنهار تلك الحكومة بعد 8 أشهر فقط من انتخابها، وذلك في ديسمبر/كانون الأول 2020، ليتولى نتنياهو أكثر من وزارة بينها وزارة الدفاع مع استقالات متعاقبة لوزرائه.

في مايو/آيار. شن نتنياهو منفردًا حربًا على غزة لمحاولة إنقاذ موقعه. هذه الحرب كشفت عن مدى التطور النوعي للمقاومة الفلسطينية، ونتج عنها ولأول مرة دعوات من الداخل الإسرائيلي تطالب بوقفها.

بينيت كضرورة سياسية

نفتالي بينيت، وزير التعليم السابق الذي فشل أن يكون وزيرًا لدفاع نتنياهو، لم يأتِ إلى رئاسة الوزراء بفوز انتخابي على المستوى الشعبي. فحزبه اليميني الديني المتطرف حصد 7 مقاعد فقط في الكنيست، لكنه بالمقاعد السبع مع 3 مقاعد للقائمة العربية المشتركة تحت قيادة عباس منصور، واعتمادًا على أن تحالفه مع نتنياهو الذي حصد حزبه 52 مقعدًا، لن يحقق الأغلبية المطلقة (60+1)، أقنع حزب «يش عتيد» بزعامة يائير لابيد، وزير خارجية الاحتلال الحالي ورئيس الوزراء بالتبادل بدءًا من عام 2023، وهو قومي ليبرالي علماني، بتشكيل الحكومة.

موافقة لابيد كانت مدفوعة بحصده المركز الثاني في الكنيست من حيث عدد المقاعد، وهو ما جناه من معارضة شرسة ضد نتنياهو بدأت 2016، ودعم عشرات الأحزاب له بناءً على وعوده بتشكيل ائتلاف حكومي من شأنه الإطاحة بنتنياهو. باتفاقه بينيت وانتقال بينيت إلى معسكره ضد نتنياهو، نجح الثنائي في أن يطيحا بالرجل القوي في دولة الاحتلال بـ 60 صوتًا فقط ضد 59 صوتًا، وامتناع نائب واحد، هو نائب عربي، عن التصويت.

وصول بينيت إلى السلطة تبعته مخاوف صهيونية أخرى من موافقة بينيت على افتتاح قنصلية أمريكية للفلسطينيين في القدس، القرار الذي يعطله رفض الفلسطينيين اشتراط إدارة الرئيس الأمريكي وقف السلطة الفلسطينية مخصصات أسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين. لكن حكومة بينيت، في المقابل، وضد تلك المخاوف الصهيونية، تبنت سياسات الاستيطان ذاتها التي تبنتها حكومات نتنياهو المتعاقبة، بل وارتفعت وتيرة الاستيطان بالأراضي الفلسطينية المحتلة، مع إعلان بينيت رفضه الحاسم إقامة دولة فلسطينية.

وعلى الرغم من تصريحات بينيت اليمينية المتطرفة المعادية للفلسطينيين، والتي تلّوح بين الحين والآخر بشن حرب تدمّر المقاومة في غزة، لكن الحقيقة هي أن بينيت يرغب في الحفاظ على الهدوء مع جبهة المقاومة في غزة، لذلك بادر بينيت بإعلان تسهيلات إنسانية من شأنها الحفاظ على الهدوء في القطاع، وصياغة خطة «اقتصاد مقابل هدوء» في التعامل مع القطاع، وإن تخلل ذلك ضربات محدودة على فترات لمواقع تابعة للمقاومة الفلسطينية في غزة.

خلال أقل من أسبوعين بين نهاية مارس/آذار وبداية أبريل/نيسان، وقعت 5 عمليات ضد إسرائيليين قُتل خلالها 13 إسرائيليًا، بينما نفذت قوات الاحتلال هجمات هي الأخرى قامت خلالها بقتل 3 فلسطينيين واعتقال العشرات، بينما صعّدت قوات الاحتلال اقتحامات القرى الفلسطينية التي انحدر منها المنفذون الذين استشهدوا على يد الاحتلال، مع استمرار تنفيذ الإجراءات العقابية الجماعية التي تستهدف ذوي المنفذين.

على إثر تلك العمليات في السادس من إبريل/نيسان الماضي، خرجت تظاهرات هي الأكبر منذ وصول بينيت للسلطة، شارك فيها زعيم المعارضة بينيامين نتنياهو، وحملت عنوان «الاحتجاج على تجميد البناء في المستوطنات وسعي الفلسطينيين لإقامة دولة فلسطينية»، وحرَض خلالها نتنياهو ضد حكومة بينيت، داعيًا الائتلاف الحاكم للعودة إلى موطنهم الأصلي وإفساح المجال لحكومة قوية «تحارب الإرهاب وتواجه سياسات إيران وتواصل الاستيطان». هذه الدعوات جاءت وسط هتافات لأنصار نتنياهو يقولون فيها: «هذا هو رئيس الحكومة الحقيقي»، وما زاد الزخم حول تلك الاحتجاجات استقالة عضو الكنيست من الائتلاف الحاكم أيديت سليمان من حزب «يمينا».

وعلى الرغم من خطورة تصريحات نتنياهو على الائتلاف الحاكم، إلا أن بينيت أكد أن ائتلافه مستقر ولن ينهار، ثم في تصريحات كررها في ثلاث مناسبات شدد على أنه سيعمل وشركاؤه على حماية الائتلاف من الانهيار.

كما أكد أن الدخول في انتخابات مبكرة لن يغير شيئًا كثيرًا، حيث أكد استطلاع إسرائيلي للرأي أنه في حال تمت انتخابات يوم خروج احتجاجات نتنياهو وأنصاره، فإن حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق سيحصل على 58 مقعدًا، بينما سيحصل ائتلاف بينيت الحاكم على 56 صوتًا، وستحصد القائمة العربية الموحدة بقيادة أيمن عودة على 6 مقاعد.

أدى انغلاق الحلول السياسية أمام أنصار نتنياهو اليمينيين من اليمين المتطرف إلى الاندفاع نحو العنف والتهديد بـ «الاغتيالات» كما ظهر في رسائل تهديد بينيت وعائلته بالاغتيال.