القوة الكامنة هي النوع الخامس بعد أربعة أشكال مشهورة: الصلبة، الناعمة، الذكية، الإلكترونية. وتقابل من كل ذلك القوة البارزة أو الظاهرة والمتحققة. ومن ثم فهي مستوى يضم من القوى: الناعمة والصلبة وغيرهما.وقد كان ليناير في بدايتها وإبان استمرار حركتها التاريخية حظ من القوة الناعمة أساسا.مفهوم القوة الناعمة بهذا التركيب أمريكي، صكه جوزيف ناي أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي، محاولا لفت الأنظار إلى “أمريكا كنموذج” لافت أو خاطف للأنظار، وإلى عنصر الجاذبية والاستمالة كقوة تضاف للقوة العسكرية والاقتصادية في الحفاظ على المكانة والنفوذ. وجرى تعميم هذا المفهوم على أشياء كثيرة؛ منها الثورات الملونة في شرق أوروبا والقوقاز، ومنها الثورة المصرية. فقد حظيت الثورة بصورة حضارية فائقة إبان انطلاقها، وتابعها العالم بشغف وإعجاب كبيرين، عبرت عنهما وسائل الإعلام وخطابات قيادات عبر العالم، فضلا عن رسائل شعبية من هنا وهناك. وأصبح ميدان التحرير رمزا للتحرر في أرجاء واسعة، وتوقع الكثيرون مآلا مشرقا ومشرفا لهذه الثورة؛ وصار الشعار الأبرز: ارفع رأسك فوق أنت مصري.ولكن تطورات وتدهورات الثورة أورثت الكثيرين في الداخل والخارج خيبة أمل، إلى الحد الذي أطفأ بريق نموذجها الحضاري عندهم، حتى لا تكاد تلحظ استفادة فعلية نالتها مصر من هذا الانبهار الأولي كقوة ناعمة أمام العالم.فهل يبقى للسؤال اليوم عن القوة الناعمة للثورة جدوى أو أثر حتى في الداخل؟ أم هي مجرد أحلام وأوهام؟ الافتراض الذي أشعر به وأريد اختباره أنها تحولت إلى قوة كامنة محل شعور أكثر منها محل إدراك بصري مادي.وارد أن يختلط في السؤال التحري بالتمني، لكن مؤشرات قليلة تشير إلى نوع من الجدوى أو نوع من القوة لا تزال تحظى به كلمة “ثورة يناير”؛ أشبه بالقوة الكامنة.ومفهوم القوة الكامنة يختلف عن أنواع القوى التي تفتق عنها حديث القوى الناعمة، من القوة الذكية والسيبرية/الإلكترونية في سمتين:الأولى: عدم الظهور وإدراكها بالشعور القوي، الأمر الذي يظهر في التصرفات السلبية أكثر من الإيجابية، والحسابات المستقبلية أكثر من الراهنة، ومعايير النظر والتقييم والسلوك وخلفياتها، أكثر من الخطاب والسلوك نفسيهما.والثانية: الرمزية الثقيلة ولو كانت قليلة العدد؛ بمعنى أن القوة الكامنة تحتفظ برموز تاريخية أو ذاكرتية أو مكانية أو حدثية أو شخصية أو نظمية أو تأثيرية، أو شعارية، … جميعها تجعل المجتمع يشعر بحضورها مرة أخرى في الخلفيات أو وراء الستر أو تحت الرماد. ومن ثم فهي توشك أو يمكن لها أن تخرج من الكمون إلى العيان، ومن السكون إلى الحركة ومن اللافعل إلى الفعل والتأثير والتغيير في الواقع والمستقبل.

القوة الكامنة لها مصدران: الواقع والنفس: الفرديان والجمعيان ونحن نهتم بالمستوى الجمعي
والقوة الكامنة لها مصدران: الواقع والنفس: الفرديان والجمعيان ونحن نهتم بالمستوى الجمعي.والأول- الوجود أو المصدر الواقعي لها هو: العوامل الموضوعية والكسبية أي المعطيات التي تأتي من الواقع والمنجزات التي ينهض عليها الناس فعلا ولو بالكلام لكن الفعال، لكن بآثار غير ظاهرة ولا راجحة ولا رابحة في صراع القوى، أغلبها آثار تحتية وأفقية وما قبل ناضجة، وإن كانت تحتمل بعض الظهور الذي يقربها من القوة الظاهرة لا الكامنة.والثاني- الوجود أو المصدر النفسي الجمعي؛ وله بدوره وجهان:

  • شعور بالحضور والوجود لهذه القوة.
  • ورغبة في الحفاظ على هذا الشعور أو تنميته أو الرغبة في إبقاء أو حفظ القوة الكامنة نفسها فعلا.

هذه الدرجات الشعورية الإيجابية يناقضها الشعور السلبي بانطفاء شعلة هذه القوة وتراجعها ومضيها نحو التلاشي. الأخير مصدر نفي أو إضعاف للقوة الكامنة.كثيرون لا يؤمنون بالقوة الكامنة. في العلوم السياسية أرباب المدرسة الواقعية والمنهجية السلوكية يقللون جدا من شأنها ولا يرون قوة إلا ما ظهر منها وما أثر أيضا على طريقة جيمس روزيناو مثلا.القوة الكامنة لها أمثلة تاريخية وواقعية كثيرة، وإليها ننسب الأحداث والتحولات المفاجئة والشعور بالمفاجئة سببه الغفلة العميقة عنها، بينما الشعور باللحظة ناجم عن استشفاف أو شعور سابق بوجود القوة الكامنة. وهي تكبر وتصغر، ومعها يكبر شعور اليقظين بها أو يصغر بالتوازي. وحين تكبر تؤذن بالظهور والحضور وفرض آثارها. وحين تصغر يكثر التعبير عن نهايتها أو الشعور باختفائها.


في مصر جدل شعوري ثلاثي الأطراف حول يناير وقوتها الكامنة: الثورة باقية وكامنة وعوامل حفظها أو تغذية التمسك النفسي والفكري بها كثيرة، وربما عوامل تضخيمها نحو الانفجار عاجلا أو آجلا تتراكم، أو الثورة تتوارى وتتوارى وتؤذن بالمغيب والانمحاء وعوامل فعل ذلك بها ثقيلة وكثيرة، أو الثورة بين الموت والحياة.
في مصر جدل شعوري ثلاثي الأطراف حول يناير وقوتها الكامنة
هذا الجدل الشعوري يختلط بحسابات عقلية وتحليلات ذات مناهج ومنطلقات، لكن مجموع الشعور والتحليل هو ما له تأثير على الخيارات السياسية الراهنة. ويقلل البعض من قيمة الشعور كما يفعل الآخرون مع قيمة التحليل العقلي، والتاريخ يقول أن الأمران لهما دور وتأثير. فكم من حسبة عقلية غلفها شعور باليأس فكتمها أو بالأمل فأطلقها من قيودها، وكم من اندفاعة أو انفعالة نفسية حضر معها حساب عقلي فوزنها وضبطها.من هنا وجب إعادة النظر في الحسابات والمشاعر من جهة، وإعادة النظر في الهدف والوسيلة من جهة أخرى، وإعادة النظر في يناير بين كل ذلك.والمتصور: أن اليأس والانغلاق الذهني كلاهما سلبي ويجب التخلص منهما. وأن الأمل واجب، والانفتاح الفكري والتحليلي الواقعي واجب ايضا، واجتماعهما أولى وأوجب. والتواضع في القطع بالرؤى والتحليلات واجب، والحسم أو الحزم واجب، والجمع بينهما أولى وأوجب.القوة الكامنة ليناير جزء كبير منها يقع داخلنا، وجزء كبير خارجنا، والميسور لا يسقط بالمعسور، لذا حقا: اليأس خيانة، وخيابة. والعقل زينة والاتحاد قوة ولو كانت كامنة.وللحدث بقية: كيف نملك ونعظم قوة يناير الكامنة، مع النظر في العوامل التي تجتاحها وتستهدف استئصالها من الجذور؟