لم يكن من المفترض أن تجلس الملكة إليزابيث الثانية، المتوفاة في 8 سبتمبر/ أيلول 2022، على العرش.  فلم يكن أسلافها من السلالة الأحق بحكم بريطانيا، لكنهم وصلوا إليه على كل حال. وصلوا دون قتال أو مؤامرات، فقد جاءهم العرش منحة من الإله. ففي عام 1689 كانت الخلافة البروتستانتية التي يُؤكد عليها الدستور البريطاني محل تهديد. زاد الخطر حين توفيت الملكة ماري عام 1694 دون أن تترك أي أطفال. يجب أن يذهب العرش في هذه الحالة للأميرة آن، ثم لسلالتها من بعدها. لكن توفيت الأميرة آن، ثم توفي ابنها الوحيد وعمره 11 عامًا في سنة 1700.

بوفاة الأمير الصغير انقطع نسل السلالة البروتستانتية في العائلة المالكة، ولم يبقَ من السلالة إلا الكاثوليك. وهم أحق بالعرش لنسب الدم والقرابة المباشرة. لكن البرلمان البريطاني ظل مصرًّا على أن بريطانيا بروتستانتية ولن تكون كاثوليكية، فمرر البرلمان قانون التسوية عام 1701. يقول القانون الجديد إنه لأجل الحفاظ على المذهب الديني لبريطانيا فإن التاج سيُمرر لأقرب علاقة نسب مع الملكة آن، لكن شريطة أن يكون من ينتقل إليه التاج بروتستانتيًّا.

من ينطبق عليه الشرطان السابقان كانت الأميرة صوفيا، المتزوجة من بيت هانوفر. لكن ماتت الأميرة صوفيا قبل وفاة الأميرة آن بشهرين. فوقع البرلمان في المأزق مرة أخرى، فخرجوا منه بإقرار أن الحكم سوف ينتقل إلى الأميرة صوفيا، وباعتبار وفاتها فسوف ينتقل لورثتها من البروتستانت. وهكذا تولى الملك جورج الأول الحكم رغم وجود أكثر من 50 قريبًا أحق بالمُلك منه لصلة الدم، لكنهم حُرموا منه لأنهم كاثوليك. ظل جورج الأول وأحفاده في الحكم حتى الملكة إليزابيث المعروفة حاليًّا.

كانت فترة الحكم التي وصل فيها بيت هانوفر إلى الحكم فترة مضطربة، وكان استقرار المجتمع البريطاني بالكامل مهددًا. لكن استطاع آل هانوفر الظفر بفترات حكم هادئة ومستكينة، خصوصًا لأن حكام البيت تميزوا بأعمار أطول نسبيًّا من كل الذين حكموا بريطانيا سابقًا. وفي ظل حكم بيت هانوفر استطاعت المملكة البريطانية السيطرة على حكم ما يقارب من ثلث الكرة الأرضية. ما زاد من ثروة المملكة ومنحها استقرارًا سمح بالحديث عن التطوير السياسي. فكان وجود أول رئيس وزراء بريطاني، روبرت والبول، راجعًا إلى تلك الفترة.

رئيس الوزراء يشتري الشرعية للملك

تراجع الملكية البريطانية أيضًا تزامن مع فترة آل هانوفر. ليس لأن أول رئيس وزراء كان في فترتهم، لكن لأن الملوك المتتابعين كانوا أضعف من فرض سطوة حقيقية على مقاليد الحكم. جورج الأول مثلًا كان لا يجيد التحدث بالإنجليزية، واشتهر بمعاملته السيئة لزوجته وابنة عمه. وطلَّق زوجته بعد عشرين عامًا من الزواج، وحبسها في قلعة حتى وفاتها عام 1726. لهذا لم يكن العامة، ولا رجال البلاط الملكي، يكنون له الاحترام الكافي. خصوصًا في وجود جيمس ستيورات، الأحق بالملك منه، لكنه حُرم منه لأنه كاثوليكي.

بدأ جورج حكمه بقمع تمرد قاده ستيورات للمطالبة بالحكم. ثم حدثت أزمة اقتصادية ضخمة بانهيار شركة بحر الجنوب، وضاع فيها استثمارات أرستقراطية وحكومية مهولة. فتراجعت شعبية الملك على مستوى الأثرياء كذلك. وبات الجميع يخاطب رئيس الوزراء تجنبًا للحديث مع الملك. ورضي جورج بذلك، ما دام هو الملك. وظل الملك حتى عام 1727، وخلفه ابنه.

جورج الثاني لم يحصل على اعتراف بملكيته إلا بفضل رئيس الوزراء الذي اشترى اعتراف المحافظين والأثرياء بأحقية جورج الثاني بالحكم بدلًا من ستيورات المنفي. لكن بعد ذلك حدثت خلافات بين الرجلين، فأُزيح والبول من رئاسة الوزراء. وجد جورج رئيسًا جديدًا للوزراء، لكنه لم يساعده حين تكررت انتفاضة اليعاقبة، المطالبين بولاية ستيورات للحكم. فتدخل والبول وأنهى الأمر، ومحا تهديد ستيورات للأبد. فظل والبول في المشهد يتلاعب بخيوط القصر الملكي، حتى إن لم يكن ذلك رسميًّا في رئاسة الوزراء.

عام 1760 تولى جورج الثالث. مولود في بريطانيا، يتحدث الإنجليزية بطلاقة. كان مذهبه هو الدخول في حروب خارجية قدر الإمكان، لتجنب التمرد الداخلي. فدخلت حكومة الشمال في حرب مع المستعمرين الأمريكيين واندلعت حرب عام 1775. أصر الرجل على أن يطول أمد الحرب دون تسوية سياسية، فانتهت الحرب عام 1781 بهزيمة بريطانيا. كذلك قامت الثورة الفرنسية في عهده، وبدأ نابليون بونابارت في الصعود.

نهاية بيت هانوفر

جورج الرابع كان سيئ السمعة، ولم يكن له وريث، فتزوج من ابنة عمه كي يوافق البرلمان على دفع ديونه. لكنه مات دون ترك وريث، فانتقل الحكم إلى شقيقه ويليام الرابع، كان عمره 65 عامًا آنذاك. حكم ويليام لسبع سنوات. كبر سنه جعله أضعف من مواجهة البرلمان الذي رأى الفرصة سانحة لاقتناص بعض صلاحيات الملك، وتمرير قانون الإصلاح.

مات ويليام عام 1837، وبحلول وفاته كان جميع أبنائه الشرعيين قد توفوا. ولم يكن من الممكن أن يرث أبناؤه غير الشرعيين الحكم. فانتقل العرش إلى ابنة أخته، الملكة فيكتوريا. حكمت فيكتوريا 64 عامًا، ثاني أطول فترة حكم بعد الملكة إليزابيث الثانية المتوفاة حديثًا. وسُميت فترة حكمها بالعصر الفيكتوري نظرًا للتغييرات الضخمة التي حدثت فيه. ففيه حدثت الثورة الصناعية.

بعد وفاة فيكتوريا تولى جورج الخامس الحكم. لكن جورج كان ابن زوج فيكتوريا، فكان ينتمي لعائلة ساكس- كوبورج. وحين تولى قام بتغيير لقب العائلة بالكامل إلى عائلة وندسور. فانتهى بوفاة فيكتوريا السيطرة الرسمية لبيت هانوفر، وسيطرة عائلة ساكس- كوبورج. وباتت العائلة الجديدة وندسور هي الحاكمة. تغييره للاسم نابع من نشوب الحرب العالمية مع ألمانيا، فصار اسم ساكس- كوبورج الألماني له دلالة سيئة فتخلص منه الملك. وقال إن نسل فيكتوريا بالكامل سيحمل اسم وندسور، باستثناء البنات المنحدرات من المتزوجات خارج العائلة.

بعد وفاة جورج الخامس آل الحكم إلى إدوارد الثامن، ثم بعده إلى جورج السادس. ثم آل إلى ابنته الملكة إليزابيث الثانية صاحبة أطول الفترات حكمًا  بين فبراير/ شباط 1952 و8 سبتمبر/ أيلول 2022. وبعد وفاتها آل الحكم إلى ابنها تشارلز الثالث.

الملك الثابت خير من السياسي المتغير

اشتهرت إليزابيث الثانية بشعبيتها الجارفة. وعُرفت باهتمامها الجاد بالشئون السياسية للمملكة. وفي حياة والدها حصلت على لقب عقيد فخري، تقود 500 شخص من حرس جرينادير. ولاحقًا عُينت عضوًا في مجلس المملكة، ما أتاح لها الحكم بدلًا عنه حال غيابه. وأُعلنت خِطبتها إلى ابن عمها الثالث الأمير فيليب. كان العديد من أفراد العائلة يرونه خيارًا غير حكيم بسبب افتقاره للمال، واختلاط دمه بالدم الألماني. لكنها رفضت الزواج بغيره، فتزوجا وأنجبا الأمير تشارلز الملك الحالي.

ظلت الصلاحيات تُسرق من يد الملك تباعًا حتى وصل الحكم إلى إليزابيث بلا صلاحيات. خصوصًا أن سحب الصلاحيات لم يكن دائمًا أمرًا سلسًا. فمنذ القرون الوسطى أبدى البارونات والنبلاء معارضة شرسة لاستبداد الملوك بالحكم. كانت الحاضنة الشعبية لتلك المعارضة تزداد عامًا بعد الآخر، حتى اضطر الملك جان سان تير إلى التنازل عن بعض صلاحياته، فيما يُعرف في الأدبيات السياسية باسم الميثاق الكبير عام 1215. لكن بعد 3 قرون أعلن هنري الثامن نفسه قائدًا روحيًّا لبريطانيا واستولى على كل أملاك الكنيسة وعاد للاستبداد مرة أخرى.

وفي القرن السابع عشر حدثت حرب أهلية طاحنة بسبب رفض النبلاء استبداد الملك شارل الأول. انتهت الحرب بمقتل الملك، وانتصار النبلاء بقيادة أولفييه كروم ويل. الذي أعلن نفسه وصيًّا على العرش، وأسس ديكتاتورية دموية لن تنتهي إلا بثورة شعبية يُقتل هو نفسه فيها عام 1658. وبعد 11 عامًا حين وصلت ماري، ابنة شارل الثاني، للحكم وافقت على قانون الحريات الذي قلَّص صلاحيات الملك بشكل واسع، وانتقلت بريطانيا به إلى الملكية البرلمانية.

وأصبحت مهام الملك محصورة في دعوة البرلمان للانعقاد، والتوقيع على القوانين كي تصبح واجبة النفاذ. وتعيين اللوردات والفرسان. وللملك بعض الصلاحيات الأخرى كالدعوة للحرب، لكن الواقع أن تلك الصلاحيات لا تُمارس إلا من قبل رئيس الوزراء أو الوزير المختص. لكنها تتمتع ببعض المزايا التي يراها العامة غريبة، مثل أنها لا يمكن ملاحقتها قضائيًّا، فلديها حصانة سيادية من كل الاتهامات. ولا تدفع الضرائب، إلا تطوعًا. ولا تحتاج إلى جواز سفر للتنقل إلى أي دولة. ولا تحتاج لرخصة قيادة. وتملك الملكة طبقًا للقوانين كل الطيور في بريطانيا، وكل الدلافين والأسماك في البحار.

تلك الصلاحيات شبه الرسمية، والغريبة، تجعل من البديهي التساؤل لماذا يحتفظ البريطانيون بالملك إذن؟ استطلاعات الرأي كشفت وجهة نظر عامة البريطانيين في ذلك. فالملك بالنسبة إليهم شخص دائم، على عكس السياسيين الذين يأتون ويذهبون. فالملكية تضفي على بريطانيا رونقًا خاصًّا، ولهذا يحبها معظم الناس. ويرون في الملك الوسيط المناسب، بصفته شخصية عامة يمكنهم الوصول إليه والحديث معه دون خوف، ويمكنه أن ينقل مخاوفهم ومطالبهم لرئاسة الوزراء.

بالتأكيد غالبية من شملهم الاستطلاع قد ولدوا وعاشوا في عهد الملكة الراحلة إليزابيث الثانية فحسب، لذا فربما تتغير الأمور بعد تولية ملك لا يرضى عنه العامة، أو يفاجئهم بتصرفات لم يعتادوها من الملك البريطاني.