اندفع الضابط الروسي فاسيلي ميروفيتش تسبِقُهُ أنفاسُه اللاهثة نحو الزنزانة التي يقبع فيها حِلمه، وثأر عائلته التي جرَّدَها بطرس الأكبر من ممتلكاتها، وألقى بها في غيابات الفقر، وآن أوان أن يلتقطَها، أو هكذا ظنَّ.

لم يُظهر الحارسان القابعان على باب الزنزانة مقاومة جدية تتناسب مع خطورة الشخص المحبوس في الداخل، ورد أحدهما في مبالاةٍ عندما سأله ميروفيتش أين الإمبراطور .. «ليس لدينا إمبراطور، إنما إمبراطورة»! اقتحم ميروفيتش الزنزانة، لتصعقه المفاجأة.

على أرض الزنزانة، كان هناك بركة من الدماء غرق فيها جسدٌ نحيلُ لشاب بدا بوضوح أن الأهوال قد شيَّبته. أُسقِط في يد ميروفيتش، وسقط على الأرض باكيًا وهو يحتضن جثة الإمبراطور القتيل إيفان السادس، الذي كان يقود الليلة باسمه انقلابًا على الإمبراطورة كاثرين الثانية. وكانت المفارقة الأعظم، أن الملك المُلقى جُثة هامدة في أرضية تلك الزنزانة القذرة، لم يكن يعرف شيئًا عن ذلك الانقلاب، بل كان في آخر حياته في حالةٍ ذهنية ونفسية تجعل من الصعب الجزم بأنَّه يعرف شيئًا عن نفسه.

إيفان السادس: بؤس المُلك العقيم

حكمت سلالة آل رومانوف المملكة الروسية منذ الربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي، ولعل أبرز هؤلاء هو الإمبراطور الشهير بطرس الأكبر، حفيد مؤسس السلالة القيصر ميخائيل رومانوف. حكم بطرس روسيا لما يقارب 40 عامًا، ونقلها بالحديد والنار إلى قوة سياسية وعسكرية كبرى، وأحكَمَ نفوذها في منطقتيْ البحر الأسود وبحر البلطيق.

بعد وفاة بطرس عام 1725م، كانت الاضطرابات السياسية ملازمة لعمليات انتقال السلطة، لا سيَّما وأن بطرس لم يترك وسيلة واضحة لتوارث السلطة من بعده. بعد وفاة بطرس، أعلنت زوجته كاثرين الأولى نفسها إمبراطورة عبر ما يشبه الانقلاب من قبل بعض أنصارها في البلاط، والذين كوفئوا من قِبَلها بعضوية مجلس أعلى للدولة بصلاحياتٍ واسعة. توفَّيَت كاثرين فجأة عام 1727م، فخلفها الصبي بطرس الثاني ابن بطرس الأكبر، والذي تصارع كبار رجال الدولة على النفوذ من حوله، لكنه توفي بمرض الجدري عام 1730م، لتحكم روسيا بعدَه بترشيح من مجلس الدولة الإمبراطورة أنَّا، ابنة أخي بطرس الأكبر، على أن يكون معظم الصلاحيات للمجلس، لكنها ما لبثت أن نفذت انقلابًا سياسيًا، وحلَّت المجلس، وانفردت بالحكم.

وضعت الملكة أنَّا معظم شؤون الحكم في يد عشيقها الأمير بيرون، وثلة من مستشاريه الألمان، وانصرفت إلى الإنفاق الباذخ على حفلات البلاط والإنشاءات، مما دفعَ إلى فرض ضرائب باهظة على العامة، بعد أن أُثخنت الخزانة أيضًا من الحروب في بولندا وضد الدولة العثمانية. بينما كانت أنَّا على فراش احتضارها في شهر أكتوبر عام 1740م، أوصت بالحكم من بعدها للطفل الرضيع إيفان أنتونوفيتش، والذي وُلِد في الثاني عشر من أغسطس/آب من عام 1740م، وهو ابن ابنة أختها أنَّا ليوبولدوفنا، ليُعلَن في اليوم التالي بعد وفاتها إمبراطورًا لروسيا باسم «إيفان السادس» ويكون الوصي عليه الأمير بيرون عشيق الملكة الراحلة.

بعد 3 أسابيع، دبَّر خصوم بيرون انقلابًا ضده، وجعلوا أم الملك هي الوصيَّة محله، والتي أثارت حنق كثيرين في الجيش والنخبة من جراء سياساتها الخارجية الموالية لبروسيا- أهم الممالك الألمانية التي كانت خصمًا إستراتيجيًا لروسيا- خلال الشهور التالية، كما ضاق الوطنيون الروس ذرعًا بتفاقم النفوذ الثقافي الألماني في روسيا منذ عهد الإمبراطورة السابقة آنَّــا.

وهكذا في أواخر عام 1741م، وبينما بالكاد تجاوز الملك الرضيع عامه الأول من العمر والحكم، فوجئ الروس بانقلابٍ ليلي تشنه الأميرة إليزابيث، ابنة بطرس الأكبر، والتي كانت مقربةً من الجيش، لتواضعها، ولتعبيرها الدائم عن إيمانها بالشموخ الروسي، وحرصها الدائم على الحفاظ على علاقاتٍ جيدة بالضباط المؤثرين، كما كان الجيش يوقر أباها الإمبراطور بطرس، رمز صعود القوة الروسية وانتصاراتها العسكرية، ويرى فيها امتدادًا له، لا سيَّما ولم يَعُد له أبناء ذكور على قيد الحياة.

اقرأ: في ذكراها المائة .. جذور الثورة الروسية 1917م

لم يُبدِ الخصوم أي مقاومة فعلية، لا سيَّما وقد أخذتهم المفاجأة على حين غرة، فجاء الانقلاب أبيضَ دون دماء. بعد ما أكمل أربعة أعوامٍ فحسب من العمر، انتُزِعَ الطفل المسكين الذي لا ناقة له ولا جمل في كل تلك الأحداث من حيازة أمه في مُعتقلها، وبعد أشهرٍ، نُقِلَ إلى حبسٍ انفرادي في أهم مُعتَقلٍ سياسي في روسيا آنذاك، وهو سجن حصن شليسلبرج، حيث سيقضى في ظلمة هذا العالم الموازي أكثر من 18 عامًا، حتى تشهد جدران الزنزانة الرطبة فصل الختام في حياة إيفان البائسة.

يقع هذا الحصن الذي ما تزال أجزاء منه قائمة إلى يومنا، وتعتبرها منظمة اليونيسكو من مناطق التراث العالمي في جزيرة معزولة تقع في نقطة التقاء بحيرة لادوغا، مع نهر نيفا، على بعد نحو 40 ميلًا من العاصمة السياسية لروسيا، سان بطرسبرغ، التي أسسها بطرس الأكبر عام 1703م.

وطوال عهد إليزابيث (1741-1762م) كانت الإمبراطورة متوجسة من الطفل إيفان، حتى تذكر بعض المصادر أنها لم تنسَ أبدًا يوم انقلابها عليه، عندما دخلت على أمه الوصية على عرشه وأيقظتها من نومها لتفزعها بخبر أنها قد انتزعت منها ومن ابنها السلطة، كانت إليزابيث تنام ليلها بعينٍ واحدة، مخافة أن تستيقظ من نومها وقد استغل بعض خصومها الفرصة، وأخرج إيفان من المعتقل، وانتزع منها العرش به، ولذلك شدَّدت الحراسة عليه، وعزلته تمامًا وحرفيًا عن أنوار الحياة، حتى تتكفَّل أيام العزلة ولياليها بسحق أي مقدراتٍ شخصية لهذا الفتى قد تشكل عليها أي خطورة في يومٍ من الأيام.

رغم ذلك، فوجئت إليزابيث يومًا ما بتقريرٍ عن مشاجرة بين إيفان وحراسه، انفعل خلالها إيفان وصاح بهم:

ألا تعلموا أنني إمبراطوركم الشرعي وحاكم هذه البلاد!

انزعجت إليزابيث للغاية، من تلك الأنباء، وأصدرت أمرًا خطيرًا حسمت به مصير حياة إيفان من حيث لم تدرِ، نصَّ على ضرورة قيام الحراس الملازمين لإيفان بقتله فورًا بمجرد إحساسهم بوجود محاولة جدية لتحريره من المعتقل.

انتزعت كاثرين الثانية– الملقَّبة بالعظيمة- السلطة عام 1762م بانقلاب على زوجها غريب الأطوار بيتر الثالث، ولي عهد إليزابيث، والذي حكم بعدها 6 أشهر فحسب، كانت فيها تصرفاته غير المفهومة وولاؤه المطلق لملك بروسيا، كفيليْن بتأليب النخب الروسية والجيش ضده، ثم قُتِل بعد أيام من الانقلاب في مشاجرة مريبة مع حراسه في إقامته الجبرية بعد أن سكروا جميعًا في عشاءٍ أقامه ليسلي نفسَه!

 كانت خشية كاثرين من إيفان أكبر، فمهما أحبها الروس لذكائها وفطنتها وحنكتها مقابل طيش زوجها، منذ كانت مجرد زوجة لولي العهد، واقتنعوا بتحولها إلى روسية أرثوذكسية مخلصة، فإنها قد نشأت كألمانية بروتستانتية، ولم تكن فردًا من أسرة آل رومانوف التي احتكرت السلطة في روسيا قبل قرنٍ ونصف من عهدها، بينما تجري في عروق إيفان دماء آل رومانوف من جهة أمه حفيدة إيفان الخامس أخي بطرس الأكبر.

زارت كاثرين في الشهور الأولى من حكمها إيفان في المعتقل، لاستطلاع حالته النفسية والذهنية والجسدية بنفسها، فاطمأن قلبها، عندما وجدته شبه إنسان شديد النحول، تكسوه عظام وجهه أطلال ملامح البراءة، وحرمته سنوات السجن والتجهيل من أي علامات للذكاء أو المعرفة تتناسب مع عمره الزمني الـ24 عامًا. ورغم ذلك، فإنها أخذت بالأحوط لها، وأمرت بتشديد الحراسة عليه وتركه في هذا المعتقل، وأوكلت الإشراف على اعتقال إيفان بأحد كبار مستشاريها، والذي جدد أمر إليزابيث بقتله فورًا عند أي محاولة للتهريب، وأمر اثنيْن من صفوة الحراس بأن يلازما الزنزانة دون إجازات، مع وعود لهما بمكافآتٍ سخية، وألا يصل إلى الزنزانة سواهما وقائد الحصن، كما أمر بألا يُجلَب الأطباء له في حالة إصابته بمرضِ شديد!

وهكذا أصبح إيفان تحت رحمة اثنين من الحراس شبه المحبوسين معه، والذين يحق لهما إراقة دمه عند أدنى شك في وجود محاولة لتهريبه، ومحرومًا من الرعاية الطبية العاجلة. باختصار، يتعرض لمحاولة اغتيال مزمنة بالقتل البطيء أو السريع أيهما أقرب.

ميروفيتش: وإذا كانت الأحقاد كبارًا

كان فاسيلي ميروفيتش ضابطًا صغيرًا من أصول أوكرانية، نُقل للمصادفة إلى حامية الحصن الخارجي لمعتقل شليسلبرج. وكان جده من النبلاء، لكن غضب عليه بطرس الأكبر عام 1709م، عندما تحالف مع أحد خصومه، فصادر بطرس كافة ممتلكات الأسرة، فنشأ فاسيلي فقيرًا ممتلئًا بالحنق والغضب لإحساسه بأنه كان يستحق في حياته ما هو أفضل، فانهمك في لعب القمار من أجل الثراء، فعاد عليه بالديون والإحباط.

راسل البلاط الروسي كثيرًا، لا سيّما في عهد كاثرين، من أجل إصدار عفوٍ عن أسرته، وإعادة الاعتبار لها وشيءٍ من ممتلكاتها، لكن رفضت طلباته مرارًا وتكرارًا، وتعرض لكثير من الإهانة والازدراء، مما ألهب أحقاده أكثر فأكثر.

لم ينسَ ميروفيتش أبدًا شعوره الجارف بالحنقِ والغضب عندما أخبره الدوق راتسموفيسكي، أحد أبرز رجال البلاط الروسي، والقائم على شؤون أوكرانيا، أنه لا جدوى من محاولاته لاستجداء ثروة عائلته من الإمبراطورة، ثم أخذ ينصحه في حكمةٍ استفزازية قائلًا:

تقدم في حياتك العملية أيها الشاب، واقتنص الفرص، واجتهد في صناعة ثروتك الخاصة كما يفعل الجميع

قرَّر ميروفيتش أن يقلبَ روسيا كلَّها رأسًا على عقب، ويدبر انقلابًا ضد الملكة كاثرين، ويُنصِّب مكانها الإمبراطور الحبيس إيفان السادس، القابع في إحدى زنازين الحصن الذي يعمل في حاميته، ثم يطلب من إمبراطوره أن يعيدَ إليه حقوق أسرته وأكثر. كانت المفارقة أن النموذج المباشر الذي آراد ميروفيتش السير على منواله في مشروعه الانقلابي كان ضابطًا غير عالي الرتبة يُدعى جريجوري أورلوف، والذي كان عشيقًا للملكة كاثرين، ولعب دورًا كبيرًا في نجاح انقلابها ضد زوجها الإمبراطور بطرس الثالث عام 1762م، ومن ثمَّ أغدقت عليه كاثرين بالمناصب والعطايا.

هذا ما لم يسمع به إيفان من قبل!

كان من الصعوبة بمكان أن تصدِّق الإمبراطورة كاثرين أن تلك الثورة الخطيرة التي قُتِلت في مهدها، كانت محض عملٍ طائشٍ من فردٍ واحد فحسب، ففي اعتقادها أن لعبة عروش بتلك الخطورة لا بد وأنها من تدبير مؤامرةٍ كبرى
روبرت ماسي، كتاب «العظيمة كاثرين»

تضخَّمت الفكرة في ذهن ميروفيتش، وسيطرت عليه لأشهر، فبدأ يخطط لكيفية اقتحام الجزء الداخلي من الحصن، والولوج إلى الزنزانة. واقتنع ميروفيتش بأن كثيرين سيؤيدونه، لأنهم يرون كاثرين مغتصبةً لعرش آل رومانوف، كما أنها أغضبت الكنيسة عندما تلكأت في إعادة ما صادره بيتر الثالث من ممتلكاتها وأرصدتها، وكان ميروفيتش رغم انهماكه في الخمر والميسر، يعتبر نفسها مسيحيًا متدينًا.

رتَّب ميروفيتش خطة مع أحد زملائه الضباط في الحصن، لكن هذا الأخير أرسل في مهمة مفاجئة قبل التنفيذ بأيام، فانتقل ميروفيتش إلى الخطة ب، وشرع في إقناع صغار الجند في الحصن بخطته، وبالمجد الذي ينتظرهم جميعًا، فاقتنع بعضهم رغم كثير من التردد والخوف، وبالفعل في ليلة 4 يوليو/تموز من عام 1764م، دوَّت أصوات الطلقات داخل المعتقل الحصين، وعندما هبَّ قائد الحصن لتفقد الأمر، كان نصيبه ضربة موجعة بظهر بندقية ميروفيتش، أفقدته الوعي.

ولحسم المعركة سريعًا مع حامية الجزء الداخلي للحصن المحتوي على الزنزانة، استخدم الضابط الغاضب مدفعًا، فاستسلم المدافعون على الفور. لكنه ما كاد يصل إلى الزنزانة، حتى كان الحارسان قد نفذا التعليمات التي أصدرتها الملكة إليزابيث قبل سنوات، وثبَّتتها كاثرين، وقتلا الملك المسكين الأسير المغلوب على أمره مع سماعهم أصوات الطلقات الأولى، واستعادا حريتهما الشخصية التي كانت مربوطةً بوجوده. أما ميروفيتش، فقد غلبته الصدمة، واستسلم على الفور.

المصير المحتوم

 بعد سردنا للخلفية التاريخية للأحداث، أظن أنه لا يوجد مساحة للتعجب – وإن كان هناك ألف مساحة للاستنكار – من أن الحارسين القاتلين لم يُوَجَّه لهما مثقال ذرةٍ من لوم، إنما على العكس، أُغدِقَت عليهما المكافآت من قبل الملكة التي لم يغلب قلقها من أنباء المحاولة الانقلابية الموؤدة في مهدها، إلا السعادة الغامرة بأن خلصتها الأقدار- عمدًا وبغير عمد – من خطر هذا الأسير الملكي دون أن تبدو كقاتلة أمام العامة والخاصة في روسيا، فالرواية الرسمية التي ستتناقلها جلسات (التوك شو) في أنحاء روسيا، تذكر أن إيفان قد قتل بالخطأ في تبادل لإطلاق النار بين الإرهابيين المتمردين، والحراس الشجعان.

أمرت كاثرين بعقد محكمة خاصة عاجلة لميروفيتش يرأسها ممثلون من النواب والكنيسة وقادة الجيش والبحرية، وأصر ميروفيتش على تبرئة كل من شاركوه من المسؤولية، وطالب بأن يتحمَّل وحده عواقب تلك المحاولة، وأثناء التحقيق معه، وجه انتقادات لاذعة للملكة كاثرين وطريقة صعودها العرش وسياساتها في الفترة الأولى من حكمها.

لم تتردَّد الملكة في التصديق يوم التاسع من سبتمبر عام 1764م، على حكم الإعدام بضرب العنق، الذي أصدرته المحكمة الطارئة بحق الضابط المتمرد ميروفيتش وكان هذا هو الحكم الأول بالإعدام الذي يُصدّق إمبراطور روسي على تطبيقه منذ 22 عامًا.