قبل بضعة شهور تقدّمت كامالا هاريس لحلبة المنافسة الديموقراطية رغبةً في أن تصبح اختيار الحزب الديموقراطي لمنافسة الرئيس الحالي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية. لم تكن معركةً سهلة على هاريس خاصةً في وجود جو بايدن المرشح الذي كانت الكفة تميل له من البداية، وانتهت كما هو متوقع بفوز بايدن بثقة الحزب وخروج هاريس من المنافسة.

لكن في أغسطس/ آب 2020 عادت هاريس إلى سباق الرئاسة بمسمى جديد، نائب الرئيس. فقد حسم جو بايدن التكهنات حول من سيكون رفيقه في الانتخابات بإعلانه رسميًا عن كامالا هاريس. كان الاختبار مفاجئًا وجريئًا إذ إن كامالا انتقدت بايدن كثيرًا وبصورة لاذعة في المناظرات التي جمعتهما في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي.

لكنه يبدو أكثر الاختيارات عقلانية أمام بايدن، فمن خلال صورة هاريس إلى جواره يستطيع بايدن أن يُغازل أكثر من كتلة تصويتية في وقت واحد. هاريس وُلدت في أوكلاند، كاليفورينا، من أم هنديّة وأب جامايكي، مهاجران جاءا سعيًا وراء الحلم الأمريكي. ثم حين انفصل والداها عاشت هاريس مع والدتها بشكل أساسي فصارت أقرب للهندوسيّة والهندوس، كما أنها باتت تشعر بمعاناة كل الأمهات العازبات اللواتي يتحملن عبء تربية أطفالهن وحدهن.

كامالا تقول أنها زارت الهند مع والدتها أكثر من مرة، وأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتراثها وجذورها الهندية والهندوسية. ثم أضافت في حديث آخر أن والدتها غمرتها هى وأختها بثقافة السود وهمومهم، لتضيف بذلك هاريس كتلةً تصويتةً ضخمة في صالحها، السود. خاصةً في ظل الاحتجاجات العارمة التي تشهدها الولايات المتحدة بسبب مقتل جورج فلويد.

مدعيّة عامة تجيد الحديث

وُلدت كامالا لوالدين مهاجرين وقضت حياتها مهاجرةً كذلك، فقضت سنواتها الأولى في كندا حيث كانت والدتها تعمل في التدريس هناك، والتحقت كامالا بمدرسة في مونتريال لمدة 5 سنوات، ثم عادت للولايات المتحدة كي تلتحق بجامعة هوارد، وهي الجامعة المعروفة تاريخيًا بأنها مكان دراسة السواد. فأصبحت الجامعة نقطةً بارزةً في محاوراتها الانتخابية، إذ ذكرت كثيرًا أنها منسجمة مع كونها امرأة سوداء تدرس في جامعة مرتبطة بالسود، ولم تحاول أن تتهرب من هذا الانتماء.

بعد الجامعة انتقلت إلى جامعة كاليفورنيا للحصول على شهادة عُليا في القانون، ثم عُينت في دائرة الادعاء العام في مقاطعة ألاميدا. تدرجت في المناصب حتى صارت المدعي العام للمقاطعة، ثم صارت المدعي العام لسان فرانسيسكو، وفي عام 2013 اُنتخبت كأول شخص أسود يعمل كمدعٍ عام لولاية كاليفورنيا.

ظلت في منصبها الجديد 4 سنوات ذاع فيهم صيتها واشتهرت بنشاطها وعدلها، وبرزت كواحدة الوجوه الناشئة التي تشق طريقها نحو القمة في الحزب الديموقراطي. وسطع نجمها أكثر حين ترشحت في الكونجرس الأمريكي اعتمادًا على شعبيتها وفازت في انتخابات عام 2017.

في مجلس الشيوخ أثبتت أنها امرأة لا يُستهان بها في جلستيّ استجواب مرشح المحكمة العليا آنذاك بريت كافانو، والمدعي العام ويليام بار، فاستجوبتهما بشكل لاذع لفت الأنظار. ازداد معجبوها وأنصارها فلم يعد أمامها سوى خطوة وحيدة، لكنها ضخمة، في السلم السياسي، رئاسة الدولة.

حاولت ربح الجميع، فخسرت كل شيء

دشنّت حملتها وأعلنت عنها في حضور أكثر من 20 ألف من مؤيديها، لكنها أنهتها قبل أول منافسة فعلية بين المترشحين. فقد أخفقت بصورة واضحة في إقناع الناخبين بها، فلم تكن تملك تصورًا واضحًا عن العديد من القضايا التي تواجه الولايات المتحدة خارجيًا وداخليًا، حتى أنها لم تُجب على أسئلة شعبية متعلقة بكيفية تصرفها إزاء برنامج الرعاية الصحية. غير أنها اكتسبت احترامهم عبر أدائها الممتاز في المناظرات المباشرة، فقد كانت تستطيع مهاجمة الجميع بدقة وشراسةٍ اكتسبتها من خبرتها كمدعي عام.

ومن أبرز أسباب إخفاقها في حملتها أنها حاولت أن تجمع بين شقيّ الحزب الديموقراطي، المعتدل والتقدمي، ففقد الطرفان الرغبة في ترشيحها. فالتقدميّون يرونها ليست تقدمية بما يكفي، وتعرضت لانتقادات صحفية كبيرة من قبل التقدّميين، رغم أنها تمتلك آراءً منفتحة بخصوص زواج المثليين وعقوبة الإعدام. فمثلًا قالت هاريس إنها لن تطالب أبدًا بتوقيع عقوبة الإعدام على أي شخص، لكنها أيضًا لم تذكر أنها تنوي إلغاءها للأبد.

وفي عام 2004، قُتل شرطي يدعى إسحاق إسبينوزا أثناء تأدية عمله، وضغطت عليها جمعية ضباط شرطة سان فرانسيسكو، وبعض نواب الولاية، للمطالبة بالإعدام، لكنها رفضت تمامًا، وأدين المجرم بتهمة القتل من الدرجة الثانية، والسجن مدى الحياة.

واستخدم الصحفيون كثيرًا عبارة كامالا شرطية لإشارة أنها لا يمكن أن تثور على النظام القائم فيما يتعلق بإصلاح الشرطة أو قوانين مكافحة الجريمة أو حتى تقنين المخدرات، ما جعلها تفقد أصوات الليبراليين. إلا أنه بعد اختيار بايدن الليبرالي المنفتح فإن الديموقراطيين بحاجة إلى وجهٍ يجذب الأصوات المعتدلة أو المستقلة التي تريد من يمثلها.

فقد قطعت هاريس شوطًا طويلًا في وضع إجراءات الصارمة تجاه حيازة السلاح بشكل غير قانوني، وجرائم القتل، كما أسست وحدة خاصة لجرائم الكراهية التي يتعرض لها طلاب مجتمع الميم في المدارس.

كامالا والشرق الأوسط

تبدو حظوظ هاريس قوية هذه المرة، وقد تزيد هي من حظوظ بايدن لا العكس، فمع تبني ترامب لخطابات النظام والفوضى، تأتي هاريس لتميل أكثر جهة الغاضبين الذين يحاول نظام ترامب قمعهم.

كما يُتوقع أن تحظى هاريس بدعم من اللوبيّ الصهيوني، أو على الأقل ألا يعارضوها، فهاريس موالية شديدة الوضوح للمشروع الإسرائيلي، وضيفة دائمة ومتحدثة لبقة في مؤتمر آيباك السنوي الذي يعقده اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. وقالت في أحد خطاباتها:

لا يجب أن تكون إسرائيل مسألة حزبية، وما دمت في مجلس الشيوخ سأفعل كل ما بوسعي لضمان الدعم الواسع والمتجاوز للأحزاب لأمن وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

وفي عام 2017 غرّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بصورة تجمعه معها بعد اجتماعها سويًا، قال نتنياهو إنه ناقش معها العديد من الملفات المشتركة، وإنه سعيد بحرصها على أمن إسرائيل. إعجاب نتنياهو نابع من مشاركتها في رعاية قرار مجلس الشيوخ المُعترض على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334؛ الذي يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتباره انتهاكًا للقانون الدولي.

لكنها عادت هذا العام ووجهت خطابًا إلى ترامب تطالبه فيه بوقف ضم الأراضي المستوطنة في الضفة الغربية، خطابٌ يبدو أن الهدف منه أن تبدو متسقةً مع توجهات الحزب الديموقراطي فحسب.

أما بعيدًا عن القضية الفلسطينية فهاريس تقول إنها لو وصلت إلى الرئاسة فسوف تعمل على إعادة الاتفاق النووي مع إيران، كما انتقدت سحب القوات الأمريكية من سوريا، وانتقدت وقف تسليح الأكراد شمالي سوريا. كذلك فإنها تهاجم السعودية على حرب اليمن، وتطالب بمحاسبة السعودية على جريمة قتل الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، لكن أكدّت في التصريح نفسه على ضرورة استمرار التعاون والتنسيق المشترك مع المملكة في قضايا مكافحة الإرهاب.

تمتلك ما لا يمتلك بايدن

لقد عرف بايدن الذي خدم ثماني سنوات نائبًا للرئيس السابق باراك أوباما لماذا اختاره أوباما، لأن بايدن كان يمتلك ما لم يمتلك أوباما، فقد انتقده المحللون لصغر سنّه وقلة خبرته في السياسة وعدم إلمامه بشوارع العاصمة واشنطن، فاختار بايدن العجوز والسياسي المُحنّك وحافظ شوارع واشنطن ليكونا سويًا ثنائيًا مقنعًا لشريحة أكبر من الناخبين.

فاختار بايدن امرأةً تبدو نقيضةً له من بعيد آملًا أن يكونّا معًا ثنائيًا ديناميكيًا مقنعًا، فهي الصغيرة، 55 عامًا، وتمثل 45 مليون مواطن جاءوا للولايات المتحدة مهاجرين وتجنّسوا بجنسيتها مثل والدي هاريس.

والأهم من ذلك أن هاريس امرأة، وسوف تصبح ثالث امرأة في التاريخ الأمريكي تترشح لمنصب نائب الرئيس، كما أنها أول عضو في مجلس الشيوخ من أصل هندي وثاني امرأة من أصل أفريقي تشغل المنصب وثالث امرأة تشغل منصب السيناتورة من ولاية كاليفورنيا.

كل ذلك جعل بايدن يتفوق على ترامب بـ 19 نقطة بين الناخبات، وتعد تلك نسبة مرتفعة جدًا ومطمئنة لبايدن خاصة مع وصول نسبة النساء إلى 53% من إجمالي الناخبين . أضف إلى ذلك أن 56% من النساء عبرّن عن ولائهن للحزب الديمقراطي، في حين تبلغ النسبة بين الرجال 42% فقط.

إذن فدخول كامالا هاريس للمشهد الانتخابي المتأزم قد حرّك الماء الراكد بصورة ملحوظة وجعل حملة بايدن تتفوق في ساعات معدودة أكثر من تفوقها طوال الشهور الماضية، فقد تكون كامالا هي الحصان الرابح الذي يحمل بايدن للبيت الأبيض، لكن يبقى الترقب هو الطاغي انتظارًا لرؤية كيف تتعامل مع بايدن الذي انتقدته مرارًا، وكيف يتعامل معها بايدين وهي صاحبة الشهرة التي فاقت شهرته، والأهم أنها امرأة طموحة تُجيد الحديث، فلا يبدو أنها من نواب الرؤساء الذين يحبون البقاء في الظل.