لدى القردة العُليا شخصيات متميزة وتاريخ خاص بها. لأكثر من خمسين عامًا، عاصرت أجيالًا عدة تعيش مآسي دامية. إن ما ستعرفونه ليس قصة عن حياة تلك الرئيسيات بل هو أعمق. فهو قصة عنف، ودسائس، وخيانات، تنافس أعظم الملاحم التي عاشتها البشرية بذاتها.
جين غودال، عالمة بريطانية متخصصة في الرئيسيات وعلم السلوك والأنثروبولوجيا، وسفيرة الأمم المتحدة للسلام.

عام 1896 كتب «أر إل غارنر» قائلًا:

لا يوجد مخلوق آخر بهذا السحر يُبهر الناظر إليه مثل هذه الدنى الصغيرة للجنس البشري.

كان غارنر من أوائل العلماء الذين سعوا بشكل فعَّال لدراسة السلوم النفسي للقرود ومقارنته بسلوكنا نحن البشر، من أجل معرفة دوافع الصراع فيما بينها. عاش غارنر بالقرب من جماعات الشمبانزي، و«سعادين» العالم القديم (نوع من القرود لا زال موجودًا إلى الآن في غرب أفريقيا).

لاحظ وجود تشابه بدني، كما لاحظ وجود لغة تواصل مشتركة طوَّرتها تلك الرئيسيات العُليا مع مرور الزمن، كما لاحظ أيضًا وجود حدود اجتماعية مثل مشاعر الحب والعاطفة ورعاية الصغار، والتعبير عن الانفعالات. ولعل أشهر الملاحظات التي قدَّمها غارنر من دراسته المستفيضة حول القرود، هي عنصر اللغة وعلاقته بنمط التفكير لدى القرود، وطرح سؤالًا مفاده: ماذا تقول القرود لبعضها البعض؟ ولماذا؟

وكتب غارنر أيضًا في مقدمة دراسته التي قدَّمها للجمعية الأمريكية للعلوم:

إن الأصوات التي تصدر عن هذه القردة لها كل مقومات وخصائص الكلام. فالمتكلم مُدرك للمعنى المقصود من الصوت الذي يُصدره، ويستخدمه لأغراض مُحددة لنقل فكرة بعينها إلى الطرف الآخر الذي يتحدث إليه، كما أن الصوت يصدر دائمًا لفرد مُحدد، فضلًا عن كون القرد المُتحدث ينظر دائمًا إلى الفرد الذي يتحدث إليه، ويُنظِّم قدر علو الصوت وانخفاضه تبعًا لحالته الانفعالية، كما أنه يعلم قيمة الصوت كوسيط لنقل الفكرة. وهذه الحقائق، وحقائق أخرى كثيرة، تُظهِر أنهم يتحدثون بالفعل.

ولعل محاولات غارنر دفعت علماء آخرين لدراسة وسيلة التواصل بين تلك الرئيسيات في عشائرها المختلفة، معتبرين أن اللغة يتم بواسطتها التعبير عن الانفعالات، وغيرها من السلوكيات المختلفة التي من خلالها يمكن التعرف على سلوك البشر عن قرب. وسبقت محاولات غارنر محاولات عالم التشريح البريطاني الشهير «إدوارد تايسون» الذي اهتم بدراسة التشريح المقارن بين القردة والبشر.

قزم أنجولا

في الأول من يونيو/حزيران عام 1698، حضر عالم التشريح البريطاني الشهير «إدوارد تايسون»، أمام الجمعية الملكية لعلم التشريح في لندن لتقديم استنتاجاته الخاصة حول تشريح قزم شمبانزي. وصل هذا الحيوان نتيجة عملية صيد قام بها أحد الصيادين الإنجليز في غابات أنجولا؛ ولكن في محاولة هروب هذا الحيوان من الصياد سقط من فوق متن السفينة وتحطم فكه، فعاش في لندن لمدة شهرين قبل وفاته نتيجة عدوى حدثت بسبب فقدان الفك السفلي.

على أثر تلك الحادثة المثيرة نشر تايسون كتابًا بعنوان «تشريح قزم مقارنة بقرد صغير وقرد متطور وإنسان». كانت تلك هي الدراسة الأولى من نوعها التي تحدث فيها تايسون عن مدى التقارب المورفولوجي بين القرود والبشر بصورة واضحة. ذكر في مقدمة كتابه القصة كاملة تحت عنوان «قصة مثيرة»، وصف فيها سلوك القرد على متن السفينة مع البحَّارة وكيفية تعامل البحَّارة معه. إذ كان يرتدي الملابس ويأكل نفس طعامهم على المائدة معهم، وأيضًا يستلقي على السرير، إنه حيوان حيَّر بالفعل بحَّارة السفينة. إنهم (القردة) مثلنا يبدون أقرب الكائنات لنا، وهذا يعكس جوهر الصفات الإنسانية بداخلهم.

كانت أكثر الاستنتاجات المثيرة التي قدمها تايسون هي وجود فروق ضئيلة بين الأحبال الصوتية الخاصة بالقرد والإنسان. وعبر عن تلك الظاهرة في دراسته قائلًا:

لا يمكنني الاستناد هنا إلا على تلك النظرية القديمة التي تقول بأن القردة بالفعل يمكنها الكلام مثلنا نحن البشر، ولكن جماعات الشمبانزي إذا سمحت لنا نحن البشر أن نستمع إليها وهي تتحدث، فسوف نستعبدها، في زمن كان الرق منتشرًا، لذا تبقى صامتة في وجودنا نحن البشر.

وبعد مرور ما يزيد عن القرن على تلك القصة، تم جلب قرد آخر من حديقة حيوان بريستول البريطانية، وعلَّموه كيف يُشعل التبغ (السجائر) ويُدخِِّن. كما كان القرد «هابي جيري» يجلس خارج بورصة أكسترا في لندن يُدخِّن السجائر التي يعطيها له المارة، وكان يدعونه أيضًا لتناول الشاي مع الملك.

بعد تلك القصص التي رواها لنا العلم تبدلت نظرتنا عن عالم القرود، فلم يعد بهذا العالم الطريف الذي عهدناه، بل تطورت تلك القصة لترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلم والدين والفلسفة.

بالنسبة إلى تايسون لا تتحدث القرود لأنها تخشى الاستعباد، لكن بالنسبة إلي بروفسير «إريكا فودجا»، بكلية العلوم الإنسانية بجامعة ستراثكلايد، فالبشر يختلفون عن الحيوانات لأنهم يملكون ما يُطلق عليه العقل، وهو بالطبع لا يوجد في الجسم، إنه جوهر روحي، لذا فإن حقيقة أن الشمبانزي يمتلك أحبالًا صوتية، وهو ما ينبغي توافره ليتحدث، لكنها لا تتيح له التحدث، لتُعزِّز وضعية الإنسان في الطبيعة كمخلوق عاقل.

لكن تلك الفكرة التي طرحتها إريكا لم تلقَ قبولاً في المجتمع العلمي؛ لسبب وهو أننا نختلف كثيرًا عن الحياة الأخرى في الطبيعة على الأرض بسبب الفكرة الروحية قد تبدو استنتاجًا غير مقبول عند العلماء اليوم، لا سيما علماء الوراثة والتطور. لكننا ما زلنا نبذل جهودًا كبيرة لاكتشاف التشابه بيننا وبين تلك الرئيسيات العليا من القرود. لذا كان عنصر دراسة السلوك واللغة والتعبير عن الانفعالات مجالًا خصبًا وملجأً كبيرًا للإجابة عن تلك التساؤلات والأفكار الكبيرة، التي لا زالت تراودنا حول مدى التشابه بيننا نحن البشر وبين تلك الكائنات التي تشاركنا عالم الطبيعة.

وبعد فك شفرات الجينوم البشري، والتعرف بصورة تبدو أقرب عن ذي قبل، والتعرف على الجينات البشرية، دفع فضول المعرفة، العلماء، لفك شفرات جينوم القرود أيضًا ومقارنته بالجينوم البشري.

البحث عن إبرة في كومة من القش

لطالما كان البحث في مسألة أصل الإنسان محل جدل قائم إلى يومنا هذا بين العلم والدين والفلسفة، وتعقد الصراع وحمي وطيسه منذ زمن داروين ورحلته على سفينة صاحبة الجلالة المُسماة «البيغل»، والتي أبحر فيها من أجل اكتشاف العالم، وقادته تلك الرحلة التي وثَّقها في كتاب «رحلة عالم طبيعة حول العالم» إلى نظرية التطور، التي بدورها وصفت العملية التي تتغير من خلالها الكائنات الحية بمرور الوقت نتيجة حدوث تغيرات في الصفات الجسدية الموروثة أو السلوكية، وتسمح للكائن بالتكيف بشكل أفضل مع بيئته ومساعدته في البقاء على قيد الحياة.

ولكن المفاجأة كانت في دراسة الجينوم الكامل للقردة، والذي زوَّدنا بفرصة كبيرة للتعرف على جيناتنا نحن البشر بنظرة موسوعية، تحديدًا تلك العوامل المسئولة عن السلوك، لنخرج بمجموعة تساؤلات مفادها: كيف تعمل الجينات وتؤثر على سلوكنا؟ وكيف نحب ونعبر عن العواطف؟ وما هي دوافعنا الحقيقية لممارسة الجنس وحفظ النوع؟ وما هي نظرتنا كبشر لغريزة البقاء والإيثار، ومدى تطابق تلك الظاهرة مع القرود؟ وما هو السر وراء تطابق طرق التعبير عن الانفعالات في الإنسان والقرود؟

تلك الأفكار لا زالت محل بحث ودراسة إلى يومنا هذا، تارة من علماء الوراثة والتطور، وتارة أخرى من علماء الوراثة السلوكية. وبإتمام مشروع الجينوم البشري، فُتح لنا باب آخر من التساؤلات والتفسيرات، فالاختلاف بين الجينوم الخاص بالقرود والجينوم الخاص بالإنسان ليس 1% كما يعتقد البعض بل 4% تقريبًا، وتضم ما يقرب من 35 مليون نيوكليوتيد (الوحدة الأساسية لبناء الأحماض النووية DNA وRNA)، وحوالي 90 ميجا بايت من عمليات الإضافة والحذف.

ويتمثل التحدي في تحديد الفروقات الجوهرية بين تلك الجينومات تحديدًا، هو الفروق التطورية والسلوكية، والفسيولوجية والحيوية، وما مدى قدرتها على التفاعل مع البيئة، وأن تلك الاختلافات ما هي سوى قمة جبل من الجليد لا زلنا لا نعرف الكثير عنه.

لربما في القريب العاجل يمكننا معرفة الدوافع نحو بعض الانحرافات السلوكية التي تقوم بها تلك الحيوانات، وتفسير الدوافع وراء أغرب الحوادث التي قامت بها، والتي تتنوع بين السرقة، وتكوين عصابات للسطو، والتحرش والجنسي، وأحيانًا يتطور الأمر للقتل.

حرب القرود والكلاب

لربما كانت الحادثة الأشهر تلك التي بين القرود والكلاب في قرية ماهاراشترا الهندية التي نُشرت في صحيفة «ديلي ستار» البريطانية. بدأت الحادثة، في ديسمبر/كانون الأول 2021، بيوم هادئ في القرية إلى أن قام مجموعة من الكلاب الضالة بقتل أحد صغار القرود والتمثيل بجثته. فما لبثت القرود إلا ساعات قليلة حتى تجمعت بعضها مع بعض، وكأنها تضع خطة للانتقام. فقسَّمت نفسها لمجموعات وشنَّت غارات عدوانية على كلاب القرية، تحديدًا صغار الكلاب، حيث تقوم بخطفها من الشوارع وإلقائها من الأبنية المرتفعة.

بلغ عدد الكلاب التي قتلتها القرود حينئذ 250 كلبًا. هاجمت حتى الكلاب الأليفة في الحظائر وقتلتها بنفس الطريقة. وعندما حاول أحد السكان المحليين حماية كلابه، قاموا بمهاجمة أطفاله، مما اضطره لاستدعاء الشرطة المحلية التي قامت بدورها بالقبض على تلك القرود العدوانية. كما سعت إحدى جماعات القرود لخطف طفل صغير وجره بعيدًا نحو أحد الهضاب العالية، لولا أن أنقذه أحد السكان المحليين من قبضة عصابة القرود.

علاقة جنسية بين القرود والغزلان

في عام 2017 في إحدى حدائق الحيوان المفتوحة في مقاطعة «مينو» في اليابان، لوحظ وجود علاقة بين أحد القردة من فصيلة «قرود المكاك» وإناث الغزال من فصيلة «سيكا». اعتبر العلماء أن تلك الحادثة الفريدة من نوعها ربما تكون اتجاهًا جنسيًّا جديدًا، ومغايرًا للسلوك المتعارف عليه عند القرود.

تعتبر هذه الحادثة هي الثانية من نوعها؛ ففي عام 2014 لاحظ العلماء نشأة علاقة جنسية بين إناث القرود المراهقين وبين البالغين من ذكور الغزال. أطلقوا على تلك الظاهرة «ظاهرة التزاوج غير الموجَّه»، وتم نشر تلك الدراسة في مجلة السلوك الجنسي. وكان ملخص تلك الدراسة أن هناك سلوكًا مغايرًا جديدًا بدأ ينشأ بين جماعات «قرود المكاك» في الحديقة وبين ذكور إناث الغزال والعكس، مما يبدو أنه مرحلة جديدة مبكرة من الشذوذ الجنسي.

تفسير السلوك العدائي لدى القرود

كل ما سبق يدفعنا لنتساءل: ما الذي دفع تلك الحيوانات إلى أن تمتلك سلوكًا عدائيًّا في الأصل؟

يمكن أن يكون السلوك العدواني قيمة تكيفية في سياقات بيئية معينة، ولكن عندما يكون متطرفًا أو مبالغًا فيه، أو يتم تنفيذه بصورة غير لائقة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير قادرة على التكيف. أظهرت إحدى الدراسات العصبية التي استهدفت تلك الرئيسيات العُليا غير البشرية أن الاختلاف الجيني الذي يؤثر على حساسية المكافأة، والاندفاع، والقلق يمكن أن يساهم في الفروق الفردية في السلوك العدواني.

وعند فحص مناطق الترميز (تشفير الجينات لمركبات بيو كيميائية معينة مثل الهرمونات وغيرها) الخاصة بجينات تلك الرئيسيات وجد الآتي:

مناطق إطلاق الكورتيكوتروبيين (CRH)، ومستقبلات الدوبامين (DRD4)، والجينات الناقلة للسيروتونين (SLC64A)، تكون متشابهة وظيفيًّا في البشر وفي قرود المكاك الريسوسية. وقد ثبت أن تلك المناطق وتلك الفروق تلعب دورًا مهمًّا في حالة العدوان بالنسبة للبشر والرئيسيات العليا أيضًا.

تقترح هذه المجموعة من الأدبيات آليات يمكن من خلالها للتنوع الجيني الذي يُعزِّز العدوانية، أن يزيد في نفس الوقت من النجاح التطوري، بينما يجعل البشر المعاصرين أكثر عرضة لعلم النفس المرضي. ولكن هل بالفعل لم تتمتع القرود بصفات حسنة؟

البيولوجية «سارة بروسنان»، من مركز يركيس في أتلانتا، قامت بعمل تجارب على القرود من فصيلة كبوشاوات، وهي قرود ذكية ومرحة، وكان معها مجموعة من علماء النفس ليُفسِّروا بعض أفعال القرود، وما إذا كانت تدل على وجود أخلاق القرود بالفعل. كانت تقوم بترتيب لعبة بينها وبين القرود، هم يتبادلون معها بعض الأحجار، لتعطيهم هي قطع من الخيار اللذيذ. وكان أطراف اللعبة هم الباحثة وقردين. وكلاهما يران بعضهما البعض، وكيف أنهما يأخذان نفس المقدار من الخيار من الباحثة. إلا أنه بنهاية اليوم جاءت الباحثة وغيرت تفصيلًا صغيرًا باللعبة. إذا تبادلت الأحجار مع قرد منهم وأعطه الخيار كالمعتاد، أم القرد الثاني فأعطته عنقودًا من العنب بدلًا من الخيار مقابل أحجاره. هذا الأمر أغضب القرد الثاني بالتأكيد، لأنهم يفضلون العنب عن الخيار. والقرد رأى أن اللعبة لم تصبح عادلة بعد الآن. وأخذ يلقي بالحجارة على العلماء أنفسهم، احتجاجًا لما يفعلونه. مما جعل العلماء يفسرون مفهوم (العدالة) من منظور القرود.

مفهوم العدالة عند القرود

​​كان الفلاسفة قديمًا يعتقدون أن الأخلاق والقيم المجتمعية حكرًا على الإنسان وحده. ولم يصل الحيوان إلى هذا التطور، وإنما هو يسير بعشوائية وغرائزية تامة. إلا أنه في السنوات الأخيرة ظهرت العديد من الدراسات التي تثبت أن هناك أخلاقًا للحيوانات، خاصة أخلاق القرود. وأن لديهم مفاهيم ثابتة يمشون عليها في تعاملاتهم مع بعض، خاصة لكل الحيوانات التي تعيش في مجموعات ويجب أن يحل السلام بين الأفراد جميعًا، لفرصة البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل.

من بين تلك المفاهيم هو مفهوم العادلة والتعامل بالمثل مع كل الأفراد. فالكل لديه وجبات، وليس هناك من هو أفضل من الآخر. والحيوان ينتظر أن يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع غيره. وهناك أسس أخلاقية أخرى لدى الحيوان، ونرى من أمثلة أخلاق القرود الأخرى: عدم الأنانية، وتقديم المساعدة عند الحاجة، واحترام كبار السن. فأخلاق القرود ليست منعدمة كما ظنُّوا قديمًا، بل هي في حالة تطور تتناسب مع السلم التطوري بيننا وبين القرود وغيرهم من الحيوانات.

لماذا تحتاج القرود إلى الأخلاق؟

هذا السؤال يعتبر الأهم في هذا المقال، لأنه يدعو للتفكير في أهمية هذه الأخلاق عند الحيوان. وهل هو في حاجة لها كما يحتاج لها الإنسان؟

تأتي الإجابة بأن الأخلاق هي الأسس المجتمعية التي تنمو من خلالها الأنظمة التي تسير عليها القطعان. فلا بد أن تكون هناك قواعد بين القرود لتسهل الحياة فيما بينهم داخل القطيع. نظرًا لأن الحياة الاجتماعية الجماعية، تحتاج إلى نظام يعطي التوازن الاجتماعي المناسب، لفائدة كل أفراد القطيع. ويبقى هناك جدل كبير بين العلماء والفلاسفة، في تحديد مسمى هذه الأفعال بأنها أخلاق من الأساس. أي من الممكن تفسير هذه الأفعال بأنها مجرد ردود فعل فطرية، ولا يجدر تسميتها بالأخلاق تشبهًا بالإنسان. ولكن ذلك يحتاج إلى دراسة معمقة في علم النفس التطوري، وعلم وراثة السلوك، لمعرفة مفهوم الأخلاق نفسه.

مثلًا، في تجربة قرود فصيلة «الكبوشاوات»، مع الخيار أو العنب؛ هل حقًّا احتجاج القرد نابع من إحساسه بتحطيم قيمة ومفهوم العدالة، أم إنها مجرد طريقة يقول بها إنه يريد العنب أيضًا؟

الفلاسفة يقولون بأن وصف «أخلاق القرود» يمكن أن يكون صحيحًا أو خاطئًا، والعيب يكمن في الدراسة. لأن الإنسان لن يدخل إلى الحياة الاجتماعية بالكامل عند القرود لأنه ليس قردًا. وكذلك مدى ظهور هذا السلوك الذي يفسر على أنه أخلاق. على العكس تجد أن علماء البيولوجيا يصرون على أن الأخلاق بمفهومها الإنساني موجودة بالفعل عند الحيوان. بل تمتد جذور هذه الأخلاق الإنسانية في أقرب المقربين إلينا، مثل الشمبانزي القزم، قبل انفصالنا عن تلك الرئيسيات العُليا.

الإيثار عند القرود

في أخلاق القرود، تظهر عملية الإيثار في تقسيم الطعام. فإذا وجد فرد من أفراد القطيع طعامًا وفيرًا يكون من واجبه أن يُقسِّم الطعام بين الجميع بالتساوي. إذ إنهم يمتلكون مفهوم الملكية لمن وجد الطعام أولًا، حتى لو كان هذا القرد ضعيفًا والأقل في الترتيب الهرمي الاجتماعي.

كما أن القائد أو القائدة أنفسهم يقفون في صف التوزيع، رغم أن صاحب الطعام قد يكون ضعيفًا، وهم يمتلكون السلطة، إلا أنهم لا يمتلكون الحق في المطالبة بأكثر من حصة من الطعام. أما أن يأخذوا الطعام بالقوة من القرد الضعيف، فهذا يخالف أخلاق القرود.

ومن وجد الطعام هو وحده الذي يملك الحق بمشاركة هذا الطعام إن رغب أو لا، ولكنه في الغالب يقبل المشاركة لأنه هو الآخر يمتلك أخلاق القرود التي تتميز بعدم الأنانية. والكل يثق أنه سيُوزِّع بالتساوي بين الجميع، لينعم الكل بالسعادة والحب والسلام.

في النهاية سلوك الإنسان معقد أكثر من سلوك القرود، والتي بدورها تمتلك سلوكًا معقدًا أكثر من سلوك بقية الحيوانات الأخرى الأقل في السلم التطوري؛ ولكن هذا التشابه يدعو للتفكير، فهل نستطيع القول بالفعل أن السلوك يرتبط فقط بعوامل التربية البيئية، أم أنه يرتبط بما نتوارثه في جيناتنا التي تتشابه مع أنواع من الحيوانات مثل القرود؟

الأكيد أن الإنسان ليس الحيوان الوحيد الذي يحتكر التعامل بمفهوم الأخلاق والسلوكيات مثل مفهوم العدالة وحب السلام وحب المساعدة. وفي بعض الأحيان قد يغلب الحيوان بفطرته النظيفة والبريئة، أخلاق الإنسان نفسه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.