كان مروره في دنيا الفن رقيقًا كالنسيم، وعابرًا كالشهاب. إنه المطرب السكندري جلال حرب (1918–2006) الذي قال عنه النقّاد إنه أقرب الأصوات إلى صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب. امتلك جلال ثقافة موسيقية واسعة، وحسًا فنيًا مرهفًا، وقدرة متجددة على التلحين. وبالرغم من ابتعاده عن الوسط الفني لفترات طويلة، فقد ظل المستمعون يحنون إلى صوته الشجي، وطلته البهية.

بحسب الموقع الرسمي لمحافظة الإسكندرية، فإن جلال هو الشقيق الأصغر لثلاثة إخوة أكبرهم «عبد الحكيم» الذي بات مديرًا عامًا لبلدية الإسكندرية، و«محمود» المهندس بالقوات البحرية، أمّا أخته فقد أرسلتها وزارة المعارف في بعثة دراسية إلى إنجلترا مع بعض زميلاتها من الجيل الأول للفتيات المتعلمات.

كان والده يعمل ضابطًا بالسواحل قبل أن يصبح مديرًا ببلدية الإسكندرية، وهو من أحد عشّاق الطرب الأصيل. فكان يجمع في صالونه كبار رجال الغناء أمثال: سيد الصفتي، وعبد الحي حلمي، والمُنشِد الشيخ علي الحارث.

كان أخوه الأكبر عبد الحكيم الذي تولى تربيته –وهو في سن الثلاث سنوات– عقب وفاة والده، عاشقًا للطرب، وعضوًا في جماعة نشر الثقافة مع أعلام من أدباء وشعراء الإسكندرية، وعضوًا بمعهد الموسيقى بالإسكندرية. كما أنه حفظ العديد من أدوار عبده الحامولي ومحمد عثمان إلى جانب الموشحات.

عندما غنّى «حرب» أمام «عبد الوهاب»

التحق جلال بمدرسة محرم بك الابتدائية، قبل أن يلتحق بمدرسة العباسية الثانوية ويؤسس بها فريقًا للموسيقى، ثم انضم إلى معهد الموسيقى بالإسكندرية. تشعبت اهتماماته بين الموسيقى وكتابة الشعر والقصص القصيرة وإتقان الخط العربي والرسم. قدّم بعض الأعمال المسرحية على مسرح المدرسة من روائع شكسبير ويوسف وهبي. أمّا إطلالته الأولى على جمهور الحفلات العامة فكانت من خلال مسرح نادي موظفي الحكومة بالإسكندرية. وبعد إتمامه الدراسة غادر إلى القاهرة، والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وكان العميد حينها د. طه حسين.

في إحدى زياراته إلى الجامعة، طلب الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يصعد إلى خشبة المسرح أحد الطلاب من أصحاب الصوت القوي، فأشار الطلاب جميعًا إلى جلال حرب. غنّى أمامه، فأُعجب كثيرًا بصوته، واصطحبه في طريق عودته إلى المنزل، لتبدأ رحلة طويلة من الصداقة بينهما. وفي العام التالي افتتحت جامعة الإسكندرية مسيرتها بافتتاح كلية الحقوق عام 1938، فالتحق بها جلال واستقر بالإسكندرية. [1]

مسيرة فنية حافلة

اشترك جلال في حفل نادي موظفي الحكومة عام 1940، وقامت إذاعة القاهرة ببثه على الهواء مباشرةً، حيث استمع إليه الملايين، وعرفوا جلال لأول مرة، ومنهم الموسيقار «مدحت عاصم»، فأرسل له منْ يستدعيه إلى القاهرة.

وتم اعتماده مطربًا ومُلحنًا، ومن يومها بدأت علاقته بالإذاعة. وأعجب به الموسيقار محمد عبد الوهاب إعجابًا شديدًا، وقال عن صوته: «إنه ملائكي، وصاحب صوت يمتاز بالثقافة والخجل»، ثم أسند إليه دور البطولة في فيلم «الحب الوحيد» عام 1945 أمام المطربة رجاء عبده، وكان من إخراج «جمال مدكور». أمّا الأغنيات التي غناها جلال في الفيلم فكانت جميعها من ألحانه بعد أن أصرّ عبد الوهاب على ذلك. [2]

اعتقد الجمهور في البداية أن عبد الوهاب هو منْ يغني، ويتخفى وراء صورة المطرب الصاعد، لقرب نبرات الصوت بينهما. تأخر تخرج جلال في كلية الحقوق، نتيجة انشغاله بالإذاعة والسينما حتى عام 1947. فعاد إلى القاهرة ليعمل في الفن والمحاماة. فأصبح من أهم المحامين، وانضم إلى عضوية نقابة المحامين، وكذلك نقابة الموسيقيين. فطالبته النقابتان بأن يختار إحداهما لأنه لا يحق له أن يجمع بين عضويتين. وفي عام 1954 تم افتتاح إذاعة الإسكندرية فعاد إلى مدينته الأم، والتحق بوظيفة بالإدارة القانونية بمرفق مياه الإسكندرية، والتي بدأ تمصيرها حينها بعد أن كانت شركة إنجليزية.

شارك جلال في مجموعة من الأفلام السينمائية منها: «الحب الأول» عام 1945، و«دنيا» عام 1946، و«أمل ضائع» عام 1946، و«حماتك تحبك» عام 1950، و«إلهام» عام 1950، و«ابن الحارة» عام 1953.

وقدّم عشرات الأغنيات المميزة أشهرها: «هي هي» من كلمات حسين السيد إلى جانب الصور الغنائية: حلقة الأنفوشي (عن الصيادين)، وسوق راتب (عن التجارة والبيع والشراء) وهما من تأليف محمد البشبيشي، وإسكندرية ماريا (عن إنشاء الإسكندرية منذ عهد الإسكندر)، ورسام (عن الفنان سيف وانلي)، ونجوم على الشط (عن مشاهير الإسكندرية).

وقدّم كذلك مجموعة متنوعة من الموشحات والأغنيات الدينية والوطنية. وقدم ألحانًا لبعض المطربين والمطربات الكبار أمثال: (سبحان اللي صوّر) لعبد الغني السيد، و(حبيبي يوم سفره) لفايزة أحمد، و(بقى كده تشغلني) لفايدة كامل، و(الحفيد) لشهرزاد، وأغانٍ أخرى لمحمد الحلو وسوزان عطية وعادل مأمون.

وفي عام 1988 سجّل مجموعة من أغنياته المتميزة مثل: (هي هي)، و(بحبك فيك إيه)، و(جوابك فين)، و(آه من قلبي)، وغيرها من القصائد والأغنيات الدينية لإذاعة وتلفزيون الكويت. وفي عام 2001 تم تكريمه بمهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة عن مشواره في الحياة الفنية. [3]

المراجع
  1. خديجة حمودة، “المطرب جلال حرب للأنباء: اكتشفني عبد الوهاب وأسند إليَّ دور البطولة أمام رجاء عبده”، الأنباء، 28 مارس 1989.
  2. المصدر السابق.
  3. صلاح البابا، “جلال حرب: المطرب قديما كان يحفر في الصخر من أجل الشهرة – تسجيل مجموعة من الأغاني القديمة والحديثة”، الرأي العام، 13 فبراير 1988.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.