مع كل نهاية نهار بضاحية «كينينجتون» في لندن، عقب الانتهاء من الواجبات المدرسية، تجد العديد من الأطفال يخرجون في جماعات متفرقة، وبطاقة أكبر من تلك التي دخلوا بها المكان نفسه في الصباح، من بينهم العديد من ذوي البشرة السمراء الذين يعانون تنمرًا وعنصرية واضحة مهما بدا من العالم عكس ذلك، لا يوجد منقذ لهؤلاء سوى أن يكون أحدهم طفرة فيما يُحب، غالبًا يميلون للعنف كسلاح ردع ضد المعتدين.

بتركيز أكثر نجد أن هناك من بينهم طفلًا منطويًا، يبدو مختلفًا عمن حوله، ناظره إلى أسفل دائمًا، ليس خجلًا، لكن بحثًا عن شيءٍ ما يسمح تكوينه بأن يُركل ككرة القدم. يترك كل من حوله ليحتفل في ذاته بحجر صغير دخل لتوه بين أقدام أحد زملائه، تمامًا كما خطط قبل تصويبه، فإذا كنت ناظرًا لذلك المشهد بتلك الدقة، أتتوقع أن يصبح ذلك الفتى مُحركًا لثورة شبابية ضخمة فيما بعد؟


فوائد أخرى للاستعمار

كان للدول الأوروبية والقوى العسكرية قديمًا الكثير من الجولات في البلدان والجزر الفقيرة حول العالم، الطموح آنذاك كان في زيادة السعة اليابسة أو الممتلكات من الأراضي، رميًا إلى الحصول على خيرات بشرية وطبيعية تزيد من طغيان تلك البلاد. في الغالب يأتي تاريخٌ تنتهي فيه علاقة الاحتلال تلك بين كلا الطرفين، لكن الارتباط العاطفي واللغوي يظل متفشيًا حتى تواريخ بعيدة.

في أغسطس/آب من عام 1962،انتهت علاقة المملكة المتحدة البريطانية بجزيرتي ترينيداد وتوباغو كمحتل، لكن بقت إنجلترا ودولها المجاورة هي الحلم بالنسبة لكل عائلة تطمح لعيشة أفضل مما في بلدهم اللاتيني، فتسرع إلى الهجرة نحو أبواب المجد في أوروبا. من بين هؤلاء نجحت أسرة فقيرة في أن تضع مولودها الأول بالعاصمة هناك، وتقرر أن يكون اسمه «جادون سانشو».

شهد يوم الـ25 من شهر مارس من العام الأول بالألفية الجديدة، ميلاد طفل أسمر بأحد الأحياء الفقيرة بالعاصمة لندن. طوال طفولته، كان لا يعرف سوى كرة القدم رفيقًا في الشوارع والطرقات من وإلى المنزل. لم يكن هناك أي مكان آخر لممارسة تلك اللعبة التي تعلق بها بشكلٍ واضح بالرغم من كل ما يحيط به.

جادون سانشو متحدثًا عن طفولته

نشأ الطفل في ظروفٍ شاقة جدًّا، صعوبة بالغة في كسب العيش وحياة مليئة بالمتاعب والأذى من كل المحيطين. يؤكد الكثير أنه خلال عام 2014 لم يتمكن من مشاهدة بلاده إنجلترا في كأس العالم لأنه فشل في الحصول على بث تليفزيوني بشكلٍ سليم.


الشارع أفضل أم الأكاديمية؟

قضى ذلك الطفل الغريب عن شوارع لندن سبع سنوات بداخلها، مارس فيها كرة القدم بشكل غير معتاد عن تلك التي تمارس داخل الأندية والأكاديميات، مراوغات غريبة، أغراض شبه ثابتة عند الجميع: الأهداف، وكذلك سرعة نسق لن تجدها في خارج ذلك النطاق أبدًا.

لكن وجد أحدهم فيه فرصة للانضمام إلى أكاديمية واتفورد، بما يمكن اعتباره البداية الحقيقية، ليجد ذلك الطفل مكانًا طبيعيًا لتفريغ طاقته تجاه تلك اللعبة. وكون السنوات الأولى لم تكن بالبالية أو الضائعة، بل كانت حجر الأساس الأهم،حسبما يعتقد «دان ميتشيتشي»، مدربه في المنتخب الإنجليزي تحت سن 15 و16 عامًا، فكذلك يمكن اعتبار قصته بالكامل بداية عصر جديد من اللاعبين الإنجليز.

يعد «سانشو» أحد الأمثلة النادرة جدًّا من لاعبي منتخب إنجلترا الذين تعلموا أسس اللعبة من الشارع وليس الأكاديمية. تميل الأسر الأوروبية في الغالب إلى الدفع بأبنائهم إلى الأندية لتبني موهبتهم، بالطبع تلك الخطوة مهمة لكي يدخل في عملية تشكيله كلاعب بصورة طبيعية، لكن لتلك الأزقة الشعبية قيمة كبيرة لا تعرف في أوروبا قدر ما تعرف في البلاد اللاتينية، خاصة البرازيل والأرجنتين.

نعود لرأي «ميتشيتشي» الذي يرى أن الأكاديميات الرياضية لا تبني اللاعب من الأساس لكنها تُكمل بناءه، فهم يحصلون على لاعب متكون بنسبة 90% أو %95 في بعض الأحيان، تلك النسبة تُعُلِّمَت مفرداتها خارج أسوار النادي، في حالة سانشو كان ذلك في الشارع، الأمر بعد ذلك يقف أمام احتمالين، إما البناء فوق تلك النسبة بـ10% من الالتزام الخططي وأمور أخرى، أو تدمير الـ90% بالكامل. قصة برازيلية خالصة على ما يبدو.

يؤكد كل المدربين الذين تولوا مسئولية الإنجليزي الصغير في أكاديمية واتفورد ذلك، حيث قالوا إنه قد انضم لهم بمجمل مهاراته تلك، لم يضيفوا شيئًا لها، لكنهم فقط أضافوا له الالتزام وكيفية تطويعها في الملعب بعيدًا عن الأرصفة وجدران البيوت. حسب رأي «ميتشيتشي»، فإن الحياة الأولى لمعجزتهم المنتظرة قد أضافت له القدرة على اللعب في مناطق ضيقة بحيث يستطيع فيها التغلب على لاعب بدلًا من الاضطرار إلى تمرير الكرة، كما يمكنه القيام بذلك بطرق متنوعة، وأيضًا قدرات الركض بالكرة بسرعة وفي كلا الجانبين وبكلتا القدمين.

آخر مثال كان لديه الفرصة لتدشين تلك التجربة كان الإنجليزي «جو كول» لكنه لم يمر بالتجربة بنفس النمط، بما جعل النهاية غير سعيدة، أما في الحالة تلك فإن مدرب منتخب إنجلترا للشباب سابقًا يظن أنه في حالة إطلاق العنان لناشئ أكاديمية واتفورد فإن إنجلترا ستحصل على نيمار الناطق بالإنجليزية.


الهجرة الشبابية من إنجلترا

بعد المدرسة، كنت أرى الجميع من حولي يقومون بأشياء سيئة، لم أرغب في مشاركتهم، فقط وددت أن ألعب كرة القدم ليس إلا.

لم يشك أحد للحظة أنه أمام موهبة تُشكَّل على مهل.تصارعت الأندية على ضمه في طور الشباب من أكاديمية واتفورد، على رأسها جاء أرسنال وتشيلسي، لكن في عمر الـ14 كُتب له هجرة جديدة يعيشها هذه المرة بعيدًا عن أهله، في أقصى البلاد بأكاديمية مانشستر سيتي الذي نجح في ضمه بـ66 ألف جنيه إسترليني قابلة للزيادة، بالإضافات إلى ما يجعلها نصف مليون إسترليني.

استمر الأداء على حالته في الجانب الأزرق من المدينة، أهداف كثيرة، العديد من صناعة الفرص، انضمام إلى كل فرق الأعمار السنية الدنيا من المنتخب الإنجليزي تقريبًا، والأنظار مازالت تتابع ذلك الإنجليزي الذي يؤدي بشكل غير معتاد. حصل على فرصته الأولى بالتدرب مع فريق «بيب جوارديولا»، وكانت تلك رغبته الأسمى، حيث وجد في نفسه دائمًا قدرة على الأداء في الفرق السنية الأكبر، لكنه سريعًا ما أعلن العصيان على إدارة فريقه.

كما كان دخول سانشو مجال كرة القدم قادمًا من الشارع مباشرة ثورة في تكوين اللاعبين الإنجليز، فكذلك ما قام به مع الـ«سيتيزنس» يعد ثورة مكتملة الأركان. وجد الإنجليزي الشاب نفسه خارج قائمة فريقه المسافرة إلى جولة التحضير للموسم الجديد 2017/18، ما يعني أنه خارج أفكار مدربه الإسباني، مباشرة قرر الرحيل عن النادي بالرغم من الوعود الضبابية بفرص مشاركة مستقبلًا أو حتى مقابل مادي ضخم.

بإتمامه الـ18 من عمره ذهب في رحلة جديدة مع بوروسينا دورتموند الألماني، حيث وجد الشاب الإنجليزي نفسه ينفجر بشكل خرج عن توقعات الجميع، لكن المفاجأة الكبرى كانت مشاركته مع منتخب إنجلترا وهو لا يلعب لأي نادٍ محلي في أي درجة، حدث ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني وللمرة الأولى منذ عام 2009، وهو ما يُحطم الصنم الأكبر الذي يعتمد عليه جيله من المواهب الشابة، الذين مايزالون -حتى الآن- في انتظار الفرصة لمفارقة دكة البدلاء بأنديتهم، في حين يصنع رفيقهم المجد، فقط لأنهم يعتقدون ألا فرصة في المنتخب طالما كنت لاعبًا خارج البلاد.

يمكنك أن ترى المواهب تبرز وتدفن في إنجلترا بلا فرص في الظهور، وهو ما يعود سببه إلى قوة الدوري الإنجليزي الذي هو الآن الجاذب الأول لكل اللاعبين من كل العالم، ما يعني أن اللاعب الشاب لن يملك فرصة للمشاركة بدل صفوة اللاعبين الكبار، وهو ما تأكد منه جادون سانشو حينما علم أنه سينافس «رياض محرز»، الثنائي «سيلفا»، «ستيرلينج» وغيرهم.


مثلث برمودا الإنجليزي

على المستوى الدولي، ساعد التريندادي الأصل منتخب بلاده الجديدة في الوصول إلى نهائي كأس العالم تحت 17 عامًا، بتسجيله خمسة أهداف وصناعة مثلها، خسارة المباراة بركلات الجزاء لا تعني شيئًا، لأن الإنجاز كان في الوصول نفسه وفي تكوين جيل كبير من المواهب الصغيرة التي يجب أن يعتمد عليها منتخب الأسود الثلاثة لتخطي الأزمة الدولية الطاحنة التي يعانيها منذ سنوات.

لكن ما يقلق الجميع حول عدم إتمام ذلك هو أنها ليست المرة الأولى التي تملك فيها إنجلترا منتخبًا مميزًا أو مواهب شابة واعدة، لكنها سرعان ما تقتل بفعل الإعلام. الآن يمكنك أن تشعر بالخفوت الواضح في مستوى «ماركوس راشفورد» وصديقه «لينجارد»، لا يعود ذلك فقط لإصرارهم على البقاء في البلاد، لكنه كذلك بسبب الآلة الإعلامية المميتة لدى بلادهم.

تشتاق الجماهير الإنجليزية، ومن بينهم الصحفيون، إلى وجود موهبة تُبنى عليها آمال العودة، ذلك الاشتياق يُعجل دائمًا من قتل أي فتى يبدي تحسنًا ملحوظًا، زيادة التقييم وتضخيم قدراته وإمكانياته تُصيب رحلته المهنية في مقتل لا يمكن الشفاء منه.

ما يجب أن يتفاداه جادون سانشو خلال سنيه الأولى كلاعب هو الإعلام الوطني والمحلي، وهو ما يبدو أنه يدركه جيدًا لعدم ظهوره في لقاءات صحفية عديدة بالرغم من حجم إنجازه في سن صغيرة. في حال استمرت التجربة بنفس النمط ربما تحصل إنجلترا على نيمار الحقيقي الذي يقود أحلام البلاد إلى الألقاب الغائبة عن مهد كرة القدم.