في مقطعٍ مسجّل لتجربة شهيرة، يظهر ستة أفراد على مجموعتين، ترتدي كل مجموعة لونًا من الأبيض أو الأسود، ويتقاذفون بينهم كرتي سلة، مع الحفاظ على حالة الحركة وتبادل الأماكن فيما بينهم.

طُلب من مجموعة أفراد أن يراقبوا حركة الكرة بين لابسي اللون الأبيض تحديدًا، وعدّ مجموع التمريرات فيما بينهم. وبعد ثلاثين ثانية من بدء التجربة؛ اندس أحد الأفراد متنكرًا في هيئة «غوريلا» بين الفريقين، واستمر ظهوره لتسع ثوانٍ ضرب خلالها على صدره مرتين أو ثلاثة، ثم انصرف.

بعد انتهاء المقطع المصور للتجربة، تبين أن نصف المشاهدين تقريبًا لم يلحظوا أي شيء غريب، كالغوريلا مثلًا! رغم أنهم وفق التجربة قد نظروا إليها مباشرة لمدة ثانية كاملة على الأقل.

تلك كانت «تجربة الغوريلا الخفية» كما وصفها البروفيسور «دان سيمونز»، المتخصص في علم النفس في جامعة إلينوي. والتي وضعت مجموعة من الافتراضات من بينها أن الإنسان إذا ما ثبّت انتباهه على شيء ما؛ سيصبح من السهل ألّا يدرك أشياء أخرى تحدث في محيطه، حتى وإن كان يراها.

ولكن الأمر مختلف قليلًا في كرة القدم أو في صفوة اللاعبين في تلك اللعبة. والتي صارت تتطلب قدرًا عاليًا من إدراك المحيطات والتعامل مع كثير من المدخلات في آنٍ واحد، وتحت ظروفٍ غير عادية في كثير من الأحيان.

مما يجعل تلك الصفوة مؤهلة للقيام ببعض المهام وشغل بعض الوظائف التي سيتخطى مستوى إجادتهم فيها مستوى الأفراد العاديين، فكيف يحدث ذلك وما السبب؟

كريستيانو رونالدو: السائق الأفضل!

تخيل أنك تقود سيارتك باهظة الثمن على إحدى الطرق، وبينما ينصبّ كامل تركيزك على الطريق الممتد أمامك؛ قررت سيدة عجوز أن تعبر الطريق فجأة، أو أفلت حيوان أليف من صاحبه وقفز على الطريق. أُسقط في يديك ورحت تبحث عن أخف الأضرار: إما إتلاف هيكل سيارتك أو إزهاق إحدى الأرواح على الطريق. أيهما ستختار؟

ليس متوقعًا أن يمتلك النجم البرتغالي «كريستيانو رونالدو» إجابة على هذا السؤال، إذ ليس من المرجّحِ أن يكون في موضع اختبارٍ كهذا؛ لأنه ببساطة يمتلك قدرًا أعلى من التركيز على امتداد مجال رؤيته الواسع.

وهذا ما أثبتته إحدى التجارب التي درست الاهتمام المركَّز عند الرياضيين. ونُشرت نتائجها في مجلة علم النفس التجريبي والتطبيقي عام 2014.

تخلص الدراسة إلى أن لاعبي كرة القدم، أو لاعبي الرياضات التي تلعب في مساحات أفقية بشكل أساسي مثل الهوكي وكرة اليد، يمتلكون حيزًا أعلى من التركيز البصري، مقارنة بالأشخاص العاديين، بمقدار 4 درجات على كلا الجانبين، مما يتيح لهم الحفاظ على قدرٍ عالٍ من الانتباه في مجال بصري يمكن أن يحيط بما لا يحيط به نظيره عند الأفراد العاديين.

الآن تخيل لوهلة أن «رونالدو» على الطريق، يقود حافلةً مدرسية مكتظًة بالأطفال، وظهرت أمامه من العدمِ عقبة من جماد أو حيوان أو إنسان؛ فإن هناك احتمالية أكبر أن يتفادى تلك العقبة وينجو بأولئك الأطفال من ضرر محقق.

حارس البنك «ميسي» واللص: كيف رآه؟

كان أحد اللصوص يخطط لسرقة بنك كبير، ولكن محاولاته كانت تبوء بالفشل دومًا، مهما أحكم خطته وتمكن من أدواته. والسبب؟ حارسٌ فذّ يلقب بـ«البرغوث»، يرى ويسجل كل حركة تدور حوله، مهما كانت خفية، ومهما حيل بينه وبينها. ليخبر الناس في كل مرة أنه رأى اللص بالفعل رغم استحالة حدوث ذلك، ويتركهم في بحرٍ من الحيرة: كيف رآه؟

هذا الحارس اسمه «ليونيل ميسي»، وهذا موقف افتراضي، لكن هل تعرفون حارسًا للبنك أفضل من ميسي!

ليس بحاجة لتقديم سيرة ذاتية، يمكنه فقط أن يبرز مقطعًا لتمريرته العجيبة لزميله «مولينا» في مباراة الأرجنتين وهولندا في كأس العالم 2022 وسيخبرنا «كرستيان فاتير» بالباقي.

يعد «فاتير» من الباحثين المتخصصين في علوم الرياضة في جامعة بيرن في سويسرا، وسيفسر لنا كيف رأى «البولغا» زميله مولينا، وكيف يمكن «للبرغوث» بكل سهولة أن يرى اللصوص ويحمي البنك.

تحصّل العين الصورة عبر طريقتين: الرؤية المركزية، والرؤية الطرفية أو المحيطية. وكلما زادت حدّة الرؤية الطرفية، زاد إلمام اللاعب بتفاصيل الموقف، وبالتالي زادت قدرته على اتخاذ قرار أفضل.

ذلك القدر من الرؤية يمكن تحقيقه عبر بعض الاستراتيجيات تبعًا لظروف الزمان والمكان. فإن أراد اللاعب –مثلًا- أن يتفحص مجموعة من المواقف البعيدة في آن واحد، فتلك خاصية «محور البصر». وإن أراد المدافع أن يتنبأ بالحركة التالية للمهاجم في مواقف المواجهة الفردية، فإنه يركّز بصره عليه من خلال خاصية «البقعة النقرية». أما في المواقف المعقدة، التي لا يسمح فيها الزمان ولا المكان بإدارة تلك الخواص، فهنالك ما يعرف بـ«تعليق النظر»، وفيها يعلّق اللاعب بصره بمجموعة من الأهداف، يلتقطها جميعًا في لمح البصر؛ ثم يتصرف تبعًا لها.

هكذا رأى ميسي مولينا، علّق بصره بينه وبين «ناثان آكي» وبين الكرة، وربما مدّ البصر فلمح «فان دايك» متحركًا؛ فأدخله في المعادلة، وأدار حساباته ثم فعل المستحيل، ورآه.

حرّاس المرمى: الآباء الخارقون

أنت الآن في حديقة مع أطفالك، وفجأة تهرع إليك طفلتك الصغيرة وهي تبكي؛ لأن صديقتها كسرت لعبتها. في الوقت نفسه يظهر طفلك الآخر وعلى وجهه آثار عِراكٍ ما، تحتاج أن تتخذ قرارًا سريعًا وحاسمًا، ولا تتوفر لك المعلومات الكافية لأخذ أكثر القرارات عقلانية، ما العمل؟ يبدو أنك وقعت في ورطة، إلا إذا كنت حارس مرمى.

أظهرت دراسة حديثة نشرها حارس المرمى السابق «مايكل كوين» من جامعة دبلن، في مجلة «Current Biology» أن حرّاس المرمى يختلفون جوهريًا عن بقية اللاعبين في رؤيتهم للعالم، ومعالجة المعلومات متعددة الحواس.

وأرجع «كوين» ذلك للخصوصية الشديدة التي يتميز بها هذا المركز والدور الذي يشغله من اللعبة، إذ يُجبر الحراس طوال الوقت على اتخاذ قرارات سريعة غير مدعومة بالمعلومات الحسية الكافية.

ومن واقع تجربته كحارس مرمى سابق، يرى أن فصل المعلومات الحسية أولى لحارس المرمى من دمجها. فمثلًا حين يركل اللاعب الكرة بوضعية جسد معينة فإنها تحدث صوتًا، ثم تتخذ مسارًا في طريقها إلى المرمى، تلك العوامل مجتمعة تساعد على التنبؤ بحركتها والتصدي لها، لكن تلك الطريقة لن تسعفه دائمًا؛ فلن تكون كل التسديدات بنفس السرعة أو من نفس المكان، مما يستدعي مع الوقت والخبرة الاعتماد على إحدى الحواس وإغفال البقية.

الآن تخيل لو أن أبناء «أليسون بيكر» الثلاثة، جاؤوا يشتكون من ثلاث مشاكل مختلفة في الوقت ذاته، فإنه على الأرجح لن يقع في فخ الحيرة التي وقعت فيها، بقرارات سريعة وحاسمة، تمامًا كالتي يتخذها لحماية عرين ليفربول.

كلمة السر: البحث، القرار، التنفيذ

ينفق لاعبو كرة القدم ساعات طويلة في التمرين والتطور. ناهيك عن المباريات نفسها التي ينخرط اللاعبون بداخلها في سلسلة متصلة من البحث الدائم واستكشاف الموقف، ثم اتخاذ القرار، ثم تنفيذه.

وليس أصدق إنباءً على هذا من «تشافي هيرنانديز»، الذي انخرط في البحث البصري بلا هوادة بمعدل 0.83 في الثانية، حسبما أورد عالم النفس الرياضي النرويجي «جير جورديت».

وتتكرر تلك العملية في المباراة الواحدة آلاف المرات، وكأن المباراة في أصلها هي مشكلة في كل بقعة منها تنادي بإيجاد الحل. هنالك إشاعة أن عيني تشافي لم تتوقفا عن مسح الملعب حتى الآن!

ويمكن القول أن الإتقان النابع من تكرار هذا الثالوث هو سر تحول لاعبي كرة القدم إلى ما هم عليه من درجة فائقة في الإدراك الحسي، تجعلهم سائقين وحرّاسًا للبنوك وربما آباء أفضل.