في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا.
الحرافيش

في عام 1977، قدم «نجيب محفوظ» ملحمة الحرافيش، التي تدور في عشر حكايات عن مسيرة آل الناجي، الذين بدأت ذُريتهم من صُلب عاشور الناجي الكبير، رجل رأى في أحلامه وباء يجتاح القاهرة فلجأ للصحراء مع زوجته وابنه، وعندما عاد لحارته وجد الوباء قد أكل الأخضر واليابس، وقبض الأرواح كلها لبارئها، بدا عاشور مثل نوح بعد الطوفان، عليه أن يؤسس من جديد حارته ويتولى منصب «الفتوة» أو القيوم بمزيج من القوة والعدل على تسيير مقادير عالمه المُصغر، من هنا تبدأ ملحمة الحرافيش في حارة تُعد تنويعًا مُصغرًا عن الوجود الإنساني كُله.

يقدم السرد عشرة أجيال متتابعة في حكاية قوامها حارة صغيرة ودلالتها وجودية ثقيلة حول العدل والظلم، الخضوع والثورة، الإنسان بمحدوديته والإله المحتجب بجبروته وغموضه.

تُشبه تجربة قراءة الحرافيش أن تُجبر على تأمل تُفاحة نضرة ثابتة على غُصنها حتى تسري عليها شروط الزمن، فتزول نضارتها ثم تتجعد ثم تختمر ثم تتعفن ثم تصير تُراباً، هذا ما فعله نجيب محفوظ، صنع سردية سحرية تجعلك عالقًا مكانيًا في حارة لا تتغير معالمها بينما مُبحر زمنيًا في هشاشة المخلوق الإنساني الذي مهما فعل لن ينال الخلود وستسري عليه عوارض الزمن. 

تزخر ملحمة الحرافيش بعديد من مستويات الدلالة في قراءة النص، يُمكن قراءتها كملحمة شعرية أو مانيفستو سياسي أو تأمل وجودي مُفعم بالرمزية، ويُمكن كذلك قراءتها باعتبارها مُفاوضة مطولة بين المخلوق الإنساني ومُعضلة فنائه وهو ما سيركز عليه هذا المقال من خلال شخصية جلال الناجي، الشخصية التي تكثف فيها حضور مُعضلة الفناء والخلود في ملحمة الحرافيش.

آل الناجي، سلالة تبحث عن الخلود

عاشور حي أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى.
جلال الناجي

يرى الفلاسفة أن منبع مأساة الإنسان الوجودية أنه المخلوق الوحيد المُدرك لموته، قهرته ألوهة ما على الوجود ولم تتركه يتنعم بوهم الخلود، إنما همست له في كل أديانه ومذاهبه أنه سيموت.

كان «الفتوة» في ملحمة الحرافيش الشخصية الفلكلورية الشعبية التي اختارها محفوظ لتكون الحامل الأساسي لهذا القلق الوجودي لأنه دور يستدعي من صاحبه أن يتأله ولو قليلًا، بينما تسري عوارض الضعف على البشر العاديين، أقل بادرة ضعف من الفتوة تُفسد نظام عالمه لأنه الرجل القيوم على حفظ التوازن بين طبقاته من وجهاء وحرافيش، أقل بادرة بشرية من ضعف وتعب تُغري به الآخرين، وتُسرب من بين يديه مقاليد التوازن في مجتمعه الصغير، هذا رجل لا بد أن يتمظهر بثوب الإله، ولو التقطت العين تجعيدة واحدة من ضعف إنساني في هذا الثوب ستنقض على بشريته وتفترسه، لذا في جانب منها رواية الحرافيش بأبطالها الفتوات هي صراع الإنسان مع رغبة مُلحة في الخلود، في التأله، في مقاومة الشرط الإنساني، ورغم أن الموت هو اليقين الوحيد لجميع البشر منذ بدء الخليقة، حقيقة كئيبة لا يُفلت منها أحد إلا أن الغواية الأساسية التي تُقدمها الرواية وتُحرك السرد هي أن عاشور الناجي الكبير، رجل حقق كمال أسطورته بمراوغة الموت، وبينما سيزيف في الأساطير الإغريقية عوقب على مُخادعة إله الموت بأن يجر الصخرة لقمة الجبل ويُفلتها لأسفل في دائرة أبدية من التكرار، إلا أن عاشور كان أكثر حذقًا، لم يمت ولم ينل الخلود، بل حقق كمال أسطورته بأنه اختفى، ليترك التأويل عبء القادمين خلفه إما بالاغتواء بحلم الخلود أو قبول خرافة توهمهم أنهم من نسل الخالدين.

Sisyphus, 1548 by Titian

ما جعل «عاشور الناجي» خالدًا في منصب الفتوة كمثال يحاول الجميع مُطاولته أنه لم يضطر لدفع ضريبة الخريف لجبروت الفتوة، أنه أعفى الجميع باختفائه المربك من مشهدية ضعفه وترهله وموته، تفاحة تسللت خلسة من شجرتها في عز نضجها فتركت للجميع ذكراها النضرة وحلم الإفلات من الذبول.

تزخر الأديان بفكرة المهدي المُنتظر، الشخص الذي بُترت قصته في موضع ما وسحبته قوة خارقة بخفة من سياقه، ليظل قوسه مفتوحًا، وهذا خلود سلبي، خلود لا يتمظهر بقوته إنما يتظهر بمجهولية نهايته، قوس قلق لم ينغلق وترك فُرجة أمل في إفلات ذرية الناجي من شرط الموت. 

أن تُطارد الخلود بدلًا من انتظار الموت

الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته. والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة ولكنه يحمل نهايات متناقضة. فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء.
الحرافيش

يسري قلق الذبول والموت في حكاية كل فتوة، بدءًا من «شمس الناجي» الذي تمنى الموت قبل الذبول بقوله: 

أتدرين ما هو الدعاء؟ أن يسبق الأجل خور الرجال.

وصولًا لجلال الناجي الذي يُمثل ذروة هذا المحور من ملحمة الحرافيش، الطفل المسكين الذي لم يُلقن حقائق الوجود والذبول على مهل إنما فطن لهشاشة ظرفه الإنساني في لحظة مُزلزلة عندما رأى رأس أمه يتحطم أمامه. أمه «زهيرة» التي بالغ نجيب محفوظ في إبراز جماليتها وسحرها بينما تغنت الرواية -كملحمة ذكورية أبطالها فتوات- في كل مواضعها بقوة وبأس الرجال، فصارت إلهة أنثوية متجبرة في سرد أبطاله رجال، إلهة تميل لها القلوب الرجولية بسكرة مُستسلمة خالعة عنها الحول والقوة، سمى محفوظ حكايتها «شهد الملكة»، ملكة نحل الرجال في شرك عسلها شغيلة وخدم طيعين. 

كل هذا الجمال الشهواني الحي لم يشفع له شيء أمام شرط الوجود، انسحق وتكشف عن جمجمة قبيحة ودماء أمام عيني الطفل جلال الناجي والمرة الوحيدة التي أحب فيها جلال امرأة غير أمه اختطفها ملاك الموت بالمرض، فبدا الموت منذ تلك اللحظة عدوًا مُتربصًا بكل ما تعلق به جلال يومًا.

بينما حمل الشيطان الاحتجاج الأثير على حكمة الله في تراتبية القوة في العالم، بين النار والطين، حمل جلال الناجي المانيفستو البشري في الحرافيش ضد شرط الوجود والفناء، ضد اختبار الدنيا برمته أو خصوصية الإنسان أنه المخلوق الوحيد الذي يعلم أنه سيموت ومُجبر على خوض اختباره كاملًا في ضوء تلك الحقيقة التي تتسلط على رأسه كمقصلة

يتساءل جلال الناجي، لماذا نُقهر على الوجود ما دام الموت هو النهاية؟

لا يدعو جلال ربه خجلًا مثل شمس الدين جده أن يموت قبل ذبول قوته إنما يتهم التكية المُغلقة أنها تؤوي دراويش خالدين وأن ترانيمها الأعجمية هي تغنيهم بالخلود الذي لا نفهمه لأننا فانون 

التكية المغلقة بترانيمها الفارسية في قلب الحارة هي رمز الألوهة الغامضة في رواية الحرافيش، ألوهة مغلقة في وجه من يتخذون الخيار السهل ولا يريدون لعب لعبة الوجود كاملة، لا بد أن تحيا ثم تتذوق الموت ثم تكشف لك الأستار، لذا جعل محفوظ كل لسان الألوهة أو ترانيم التكية أعجمي فارسي غير مفهوم، يتحدث ولا نفهم، كأنه من جنس وقوة لا تتحملها بشريتنا، لذا يؤول كل بطل على مدار الحكاية الترانيم التي يسمعها ويكسوها بطبيعة هواجسه. فماذا كانت هواجس جلال الناجي؟

فتوة يحاول إخضاع الزمن

عاشر الزمان وجهًا لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله. إنه شيء عنيد ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم. غير محتمل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارًا من الزمن. الشكوى من قصره ومروره أرحم من الشكوى من توقفه.
الحرافيش

لا يُريد جلال الناجي القوة ولا الفتونة ولا التسلط على الناس، كلها مكاسب جانبية تسقط في حجره بينما هو يسعى لشيء واحد، مُحاججة الألوهة وجهًا لوجه، الوقوف كند لها، لو لم تجبه الألوهة عن سبب الموت، عن سبب تحول التفاحة النضرة للعفن في لحظات، عن لعنته في شهود الجمال الخلاب وشهود تحطمه في لحظة، إذًا عليه أن يُفلت من المصير نفسه، بأن يتأله، يصير إله ليسائل الإله أولًا وينجو من الموت ثانيًا ولهذا الهدف سيتحرك بجنون في كل اتجاه مثل شخصية إغريقية عالقة في جحيم دائري.

يهبط لعوالم الجن السُفلية بحثًا عن حل 

يعلو بعمارة الطوب والحجر بمئذنة شاهقة كأجداده الفراعنة ليطاول السماء 

بعد كل محاولاته العبثية للخلود التي تتراوح بين الأساطير الشرقية الخاصة بالجن والماضي الفرعوني البعيد الذي تبقت منه مقابر عملاقة تطاول السماء في صورة مسلات وأهرام، يختار نجيب محفوظ لبطله التراجيدي ميتة ساخرة تُثير الشفقة، يموت في حوض الدواب مثل بهيمة، تتخيل وقتها الألوهة الروائية في عالم محفوظ كيان ساخر لم يفعل شيئًا أمام ثورة نملة إلا أن حرك إصبعًا فقط وسحقها.

في كل ملحمة وجود، يوجد ملاك ساقط

الموت لا يقضي على الحياة وإلا لقضى على نفسه.
الحرافيش

لو جسدت ملحمة الحرافيش حكاية وجود موازية لأساطير الخلق والطوفان، سيبرز فيها جلال الناجي باعتباره الملاك الساقط، الشخصية المتمردة التراجيدية التي حاولت مٌقاومة لعبة الحياة بتحدي قوانينها بدلًا من اللعب بقواعد لا يراها عادلة.

جمالية جلال الناجي أنه من الشخصيات القليلة التي لا يأسرها سرد خطي، هذا رجل مشهديته دائرية، مشهد ميلاد شخصيته وهو رؤية مصرع أمه هو مشهد نهايته، لقد تحدد مصيره وعقدة شخصيته في اللحظة التي كشف فيها الروائي عن وجوده.

L’Ange Dechu/ The Fallen Angel by Alexandre Cabanel

يتبدى «جلال الناجي» في سرد مُحكم يبني خطوطه وحكاياته بإيقاع زمني رزين، باعتباره الشخصية الأكثر حُزنًا في «الحرافيش»، بينما تجرع كل بطل فعل الزمن وألاعيبه وشرط الذبول والموت على مهل، انكشف ستار السرد عن حكمة الرواية مُكثفة وكاملة لطفل، انكشاف صوفي مهلك، لذا كل ما تلا مصرع أمه زهيرة هو تحصيل حاصل أو لوثة صوفية لمن شهد بقلبه أضعاف ما يحتمله عقله.

بينما يُريد الصوفية بعد أن ينكشف لهم وجه من الأبدية الذوبان في الألوهة لم يحدث ذلك لجلال الناجي الذي كان ملعونًا بأن ما انكشف له ليس وجهًا من وجوه الأبدية إنما وجه من وجوه الفناء فصار صوفيًا ثائرًا على شهوده تجلي الكون على قلبه في صورة الموت.

يريد الصوفي المُثقل أن يفر من صور العالم لحقيقة الإله بينما يريد جلال بصوفيته الفريدة في لعنتها أن يفر من هشاشة البشر وصلابة اختبارهم وصمت الإله عن شرح اختباره

بأن يكون إلهًا، أن يفلت من شرط بشريته 

لا يريد أن يصل لخالق اللعبة إنما يُريد تغيير شروط لعبة الوجود وأن يكون سيد اللعبة لذا لا يُخفي احتقاره للحرافيش والناس كافة لأنهم لا يثورون مثله على لعبة الوجود وإلهها إنما ينصاعون لها ويلعبونها و هم عالمون نهايتها فيقول

إنني أحتقر الحرافيش والناس كافة، لم لا يسلمون للجوع كما يسلمون للموت؟

كيف تقدم شخصية نفسها قُربانًا لنص مكتمل؟

فقال له قلبه: لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
الحرافيش

جمالية أسطورة «عاشور الناجي» الشجرة المؤسسة لكل الحكايات في عالم الحرافيش أنها أسطورة تشبه خفة القصص الدينية، يُمكن قراءتها بألف طريقة

يُمكن أن يكون عاشور وليًا، آفاق لقيط مجهول النسب، إله مُحتجب وفي سردية جلال الناجي، يُعد عاشور رجلًا فر من ظرفه الوجودي وخادع الموت بطريقة ما ولم ينل عقوبة مثل سيزيف الإغريقي 

لذا بينما أراد جميع أبطال الرواية أن يكونوا طيفًا من جدهم عاشور في فتوته وعدله و إدارته، أراد جلال أن يستأثر بألوهية عاشور التي يطرحها غيابه كاحتمال ليحل أزمة شخصيته المعقدة، تلك شخصية لا يُمكنك في طيف منها إلا أن تتعاطف معها، هذا طفل تجرع هشاشة الوجود دُفعة واحدة، وضع القدر الجمال أمامه في أبهى حُلة ثم حطمه دفعة واحدة، لذا كانت جمالية السرد في حكاية جلال الناجي عدوانية، شرسة، جمال يفر من حُطامه الموجود كمقصلة في نهاية حكايته.

الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ

يفتح محفوظ الباب أخيرًا خارج متاهته المكانية لمن يمتلكون براءة الأطفال وطموح الملائكة بينما جلال كان طفلًا انسلبت براءته في لحظة ولم يجد في ملحمة الخلق أحدًا ليتماهى معه سوى الشيطان الذي يملك طموحًا يشابهه في مواجهة إله صاغ الاختبار الوجودي بتلك الطريقة 

يُعد جلال الناجي من الشخصيات النادرة جدًا في عوالم الأدب التي تُقدم تراجيديتها كقربان ليخرج المؤلف سردًا مثاليًا، وفي النهاية بينما قدم محفوظ درة أعماله كان جلال الناجي هو الشيطان الذي يمنحها كمال تمثيلها لدراما وجودنا البشري المُعقد.