في بيان مفاجئ للجميع أعلنت رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، عزمها الاستقالة مطلع فبراير/ شباط 2023. جاسيندا صرحت أمام أعضاء حزب العمال الذي تنتمي إليه بأنها لم تعد تملك الطاقة للمواصلة أو لتولي المسئولية لأربع سنوات أخرى مقبلة. كانت السيدة في عطلة صيفية قبل عودتها بهذا البيان. وأضافت أنها حاولت أن تجد في عطلتها الطاقة للمواصلة، لكنها لم تفلح.

أرديرن كانت قد كوّنت حكومة ائتلافية عام 2017، وقادت حزبها لفوز ساحق في الانتخابات التي أجريت بعد تشكيل الحكومة بثلاث سنوات. لكن استطلاعات الرأي الأخيرة كشفت تراجعًا في شعبيتها، وهو ما لمحت إليه شخصيًا في بيان الاستقالة لكن بصورة معكوسة. فقد صرّحت بأنها لا تستقيل لاعتقادها أنها لن تستطيع الفوز في الانتخابات المقبلة، بل إنها متيقنة أن حزبها سوف يفوز.

الانتخابات المقبلة التي ينتظرها الشعب سوف تجري في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وسوف تحتفظ أرديرن بمنصبها النيابي حتى ذلك الحين. لكن في موعد أقصاه 7 فبراير/ شباط 2023 ستخرج من رئاسة الوزراء، بعد أن يكون حزب العمال قد انتخب زعيمًا جديدًا له.

حاولت جاسيندا أن تنهي الجدل قبل أن يبدأ حول أسباب استقالتها. قالت إنه لا توجد أي أسرار وراء استقالتها، وإنها مثل أي إنسان آخر، يُقدّم أفضل ما لديه لأطول فترة ممكنة، لكن في لحظةٍ ما يحين وقت النهاية. وأردفت أنه مع منصب مهم مثل رئاسة الوزراء تقع على عاتق الشخص مسئولية عظمى، مسئولية معرفة متى يكون هو الشخص المناسب للقيادة، ومتى لا يكون.

نيوزيلندا تحت التاج البريطاني

رغم تلك المحاولة فإن ذلك لم يمنع من التكهنات التي ملأت الأجواء حول أسباب تلك الاستقالة. خصوصًا أنها استقالة جاءت بعد تحديات كبيرة واجهتها السيدة واستطاعت التغلب عليها. ووضعت جاسيندا ضمن قائمة أعظم قادة العالم التي تصدرها مجلة «فورتشن». كما أنها كانت تلقى دعمًا كبيرًا من النساء في شعبها، وحول العالم، كونها ثاني رئيسة وزراء تلد أثناء المنصب، بعد رئيسة الوزراء الباكستانية بنظير بوتو. يأتي ذلك بعد كونها أصغر رئيسة وزراء في العالم، حيث تولت المنصب في عمر 37 عامًا فقط.

التعامل الشعبي مع رئيسة الوزراء صغيرة السن، التي ولدت بعد 8 أشهر فقط من توليها المنصب، كان تعاملًا هادئًا مثل الدولة نفسها. تتآلف الدولة من 600 جزيرة تقع جنوب غربي المحيط الهادئ. من يشغل منصب رئيس الوزراء يُعد الحاكم والقائد الأعلى لمملكة نيوزيلندا، ويُعتبر نائب الملك البريطاني على الدولة. فنيوزيلندا هى إحدى الدول التابعة للتاج البريطاني.

فنيوزيلندا تتبع نظامًا ملكيًا دستوريًا، رغم عدم امتلاك الدولة لدستور خاص بها. لكن تسير أحوال البلاد طبقًا للدستور الذي صدر عام 1986. ويختار ملك بريطانيا الحاكم العام لينوزيلندا بناءً على تزكية رئيس مجلس الوزراء. لكن في حال اختلف الحاكم العام عن رئيس مجلس الوزراء لأي سبب، فإن السلطة التشريعية الحقيقية تقع في يد مجلس الوزراء والبرلمان. ولا يمكن للحاكم العام ممارسة أي سلطة دون مشورة، وموافقة، البرلمان ومجلس الوزراء.

فمنصب الحاكم العام نفسه قد نشأ نتيجة عرف قديم في مستعمرة نيوزيلندا البريطانية سابقًا. ثم جرت العادة لاحقًا أن يكون الشخص هو نفسه زعيم الحزب الذي حصل على أغلبية في البرلمان. وبدأ العمل بتلك الأعراف عام 1983 حين أصدرت الملكة إليزابيث قرارها الذي عُرف ببراءة تمليك، حين تمنح الحاكم العام سلطات الملك بالإنابة. ولا يوجد نص تشريعي يحدد مدة الحاكم العام، لكن تعارف الساسة في نيوزيلندا على أن يبقى في مصنبه لمدة 5 سنوات.

الأسباب الحقيقية للاستقالة

التشهير وسوء المعاملة هو العنوان الأبرز الذي نقلته صحيفة «الجارديان» البريطانية في محاولة استقصاء حول الأسباب الحقيقية وراء استقالتها. وهو ما يتوافق معه عدد كبير من الساسة حول العالم. ديبي نجاريوا، زعيمة حزب الماوري، قالت إنه تم طرد جاسيندا من منصبها بعد شخصنة القضايا معها، وتعرضها للتشهير. وإنها تعرضت خلال العامين الماضيين لأبشع حملات الإهانة السياسية على الإطلاق.

توافق على ذلك أيضًا كيت هانا، مديرة مشروع التضليل عبر الإنترنت ومراقبة التطرف، أن برنامجها البحثي رصد زيادة غير مسبوقة المواد المسيئة والتهديدات الموجهة لشخص جاسيندا. لافتةً النظر إلى أن ذلك من العوامل المؤثرة بصورة كبيرة في قرارها الاستقالة من منصبها. وأضافت هانا أن الأمور وصلت إلى تهديدات بالقتل، وبعمليات عنيفة ضدها وضد أفراد أسرتها.

أما بديل جاسيندا فبات هو الآخر محل عديد من التكهنات. لكن سريعًا ما تلخص الأمر في شخص وزير التعليم كريس هيبكينز، حيث كان هو المرشح الوحيد الذي أعلن نيته خوض السباق. لكن يتعين عليه الحصول على تأييد زملائه في حزب العمال، لكن كونه الوحيد الذي ترشح للمنصب يعني أن تأييد زملائه له مجرد إجراء شكلي فحسب.

إذا تراجعنا خطوتين للخلف كي نرى الصورة الكاملة، فسنجد أن جاسيندا واحدة ضمن عديد من السياسيين الذين باتت أعمارهم قصيرة في المناصب المهمة. مثلًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حكم لولاية واحدة فحسب. وإيطاليا شهدت 6 رؤساء للوزراء في 10 سنوات. أما بريطانيا فشهدت موجة من تعاقب رؤوساء الوزراء أُطلق عليها إعلاميًا موجة الباب الدوّار. وبعيدًا عن بريطانيا فالعقد الثاني من القرن العشرين شهد ظهور 68 زعيمًا جديدًا. لكن شهدنا تولي 22 زعيمًا جديدًا للسلطة في السنوات اللاحقة لموجة كوفيد- 19 فحسب. النمسا وحدها بدّلت 8 رؤساء، واليونان 7.

أعمار الساسة باتت قصيرة

حاول عديد من أساتذة السياسة تفسير تلك الظاهرة. قدّموا تفسيرات مختلفة، لكن معظمهم اتفق على نقاط محددة. أبرزها هو اتهام مواقع التواصل الاجتماعي بأنها السبب الرئيس في تلك المسألة، وما توفره من تداول للأخبار على مدار الساعة. يفسر المحللون تلك الإجابة بأنه في الماضي كان للقادة الوقت الكافي للتفكير في الأخطاء، وصياغة ردود محسوبة بدقة.

لكن بعد ظهور الإنترنت بدأت الوسوم في السيطرة على السياسة. فأصبح الناس يسألون قادتهم لحظيًا، ويطالبونهم بالاعتذار فورًا. كما أن تبني أي مسئول لسياسة غير مقبولة بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي بات يُقابل الهجوم المباشر، وطلبات الاستقالة فورًا، دون حتى أن تدخل تلك السياسات حيز التنفيذ. وبات مطلوبًا من المسئولين الرد على بريدهم الإلكتروني في كل لحظة، ومخاطبة الناخبين بشكل مستمر.

فمعدل التقلب السياسي بات أكبر من أي وقت مضى. فمثلًا في بريطانيا بدّل أكثر من 60% من الناخبين البريطانيين انتماءاتهم الحزبية على مدار السنوات العشر الماضية. ما يعني أن الزمن القديم للولاء الراسخ الذي لا تبدله الأزمات قد ولى. لذلك أصبح القادة الأصغر يغادرون مناصبهم أسرع. بعد أن كان الساسة يغادرون المناصب قديمًا بسبب اعتلال صحتهم وقرب وفاتهم. لكن حاليًا باتت متطلبات الوظائف أكثر، والانقسامات أعمق.

كما أن سقف المتوقع من الساسة بات عاليًا للغاية، وأصبحوا مطالبين بتقديم حلول جذرية للمشاكل الضخمة، مثل مسألة جائحة كوفيد-19 أو التضخم المتصاعد يوميًا. الوجه الآخر لهذه المعضلة أن القادة الذين استطاعوا الاحتفاظ بمناصبهم لمدة طويلة يمكنهم بسهولة العودة للقيادة مرة أخرى، لأنهم بالتأكيد يمتلكون ما يؤهلهم للاحتفاظ بمناصبهم تلك المدة. مثلما فعل بينيامين نتنياهو في إسرائيل، ولولا دا سيلفا في البرازيل.

لكن ليس كل من يرحل من الزعماء يُنسى سريعًا، فجاسيندا أرديرن مثلًا ستظل عالقة في أذهان شعبها، الذي تلقى الخبر بصدمة كبيرة، وفي أذهان عديد من الساسة العالميين الذين كانوا يرون فيها نموذجًا لإعادة تشكيل السياسة الغربية البراجماتية إلى نوع جديد يمزج المصلحة بالإنساني.