طالما جذب العالم الآخر خيالات الشعوب القديمة، فنجدهم نسجوا حوله القصص والأساطير، كتلك الأساطير السومرية التي جعلت من «كور» المكان الفسيح المظلم بين سطح الأرض والبحر الأول، هو الجحيم، وفيه تتجمع أشباح الموتى كلها، ومن أجل العبور إليه كان يلزم أن يمر المرء بــ «نهر يبتلع الإنسان» بواسطة قارب له «ملاح خاص» يسير به [1]، وربما من سومر انتقل هذا الاعتقاد إلى اليونانيين الذين أصبح لديهم عالم موتى، أو جحيم يحكمه «هاديس» إله الموت والعالم السفلي لدى الإغريق، ويُعبر إليه بواسطة قارب في عدة أنهار آخرها هو نهر «ستيكس»، وعلى المتوفى/الروح أن تحمل قطعًا ذهبية لتمنحها لملاح القارب «خارون» في النهر الأول «أشيرون» كي يعبر بها، ومن أجل هذا كان الإغريق يضعون قطعة ذهبية في فم المتوفى.

ويبدو أن العالم الآخر كان يشغل بال الإنسان في سومر بشكلٍ قوي، فحتى ملحمة جلجامش تذكر هبوط «إنكيدو» لعالم الموتى السفلي وعصيانه قوانين هذا العالم مما تحتم عليه البقاء هناك للأبد، وتُصوِّر القصيدة السومرية «جلجامش، إنكيدو، العالم الآخر» حديثًا يدور بين جلجامش وشبح إنكيدو، يطرح فيه جلجامش تساؤلاته عن العالم السفلي.

إن أحاديث الأساطير الآسيوية عن العروج إلى السماء طيرانًا من خلال طائر هائل أو حيوان أرضي تنبت له جناحات، فنجد أن بعض الشعوب في آسيا كالترك والمغول مثلًا آمنوا بقدرة الخيل على التحليق في السماء، فقيل إن جنكيز خان قد عرج إلى السماء مُمتطيًا حصانًا أشهب. [2]

وفي الأديان السماوية ظل العروج إلى السماء موجودًا في فكر وعقيدة الإنسان، فالتوراة في سفر التكوين تُحدثنا عن معراج يعقوب ورحلته إلى السماء، «فبينما كان يستريح ذات ليلة بعد الغروب، رأى كما لو كان حلمًا، سلمًا تستند قاعدته على الأرض ويصل أعلاه إلى السماء، والملائكة يصعدون إليه ويهبطون. ومن أعلى عليين يُخاطب الله يعقوب واعدًا إياه أن يحميه ويبارك خلوده». [3]

وفي الواقع، فإن المعراج إلى السماء واحدة من معجزات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي أثبتها القرآن في سورة الإسراء بقول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»، وخلدت تلك المعجزة المرويات الإسلامية التي انتقلت إلى الفكر الفلسفي والفكر الصوفي الإسلامي وتأثرت بها كتابات المعري وابن عربي، تلك الكتابات التي انتقلت إلى الفكر الفلسفي الأوروبي، وتأثر بها دانتي أليجيري في ملهاته، أو ما يُطلق عليها الكوميديا الإلهية.

تبدأ ملهاة دانتي بحلم يرى فيه أنه قد ضل الطريق ليجد نفسه في غابة مظلمة (كرمزية على التشوش والضلال)، وبينما هو يبحث عن مخرج، إذا به يرى جبلًا رائعًا تُشرق عليه الشمس (كرمزية الحب الإلهي)، ليحاول دانتي تسلق الجبل فلا يستطيع وقد منعه فهد (كرمزية للخداع)، وأسد (رمزية العدو)، وذئبة (رمزية الشهوة) ليهرب دانتي، ويظهر له شبح فرجيل (رمزية العقل)، ويرشده إلى طريق الصعود إلى الجبل مرورًا بالجحيم ثم بالمطهر، حيث يخوضان رحلة عجيبة يرى فيها دانتي المعذبين الآثمين والمردة في الجحيم، ثم يعبران بالمطهر وهو جبل مكون من سبع درجات في كل واحد منهم نوع من الآثمين المطهرين.

يذكر دانتي أن جبهته قد رُسم عليها عند مدخل في المطهر سبع علامات تشير إلى الخطايا السبع، وكلما صعد من درجة إلى أخرى تُمسح علامة من فوق جبهته كرمزية تطهره من واحدة من الخطايا، وبعد المطهر يتركه فرجيل في صحبة بياتريتشي (كرمزية للإيمان) والتي جاءت في موكب فردوسي [4]، لتصحبه حتى السماء التاسعة، ثم تتخذ موقعها بين الأرواح الطوباوية تاركة دانتي برفقة القديس برناردو، والذي سيعرج معه لرؤية النور الإلهي.

يتضرع برناردو إلى السيدة العذراء، وتتوجه إليها أنظار بياتريتشي والأرواح الطوباوية في السماء التاسعة ترجوها لتعين دانتي في جلاء بصره ليتمكن من رؤية نور الله الأعظم، فتلتقط عينا دانتي منبع النور السماوي ويشهد الهيئة الإلهية، ويتجلى له الثالوث المقدس: الأب والابن على شكل حلقتين؛ تعكس حلقة الأب حلقة الابن وأما الطبيعة الثالثة (الأقنوم الثالث) [5]، فجاءت على شكل نار منبثقة من الاثنين، لكن  كان لهذا المشهد هول وهيبة وجمال تعدى قدرة دانتي على تذكر كل ما رآه، فيقول إنه وصف ما استطاع تذكره ووصفه، وبهذا تنتهي الكوميديا الإلهية.

وبقليل من التأمل سنجد أن ملهاة دانتي تتقاطع مع الفكر والفن الإسلامي بشكل كبير، فهي مُستلهمة من رسائل غفران المعري، وفتوحات ابن عربي المكية، والقصص المروية عن المعراج بالنبي الكريم. وكان أول من انتبه لهذا التقاطع هو المستعرب الإسباني «ميجيل أسين بلاثيوس» الذي خرج بنظرية عرضها عام 1919 في خطبة أمام المجمع اللغوي الملكي الإسباني، وكانت نظريته تدور حول الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية؛ حيث تأثر دانتي في رأي بلاثيوس بالثقافة والفنون الإسلامية التي انتقلت إلى بقية أوروبا وبقية المدن الأندلسية مرورًا بصقلية، والتي كانت بالفعل متأثرة بالثقافة العربية كونها بقيت تحت الحكم الإسلامي قرابة ثلاثمائة عام، وأن دانتي أيضًا ربما يكون قد تأثر بأستاذه «برونيتو لاتيني» الذي كان سفيرًا للبندقية في قشتالة عام 1260. [6]

وفي الواقع، فإن هناك محاولة تسبق محاولة بلاثيوس لإثبات الأصول الإسلامية لكوميديا دانتي الإلهية، وكان ذلك من خلال المستشرق الفرنسي «بلوشيه» الذي أشار إلى أن أصل الكوميديا الإلهية ربما يكون فارسيًّا، وقد تأثر دانتي، في رأي بلوشيه، برسالة بهلوية كُتب فيها عن رحلة للعالم الآخر قام بها متصوف زرادشتي يُدعى «أرتاك فيراز» رأى فيها مشاهد الثواب والعقاب تمامًا كما ترد في كوميديا دانتي [7]، لكن عجز بلوشيه عن إثبات فرضيته تلك، إلى أن جاء بلاثيوس بنظريته المنهجية التي استطاع إثباتها بالأدلة.

تناول بلاثيوس التشابه الكبير في وجهة نظره بين معراج دانتي وفرجيل إلى السماء ولقائه بحبيبته بياتريتشي في فردوس الكوميديا الإلهية، وبين قصة معراج فيلسوف صوفي إلى السماء جاءت في كتاب «الفتوحات المكية» للمتصوف الأندلسي ابن عربي، والذي كان أحد أتباع ابن مسرة المتصوف والفيلسوف الأندلسي، والذي تأثرت بأفكاره فلسفة القرون الوسطى.

ويبدو أن بلاثيوس قد شعر بحاجة للاستزادة، وأنه يحتاج للمزيد من البحث والتمعن بعد أن ألقى خطبته تلك فألَّف كتابه؛ إذ رأى بلاثيوس أن الفلسفة الأفلاطونية التي حدثها ابن عربي، والأسلوب الرمزي المتأثر بالفتوحات المكية لابن عربي أيضًا والذي صاغ دانتي من خلاله معراجه إلى السماء قد أثرا في ملهاته، وخاصةً الجزء المتعلق بالفردوس، ثم ذهب إلى أنه يحق لإسبانيا «الأندلس» أن تفخر بمفكريها الأندلسيين المسلمين، وأن تُطالب بنسبة جزء من الحظوة التي لاقتها ملهاة دانتي، كونها مُستلهمة في كثير من مواضعها من أعمال المفكرين الأندلسيين المسلمين في الأصل، وهكذا ألف بلاثيوس كتابه ليعرض فيه بتوسع وجهة نظره تلك. [8]

وليست كتابات ابن عربي وحدها ما ألهبت خيال دانتي على ما يبدو، إذ إنه تأثر كما هو واضح بالمعري في «رسائل الغفران»، فمثلًا لقاء دانتي وهو زائر جديد في العالم الآخر بمشاهير من الفلاسفة والسياسيين وأشخاص عرفهم في حياته الدنيا وحددهم بالأسماء كانت قريبة لفكرة رسائل الغفران الأساسية، ثم اهتمام دانتي بمصائرهم بين جحيم وفردوس، ووصفه لجحيم المهرطقين/الزنادقة الشبيه بوصف المعري لعذاب الزنادقة في الجحيم، ووصف دانتي جحيم الجن والذي يتقابل مع جنة المردة المؤمنين في رسائل غفران المعري، والتي لم ترد هي الأخرى في قصة المعراج الإسلامية.

ولا ننسى تصوير دانتي للشيطان قريب الشبه من تصوير المعري لإبليس، أو تنقل دانتي على ظهر فرجيل بين طبقات الجحيم، أو حتى ركوبهما معًا ظهر الجنية جريون شديد الشبه بمشهد ابن القارح في رسائل الغفران وهو يقترح على الجارية أن تحمله على ظهرها.

كل هذه المشاهد تبدو في الواقع مستلهمة من مشاهد في رسائل الغفران، مما يعطي انطباعًا راسخًا بأن دانتي كان على اطلاع أيضًا برسائل غفران المعري، حد التأثر بها في ملهاته. [9]

وبتأمل بلاثيوس الإسراء بالنبي من مكة إلى بيت المقدس، ثم العروج به إلى السماء ومروره على مشاهد من يوم القيامة والآخرة، تنبه إلى أن المأثورات الإسلامية عن الإسراء والمعراج بالتحديد هي ما ألهم دانتي مشاهده التي رسمها في ملهاته عن يوم القيامة والعالم الآخر، وبمقارنته للخطوط العامة للقصة الإسلامية للمعراج بالخطوط العامة لقصيدة دانتي تأكد له أن هناك بالفعل شبهًا كبيرًا بين القصتين، امتد ليصل إلى التفاصيل والأحداث والمشاهد التي يصورها دانتي في مراحل معراجه، وإلى ما أطلق عليه بلاثيوس «هندسة الممالك الأخروية»، والتي هي على حد تعبيره: «التصور الطوبوغرافي لدركات النار ودرجات الجنة، وقد لاح لي أن المهندس الذي صمم العملين واحد، هو المهندس الإسلامي». [10]

إذن فإن دانتي قد تأثر بالفعل في ملهاته، بحسب بلاثيوس، بأدب وفلسفة المعري وابن عربي، هذا إلى جانب المرويات الإسلامية التي تناولت الإسراء والمعراج.

وبالطبع أثارت تأملات بلاثيوس عواصف النقد في أوروبا، واعتمد المعترضون في نقدهم على حقيقة أن دانتي أليجري لم يكن عالمًا كفاية بالعربية حد الفهم التام لآراء وكتابات المفكرين والفلاسفة العرب، لكن في عام 1949، عثر الباحث الإسباني «خوسيه مونيوث سندينو» على ثلاث مخطوطات هي الترجمات الإسبانية واللاتينية والفرنسية لقصة المعراج الإسلامية [11]، وقد ترجمها إلى الإسبانية الطبيب اليهودي «إبراهيم الطليطلي» بطلب من الملك ألفونسو الحكيم عام 1264.

طلب ألفونسو بعدها من الراهب والكاتب الإيطالي «بونافنتورا داسيينا» ترجمة النص إلى الفرنسية واللاتينية، وقد نشر الباحث الإسباني النصوص الثلاثة في مدريد تحت عنوان «معراج محمد»، ثم نشر المستشرق الإيطالي «إنريكو تشيرولي» ترجمة إيطالية للنصين اللاتيني والفرنسي تحت عنوان «الأصول العربية للكوميديا الإلهية» في نفس العام، مما يثبت فرضية أن دانتي أليجري تأثر بمعرفة معلمه برونيتو لاتيني بالعلوم والمعرفة الإسلامية.

بل إن تشيرولي اعتقد أن دانتي ربما اطلع على قصة المعراج ثم أشار على ألفونسو الحكيم بترجمتها، ولكن في نفس الوقت لا يرى تشيرولي المعراج أكثر من ملهم لدانتي في تأليف ملحمته الشعرية عن الآخرة والفردوس والجحيم، وأن المُلهم الأكبر لدانتي في رأيه كانت بياتريتشي، فنجده يقول:

إذا ما قارنا بين المعراج والكوميديا، تكشفنا أن الرؤيا الإسلامية للعالم الآخر قد ألهبت حماسة دانتي على تأليف قصيدة مسيحية عن الرحلة إلى العالم الآخر، تفوق بإيمانها الحق وفنها الرفيع كل الخيال الذي صوَّر الجنة والنار في الرؤيا الإسلامية. بقدر ما كانت رغبة دانتي عارمة في تخليد محبوبته بياتريتشي التي أحبها حبًّا، سما به إلى الروحانية، فألهمته ما لم يكتبه أحد عن أنثى قبلها، وهي التي منحته دون أن تدري الصوت الذي تغنى به، وصعدت به إلى عالم علوي حيث تسلمت بعد فرجيل مهمة القيام بدور الدليل المرشد الذي قام به الملاك جبريل مع النبي محمد، فكما كان الرسول يسأل عن كل ما يقع عليه بصره فيجيبه جبريل، كذلك كان دانتي يسأل ويجيبه فرجيل في الجحيم والمطهر، ثم بياتريتشي في الفردوس. [12]

هذا إلى جانب فرضية أخرى تقول بتأثر دانتي بسنائي المتصوف الفارسي الشهير [13]، والتي أشار إليها المستشرق الإنجليزي «نيكلسون» في بحث بعنوان: «رائد فارسي لدانتي» ربط فيه بموضوعية بين منظومة «سير العباد إلى المعاد» وكوميديا دانتي، وقد انتبه أحد الباحثين المصريين إلى تلك الفرضية وكان على دراية عميقة بأدب سنائي، فاستطاع أن يعقد بعض المقارنات والموازنات بين كوميديا دانتي وسير عباد سنائي، وقد كان مقتنعًا بأن للعملين مصدرًا واحدًا، وهو فلسفة أرسطو في شكلها الأول، ثم تطورها على يد الفلاسفة المسلمين، لا سيما ابن سينا، وصولًا لتوما الأكويني، وربما لهذا السبب بالتحديد لم تحظَ تلك الفرضية باقتناع الباحثين والعلماء بأن أصل الكوميديا الإلهية قد يكون فارسيًّا إسلاميًّا. [14]

وبمراجعة رحلة معراج دانتي سنجد أنها قُسِّمت إلى الجحيم ثم المطهر والفردوس، والمطهر يُقابل في رحلة المعراج الإسلامية الصراط وجبل الأعراف والبرزخ والجسر والسور والقنطرة إلى آخر ما جاء في تراث المرويات الإسلامية [15]، وقد حدد تشيرولي أوجه التشابه بين المعراج في الإسلام وبين معراج دانتي، فالسموات كانت سبعًا في القرآن الكريم، وقد جعلت القصة الإسلامية للمعراج لكل سماء رمز من الأحجار الكريمة وجعلتها متدرجة حتى الوصول بالنبي إلى نورانية الله التامة. [16] بينما قسم دانتي سموات ملهاته إلى تسع سموات تنتهي بوردة عملاقة سماوية هي سماء السموات وتسكنها أرواح الطوباويين والملائكة وفيها عرش الله، وهذه الأرواح في حركة مستمرة؛ صاعدة ونازلة ما بين الوردة والعرش في بُعد نوراني يختلف لا يُقاس بمعايير ومنطقية الزمان والمكان الأرضيين.

ثم إن دانتي قد جعل الصعود من سماء إلى سماء سريعًا كلمح الخاطر أو انطلاق القوس من السهم، تمامًا كصعود النبي من فُلك إلى فُلك في غمضة عين، وقد جعل في كل سماء ملائكة، تمامًا كما قسم المذنبين في طبقات الجحيم بحسب ما ارتكبوه من معاصٍ وآثام [17]، وبدون أن نغفل أن كلا المعراجين كانا ليلًا، وأن المعراج في الحالتين كان يتم بعد أن يستيقظ الصاعد إلى السماء من نومه، وكذلك تصميم جحيم دانتي جاء على شكل جبل مخروطي مقلوب والذي يتشابه مع أوصاف النار في الإسلام، وحتى تصميم الفردوس لدى دانتي يتشابه إلى حد بعيد مع أوصاف الجنة.

مثلًا يرى تشيرولي أن شجرة الحياة تتشابه وسدرة المنتهى، ينبع منها نهران أرضيان هما النيل والفرات، ونهران سماويان وهما السلسبيل والكوثر، وهما يتشابهان مع نهري ليتي (نهر النسيان) ونهر إينووي في كوميديا دانتي، والذي يُعيد تذكير الإنسان بأعماله الصالحة، وأيضًا الحوريات الراقصات والسيدات المُنشدات في فردوس دانتي تذكرنا بحور العين في جنة الإسلام. [18]

والمتمعن في كوميديا دانتي سيجدها دليلًا على تأثره بالعلوم والثقافة الإسلامية، فيقول جبرييلي في ذلك الصدد:

لقد بات من المعترف به أن هذه النسخ المترجمة كانت تحت بصر دانتي، وما ينبغي علينا مناقشته الآن ليس العنصر الجمالي أو الإبداعي بل هو العلاقة التي تربط بين العملين من النواحي السيكولوجية والخلقية والثقافية. [19]

فقصة المعراج كانت مُحفزًا لدانتي كي ينسج رحلة أخروية من خلال وجهة نظره ككاتب مسيحي يعيش في أوروبا في القرون الوسطى؛ أي في زمن كانت الأعمال الكلاسيكية العظيمة تأتي كنماذج مُستلهمة ومُحاكاة ومحدثة لأعمال أخرى قديمة، خاصة أن دانتي كان مُعجبًا بالتفاصيل والمشاهد التي جاءت في الرواية الإسلامية للمعراج، بغض النظر عن موقفه من الدين الإسلامي والنبي محمد، مما أتاح له التعديل في تلك التفاصيل وتطويعها لتناسب التفاصيل المسيحية، وحتى إنها اتسعت لتضم بين تفاصيلها العناصر الميثولوجية الإغريقية [20]، والفلاسفة  والشعراء ورجال الدين اليونان والرومان أمثال أرسطو، وفرجيل، وأوفيد، وشيشرون، بصحبة بيثيوس، وتوما الأكويني، وفرنسيس الأسيزي.

ولكن، أن يكون دانتي متأثرًا بالثقافة الإسلامية لا ينفي عنه الإبداع، ولا يُقلل من عظمة ملهاته الخالدة، فملهاة دانتي وعلاقتها بقصة المعراج الإسلامية تشبه علاقة الأصل بالصورة، وإن جاءت الصورة أكثر روعة؛ حيث صبغها دانتي بالكثير من الجمال والروحانية كما يرى مونيوث سندينو، ولولا الأصل ما كانت الصورة بتلك الروعة، في حين يشبه آسين بلاثيوز الكوميديا الإلهية بالمسجد الكبير في قرطبة «الذي يبدو غابة من الأعمدة الإسلامية طُوعت لعبادة الثالوث المسيحي». [21]

ملهاة دانتي تبرهن على حقيقة أن الإنسان مجبول على التساؤل عن عالم الآخرة وعن الجنة والنار والثواب والعقاب، وعلى البحث عن الله، وفضوله في استكشاف نظرة الآخر لله وأوجه اتفاقها واختلافها مع رؤيته لربه مهما اختلفت العصور والأديان والثقافات والأماكن؛ ففطرته تحثه على الرجوع إلى خالقه ليتطهر من ذنوبه وآثامه، ليجتهد خياله فينسج طرق عودة يسير من خلالها إليه وسموات عديدة يعرجها جميعًا في سبيل ضيائه، طالبًا الخلاص من ذنوبه والتوبة عن سيئاته، ليكون مستحقًّا أن يملأه النور الإلهي، فيعيش ساطعًا وراضيًا في فردوس أبدي.

المراجع
  1. كريمر. صمويل، من ألواح سومر، ترجمة: طه باقر، مكتبة المتنبي ببغداد ومؤسسة الخانجى بالقاهرة، 1975، ص:261.
  2. عكاشة. ثروت، معراج نامه: أثر إسلامي مصور، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1987، ص:116.
  3. عكاشة. ثروت، معراج نامه، ص:116.
  4. دانتي: الكوميديا الإلهية، ترجمة حسن عثمان، ط2، دار المعارف، القاهرة، 2002، ص: 13 –77. انظر أيضاً: عوض. لويس، على هامش الغفران، كتاب الهلال، العدد 181، أبريل 1966، ص:142-158.
  5. الأقنوم: كلمة في اللاهوت المسيحي وتعني إحدى طبائع الله في الثالوث. الكلمة لها أصل سرياني، وهي غير ممثلة في اللغة العربية، والأقرب شبهًا بها كلمات مثل: طبيعة أو كيان، أو ماهية.
  6. عكاشة. ثروت، معراج نامه، ص:114.
  7. فضل. صلاح، تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة 3، 1986، ص98.
  8. بلاثيوس. ميجيل أسين، أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية، ترجمة: جلال مظهر، مكتبة الخانجى بالقاهرة، 1980، ص10.
  9. عوض. لويس، على هامش الغفران، ص:159-160.
  10. نفس المرجع السابق، ص11.
  11. عوض. لويس، على هامش الغفران، ص: 139-140.
  12. عكاشة. ثروت، معراج نامه، ص:114-115.
  13. فضل. صلاح، تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي، ص:98.
  14. المرجع السابق، ص:103-105.
  15. عكاشة. ثروت، معراج نامه، ص:116.
  16. نفس المرجع السابق، ص:116.
  17. نفس المرجع السابق، ص:116.
  18. نفس المرجع السابق، ص:116-117.
  19. نفس المرجع السابق، ص:117.
  20. فضل. صلاح، تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية، ص: 53.
  21. عكاشة. ثروت، معراج نامه، ص:117.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.