كلمة كوسوفا تعني الطائر الأسود، ويُقال إن العثمانيين هم من أطلقوا عليها ذلك الاسم، ويُنطق بالتركية قوصوه، لكن حُرِّف الاسم ليوافق الألسنة المختلفة وأصبح كوسوفا أو كوسوفو. ومن المؤكد أن العثمانيين حين أطلقوا عليها ذلك الاسم لم يكن في مخيلتهم أن السواد سوف يصبح اللون السائد في حاضر ومستقبل تلك الرقعة التي لا تجاوز 11 كيلومترًا مربعًا.

بدأت كوسوفا تاريخها المعروف منذ عام 1379 على يد السلطان العثماني مراد الأول، وظلت جزءًا من الدولة العثمانية طوال 500 عام. حتى أتى عام 1912 بانهيار الدولة العثمانية فقُسمت كوسوفو بين صربيا والجبل الأسود، وبنهاية الحرب العالمية الأولى دخلت كوسوفو في مملكة يوغوسلافيا، التي احتُلت بعد ذلك، ضُمت كوسوفو إلى ألبانيا، وقد كانت ألبانيا وقتها تحت الحكم الإيطالي.

لكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1946، دخل إقليم كوسوفو ضمن حكم يوغوسلافيا الاتحادية، في تلك الحقبة تمتعت كوسوفو بحكم ذاتي وفقًا لدستور عام 1947 تحت ظل حكم جوزيف بروز تيتو. ظلت كوسوفو في استقلالها حتى عام 1989 إذ ألغى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش الحكم الذاتي للمنطقة، وقرر أنه وحده من سيحكم الإقليم، حتى لو استدعى ذلك استخدام أساليب وحشية.

رغم أن غالبية سكان الإقليم كانوا من الألبان المسلمين لكن قبضة الحديد والنار التي حُكم بها الإقليم جعلت سكان الإقليم ينتظمون معًا بدوافع قومية لا دينية لمواجهة الاضطهاد الذي يتعرضون له. وانضووا جميعًا تحت راية حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني وقائده الأديب الألباني إبراهيم روجوفا، وكان إبراهيم، وحزبه، من أنصار المواجهة السلمية للحصول على الاستقلال.

السلمية لا تنفع أحيانًا

لذا في منتصف عام 1990 أجرى أهل كوسوفو استفتاءً عامًّا لمعرفة المؤيدين للانفصال عن صربيا، وجاءت النتيجة بأغلبية ساحقة لصالح الانفصال وتكوين جمهورية مستقلة. وبعد ظهور النتيجة قرر الألبان القيام بعصيان مدني طلبًا للاعتراف الصربي بالنتيجة، لكن لم يحصل الألبان على شيء.

لكن ذلك لم يُثن الألبان على المضي في سبيلهم، فانتخبوا إبراهيم روجوفا رئيسًا لجمهوريتهم الوليدة التي أطلقوا عليها جمهورية كوسوفو، عام 1992. لم تُغير السنوات المتتابعة من مذهب روجوفا وظل ثابتًا على النهج السلمي، فحاول نيل تعاطف المجتمع الدولي للاعتراف بالجمهورية الجديدة، لكن لم ينجح في ذلك، فتيَّقن جمهور كوسوفو من أن النهج السلمي وحده لن يجلب لهم استقلاليتهم.

أنشأ الشباب خلايا مسلحة تحت اسم جيش تحرير كوسوفو، دخل جيش كوسوفو مع الجيش الصربي في مناوشات وجولات حربية، واستمر الأمر في الظل دون أن يلفت نظر المجتمع الدولي، حتى جاء عام 1998. في ذلك العام عُثر على 45 شابًّا من ألبان كوسوفو مقتولين وجثثهم مشوهة في إحدى القرى في جنوب الإقليم. لم يحتج العالم إلى فطنة كي يدرك أن أصابع الاتهام موحهة بالكامل إلى القوات الصربية التي بدأت منذ شهور نهجًا غير نظيف في التعامل مع جيش تحرير كوسوفو.

ربما كانت المجزرة بشعة بما يكفي، أو ربما كانت تلك الصور هى أول ما يراه العالم مما يحدث حقيقةً في كوسوفو، أو ربما اجتمع الاثنان، المهم أن بعد تلك المجزرة بدأت الإدانات الدولية تتوالى لما يحدث من الجيش الصربي في حق جمهورية كوسوفو. كانت الانتقادات شديدة اللهجة إلى الحد الذي دفع روسيا شريكة صربيا في العرق والثقافة والمذهب العسكري إلى إدانة ما قام به الصرب، ودعت روسيا إلى إجراء تحقيق شفاف.

أخيرًا، يستقيظ العالم

لكن الإدانة لم تؤتِ ثمارها، بل أدت إلى نتائج عكسية، فقد ازداد القمع الصربي وزاد البطش لأجل دفع ألبان كوسوفو، أغلبيتهم مسلمون، للهجرة إلى خارج الإقليم كي يتحكم فيه الصرب. تدخل المجتمع الدولي بصورة أكبر ودعا إلى مفاوضات تحت رعاية أمريكية وأوروبية، لكن الوفد الصربي أظهر تعنتًا لم يترك مجالًا للأخذ والرد في المفاوضات، حينها أدرك الجميع أن القوة الصربية لن تلين إلا بقوة مماثلة.

لذا في 24 مارس/ آذار عام 1999 أعلن الناتو بداية حملة عسكرية ضد صربيا سوف تستمر إلى قرابة 80 يومًا. تلك المدة الطويلة لم تكن في حسبان حلف الناتو، إذ كان المتوقع أن يتقهقر ميلوسيفيتش بمجرد تلقي الضربات الأولى، لأنه حينها سيوقن أن الدول الكبرى قررت ألا تصمت لوقت إضافي، لكن استطاع الرجل أن يحول القصف الجوي لصالحه. ميلوسيفيتش حشد شعبه واستغل القصف ليُلهب المشاعر القومية لدى الصرب فاصطفوا جميعًا خلفه.

لذا كلما زاد حلف الناتو هجومًا على الصرب، زاد الصرب قمعًا لأبناء كوسوفو، فشهدت أوروبا أكبر عملية نزوج ولجوء في تاريخها لمئات الآلاف من ألبان كوسوفو. حينها تضافرت الجهود بين حلف الناتو وقوات تحرير كوسوفو فأمدوا الناتو بمعلومات من الأرض عن أماكن تواجد الصرب ومواقع قوتهم، فأصبحت الضربات أكثر إيلامًا، وبات حال قوات كوسوفو أفضل مما قبل.

لذا في 10 يونيو/ حزيران عام 1999 أعلن ميلوسيفيتش موافقته على الانسحاب الكامل من كوسوفو، فبدأ الألبان في العودة التدريجية لوطنهم، وشاب ذلك بعض أفعال الانتقام الألباني من الصرب. وأعلنت الأمم المتحدة أنها سوف تشرف على تكوين قوات أممية فحل جيش كوسوفو نفسه وانضموا تحت لواء الأمم المتحدة.

دولة بـ 97 دولة

هزيمة ميلوسيفيتش لم تكن عسكرية فحسب، بل تلاها هزيمة سياسية كبرى، إذ عانى الصرب من ويلات الإنهاك الاقتصادي الناتج عن الحرب دون الفوز بها، فأتت انتخابات عام 2000 لتُوضح مدى الغضب الشعبي على الرجل. فاز مرشح المعارضة، لكن رفض ميلوسيفيتش الاعتراف بالنتيجة، فدعت المعارضة إلى تظاهرة مليونية. هربت التظاهرة من التضييق الأمني واستطاعت اقتحام العديد من الأماكن الحيوية، فباتت ثورةً شعبية لم يجد أمامها ميلوسيفيتش إلا إعلان استقالته، وسيموت الرجل في زنزانته منتظرًا المحاكمة أمام محكمة العدل الدولية.

أما كوسوفو فقد ظفرت باستقلالها، وفاز قائد جيشها راموش هاراديناي برئاسة وزراء البلاد كما ظفر بالبراءة مرتين من محكمة العدل الدولية من اتهام الصرب له بارتكاب جرائم حرب ضدهم. ظلت كوسوفو منذ تلك اللحظة تتمتع بحكم ذاتي، لكن بتبعية رمزية إلى صربيا، حتى أعلن الإقليم عام 2008 انفصاله عن حكومة بلجراد واستقلاله تمامًا، فرفضت الحكومة الصربية المركزية هذا الأمر.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية و97 دولة أخرى أيدت قرار الانفصال، فحين عارضته عدة دول على رأسها إسبانيا. لكن لا تحتاج كوسوفو إلا لاعتراف 97 دولة كي تصبح عضوة في الأمم المتحدة، فيكفيها من اعترف بها. وبذلك أصبحت كوسوفو دولة ذات أغلبية مسلمة بنسبة 95% من المسلمين، ويوجد بها قرابة 800 مسجد. وغالبية مسلمي كوسوفو يتبعون المذهب الحنفي، مع انتشار واسع للمذاهب الصوفية.

لكن دولةً لم تعترف باستقلال كوسوفو عام 2008، ويبدو أن اعترافها شديد الأهمية لكوسوفو، لذا فإنها حاليًّا تتجه إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فقد وقع  وزير الخارجية الإسرائيلي، جابي، ونظيره الكوسوفي ميليزا هاراديناي على إعلان مشترك لتطبيع العلاقات بين بريشتينا، عاصمة كوسوفو، وتل أبيب. وفي مقابل هذا التطبيع تحصل كوسوفو ذات الأغلبية المسلمة على الاعتراف الإسرائيلي باستقلالها.

اقرأ أيضًا: لعبة الاعتراف والمصالح: كوسوفو تفتح سفارتها في القدس