لا أخفيكم أمراً أني أعتبر فيلم Jeanne Dielman أحد أصعب التجارب السينمائية التي مرت عليَّ، وأجملها في الوقت نفسه. تكمن صعوبته في تجريديته المفرطة التي كادت أن تُحيله في نهاية المطاف إلى واقع لا خيال مرئي. فالفيلم خالٍ من الموسيقى التصويرية تماماً، خالٍ من زوايا التصوير السينمائية، فهو يتميز بالكاميرا الثابتة المرهقة والمملة بالنسبة للمشاهد، خالٍ من قطعات المونتاج الواضحة أو الحادة، بل إنه يكاد يخلو حتى من الحوارات.

وإن كان يفتقر لكل هذا فهو يستعيض عنه في عرض كل ما بوسعه إثارة ملل وضجر المشاهد وبعثه إلى السأم. الفيلم يُشكِّل حاضنةً وملجأً لكل ما هو منبوذ في عالم السينما. أي المشاهد التافهة والخالية من المعنى كما يراها أغلبية المشاهدين. ولكن هل هي حقاً تافهة وخالية من المضمون والمغزى؟ الفيلم سيُجيب على هذا التساؤل بكل ما يسعه من رحابة صدر وشفافية… أعدك.

شانتال آكرمان بلغت أقصى حدود السادية وتعذيب المُشاهد السطحي عند إخراجها هذا العمل وهي في مطلع عشرينياتها. فهي تجعلك من بدء الفيلم حتى نهايته حبيساً بشكل كلي مع بطلة الفيلم «جين»، التي أبدعت النجمة «ديلفين سيريغ» في أداء دورها.

ما سيحدث هو أنك كمُشاهد ستجد نفسك أسيراً لحيز آكرمان الزمكاني الممل والمحدود، ولكنها ليست بتلك القسوة إذا أردنا إيفاء قيصر حقه. فهي ستُكافئك في حال تمكنت من إتمام الفيلم بالجمال العظيم للصورة الكاملة له، إذ إنها تعمل بالمبدأ القرآني «وبشِّر الصابرين».

فيلم عن الملل

إذا كان لا بد لي من وصف فيلم Jeanne Dielman بشكل اختزالي ومُقتضب، فجل قولي سيكون هو «فيلم عن الملل ولا شيء سواه». فالملل يُشكِّل فيه الغاية والوسيلة معاً. إذ نراه يُحدِّثك عن الملل عن طريق جعلك تختبره وتحس به، فعلى حسب قول آكرمان في لقاء لها، أنها تحب أن يشعر المشاهد بنفس ثقل وألم شخصياتها الذي تشعر به حين يمر الوقت عليها.

الفيلم يسرد لنا تفاصيل ثلاثة أيام من حياة ربة المنزل، والأرملة جين وروتينها اليومي بشكل بلزاكي Balzac-esque يحرص على تصوير الحياة تصويراً واقعياً محضاً. يتجنب، بل ينفر من الإغراق في – أو حتى لمس – المثاليات في أسلوبه.

هنا ستشاهد جين وهي تطبخ، تأكل، تشرب قهوتها، تُنظِّف حذاء ابنها، تحيك الملبوسات، تستحم … وإلى ما آخر تفاصيل حياتها بشكل كامل ومُفصل ودقيق. وكيف لا يكون ذلك والفيلم حرفياً يعرض لك هذه المشاهد وما ماثلها بحذافيرها؟ إذ يمتد المشهد بتلك التفاصيل إلى مدة قد تتجاوز العشر الدقائق.

الملل بكل تأكيد كما المتعة، أمر نسبي بحت ويتفاوت الإحساس به بين الناس على حسب رؤيتهم الخاصة وطاقتهم. إلا أن آكرمان هنا لا تريد المخاطرة بهذا الملل النسبي. فهي تدفعك دفعاً نحوه حتى إن كنت تمتلك صبراً، وذلك عن طريق إرهاقك وإيلامك نفسياً حتى تقع تحت سطوة الملل الجارف.

لماذا؟ حتى الآن على ما أعتقد فالسؤال الذي يلح على ذهن قارئ المقال غالباً هو: كل هذا جميل يا عزيزي… لكن لماذا؟ لماذا الملل؟

وللإجابة لا بد من أن أقول إن شانتال عبقرية بمعنى الكلمة. لتوظيفها وتلاعبها بالزمن وتوجيهه كما توجه ممثليها لإعطاء معنى سينمائي مراد. الملل موظف في الفيلم ولا يقل أهمية عن شخصية جين في رأيي، ولن أبالغ إذا ما قلت إنه أهم منها. فهو ما يُعرِّف وجودها لنا ويعطيه معنًى. فالضجر بدون مبالغة أعده أكبر مميزات الفيلم بسبب استعماله كأداة يُراد منها توصيل عدة أفكار وآراء، وحتى رسائل الفيلم بأكمله قد تم توصيلها من خلاله في أكمل وجه. لدرجة أني أراه قد أضحى جوهرياً. سأحاول في هذا المقال استعراض بعضاً من الأفكار التي استخلصتها من نحت شانتال الزمني على حد تعبير أندريه تاركوفسكي.

عدمية الحياة في ظل الحداثة

هل تأملت يوماً في روتين حياتك وتفحصته لحد أن تسأل عن جدواه ومغزاه ومضمونه ومآله. والذي سيدفعك تلقائياً لإسقاط نفس التساؤلات على وجودك والحياة بأكملها.

إن فعلت ذلك مُسبقاً، فستتفهم واحد من مقاصد آكرمان في الفيلم. وإن لم تفعل فأنت على موعد مع زعزعة رؤيتك لحياتك.

آكرمان تحاول أن تعرض لنا المسخ/معدوم الهدف الذي أحالتنا لمثله الحداثة ومرحلة الرأسمالية المتأخرة. فها هو نراه قد تحول إلى ترس يلف ويدور حول نفسه، مُتخيلاً أنه قد بلغ آخر شوط في نهاية مطاف كل لفة، لكنه يجد نفسه يدور من جديد في نفس المسار السابق، فيحاول طمأنة نفسه بقرب نهاية مطافه نحو مقصده، لكنه سرعان ما يجد نفسه من جديد في نفس الوضع المستهلك المُزري وهكذا دواليك.

مؤسف ما يحدث. إنه يصنع لنفسه هدفاً وهمياً بشكل دوري. يقوم بتكراره في كل شوط – أو لنقل كل يوم حتى أسقط مثالي على جين – حتى يعين نفسه على مواصلة الحياة. أشبه ما يكون بميكانيزم الحمار والجزرة الشهير. آكرمان تُعري وتفضح هذا الهدف الزائف، عن طريق عرضها لانهيار جين وحياتها وعاداتها تماماً في ثلث الفيلم الأخير. بسبب تغيير واحد تافه وبسيط في الروتين، تسبَّب في إزالة غشاوة عينيها، مما أدخلها في حالة قلق وجودي مُستنزِفاً لكل قيمها الحياتية، وفاضحاً إياها بعرض لا جدواها، مما أدى لانعدام معناها.

«سيزيف» كرمز نسوي

تقول الأسطورة الإغريقية إن شخصاً يُدعى «سيزيف» عاقبه «زيوس» بجعله يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فما أن يصل للقمة حتى تتدحرج الصخرة إلى الوادي. فيعود لدفعها مجدداً إلى القمة، ويظل هكذا إلى يوم يبعثون. ما تسبب في هذا العقاب أنه دار في باله اعتقاد وخاطر متعجرف، أوحى له أن ذكاءه كبشري فانٍ قد يتفوق على ذكاء ومكر زيوس الجبار.

المقاربة التي أريد عقدها هنا هي تشبيه جين بسيزيف، أو بشكل أدق المرأة بسيزيف، فهي حبيسة روتينها وأشغالها اليومية كما انشغال سيزيف بدحرجته.

قد نجادل أن زيوس في مقاربتي هذه يمثل البطريركية البشرية. إذ إن جين تجد نفسها في غمار معاناة وجودية مولدة من قبل الملل البحت، والاغتراب الذاتي والخارجي من المجتمع، الناجم عن القوالب الصادرة من تحالف البطريركية مع الرأسمالية المتأخرة. والتي لا تستطيع منها فكاكاً.

يقول ألبير كامو إن علينا تخيل سيزيف سعيداً، إذ إنه السبيل الوحيد له للتعايش مع عبثية وانعدام معنى أفعاله – بالنسبة له – وأنه عن طريق تقبله لمصيره وعدم تغييره قد قام بالفعل بالتغلب عليه، لأنه لم يضحَ تعسياً. يمكننا بوضوح أن نرى مُضي جين في نفس هذه الخطوات إلى أن طرأ التغيير الذي ذكرته سلفاً وجعلها تكسر الصخرة.

رؤية عامة

في التراجيديا اللاتينية عندما يبلغ التوتر المسرحي ذروته في الألم أو الفرح أو الحزن، ينطلق نشيد جنائزي تنشده الجوقة والشخصية المسرحية الرئيسية. يُسمى هذا النشيد «كوموس» Kommos.

يمكنني القول إن فيلم «جين ديلمان» فيلم بلا كوموس. وهو في ذلك يُذكّرني بموسيقى الـ Ambient التي قد يمتد فيها طول المعزوفة لساعات دون بلوغ الذروة الموسيقية المنشودة. إذ إن النغمات تكرر نفسها إلى ما لا نهاية داخل حيز التشغيل الزمني.

«بول شريدر» يُعرِّف نوعية الأفلام مثل هذه بمصطلح «الأفلام الترنسندنتالية» Transcendental. أي أنها نوع الأفلام التي تميل إلى إنفارك منها وتقوم بالابتعاد عنك على الدوام كلما حاولت التقرب منها. على عكس القاعدة العامة التي تنص على أن الفيلم لا بد أن يجذبك ويقترب نحوك ويستميلك ويسترعي انتباهك وبشدة.

يقول أيضاً إنه عادة عند اتباع أسلوب الملل الترنسندنتالي هذا، يشعر المشاهد كأنه سجين. لكن هذا ضروري ولا بد منه وكله تجهيز لتحريره في نهاية الفيلم غالباً عن طريق حدوث شيء غير متوقع، ليكسر تدفق الملل.

آكرمان تحرمنا في فيلمها من هذا التحرير. فحتى مشهد الكوموس المراد به تحريرنا ممل ومُفرط في عاديته كسائر الفيلم. وربما حالنا كحال جين بعد هذا المشهد، إذ هي طفقت تنتظر. تنتظر ماذا؟ لا نعلم. لكنها يقيناً تنتظر.

الفيلم في رأيي أعتبره من أشد الافلام ثورية في تاريخ السينما. فشانتال تدفعنا فيه إلى التعرف على نمط حياة ربة المنزل. الذي يقودك بالتبعية للتعاطف معها أولاً، ومن ثَمَّ إلى التعاطف مع المرأة ككل وتفهُّمها. في سبيل إيصال رسالة نسوية.

وعلى سيرة الرسائل، أنا أعتبر عنوان الفيلم الأصلي يُشكل رسالة واضحة وصريحة للمشاهد. العنوان هو: Jeanne Dielman, 23, quai du commerce, 1080 Bruxelles. نرى هنا أن اسم البطلة وعنوانها يتمازجان سوية في عنوان الفيلم ليُشكّلا كينونة واحدة، نراها في أبهى صورة في الفيلم. فالمنزل هو جين، وجين هي المنزل. سواء كانت حبيسة فيه أم لا فهو جزء لا يتجزأ منها. وكما نرى أدق تفاصيل حياة جين، فنحن نرى في نفس الوقت أدق تفاصيل منزلها، لدرجة أني صرت أحفظ كل أثاثه عن ظهر قلب.

أعتقد أن وقتنا الحالي هو أنسب وقت ممكن لمشاهدة وفهم «جين ديلمان» والانتماء له. فكلنا اليوم جين، تحت وطأة قبضة العصر الحديث وسحقه لنا.

أجزم وبكل ثقة – نسبةً إلى تحيز الحداثة عند المشاهدين – أنهم سيجدون أنفسهم ولو حتى في جزء بسيط في الفيلم. إذا قلنا إن السينما غرضها الأساسي يتمثل بث الأحاسيس والمشاعر في نفس المشاهد عن قصد وتحريكها لسواكنه، فيمكننا بكل سهولة اعتبار الفيلم قد نجح في ذلك وبكل اقتدار. فبعد كل شيء، توجيه الملل الوجودي إلى المشاهد ليس بالأمر الهين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.