اليوم هو يوم التبضّع، مهتم أنت بجعل حميتك الغذائية متوازنة ومحتوية على كل العناصر التي يحتاجها جسدك؛ ليتمتع بالصحة والنشاط. تلتقط كيس الملح من على أحد الرفوف، تقرأ عليه الجملة المعتادة «ملح باليود». ليس هذا بالأمر المستغرب أبدًا، فأنت تعلم جيدًا أن العالم قد قرر أن يضع الكمية التي يحتاجها الجسم من اليود في جرعته من الملح للحماية من أمراض الغدة الدرقية، ومشاكل النمو.

ولكن، هل تعلم أن الطبيب الذي قام هذا القرار على أبحاثه، كان أيضًا يعالج مرضاه «بالملاريا»؟

نعم نقول «بالملاريا» وليس «من الملاريا». كان «يوليوس فاجنر-يوريج – Julius Wagner-Jauregg» بشاربه الكث طبيبًا صعب المراس، وفائق العبقرية طبقًا لزملائه. ولأنه يقال إن الظروف الصعبة تتطلب إجراءات صعبة، فقد قرر «فاجنر-يوريج» أن يداوي بالتي كانت هي الداء، ولم يثر العالم ضده؛ بل منح جائزة نوبل في الطب!.


تيار جديد

مثل فكرة السوائل الأربعة، أو العلاج بالزئبق والزرنيخ؛ كان مفهوم قدرة الحمى على علاج بعض الأمراض متجذرًا في أذهان المرضى والأطباء على حد سواء. تعود الفكرة لزمن «جالينوس، وأبقراط» ولكنها نجت من الشك الذي غشي معظم أفكارهم وتناولها بالتدقيق والتحليل والنقد، ثم الدحض.

اتخذ الأمر منعطفًا جادًا مع الأمراض الذهانية؛ خاصة تلك التي تتضمن أعراضها نوبات حادة. بدا الأمر منطقيًا تمامًا، وكما ذكرنا في أوان سابق فإن الحدس عادة ما يسير بنا في طرق مسدودة.

سيطرت الفكرة على ذهن الطبيب النمساوي الشاب سليل العائلة النبيلة بمجرد تخرجه من كلية الطب بجامعة فيينا. وطوال أربع سنوات قضاها مساعد بحث في عيادة فيينا النفسية، واصل «يوليوس» تدوين ملاحظاته، وإجراء تجاربه، وتنامى اهتمامه بـ«الطب النفسي الحيوي – Biological Psychiatry».

لم يكن لدى الشاب أي خبرات سابقة متعلقة بالطب النفسي. وانصبت دراسته على علوم الأمراض والفسيولوجيا؛ إلا أن المد الصاعد والانجذاب المتزايد نحو الربط بين الأمراض النفسية، والمسببات البدنية والجينية جعلاه يلتفت بشكلٍ رئيسي لملاحظة المرضى النفسيين، ومحاولة إيجاد التفسير الطبي المادي لأعراضهم.

بالطبع أتى «يوليوس فاجنر-يوريج – Julius Wagner–Jauregg» في وقت احتدم فيه الصراع بين الطب الرسمي العصبي في علاج الأمراض النفسية -وهو المنحى الذي تلتزم به الجامعات العريقة في النمسا وألمانيا-، وبين «التحليل النفسي الفرويدي – Psychoanalysis» الرائج حديثًا. كان عليه أن يختار حزبًا لينضم إليه، وبالفعل انحاز «فاجنر-يوريج» لقضية التفسير المادي البدني لكل الأعراض النفسية.


الشرارة الأولى

كان تركيز «فاجنر-يوريج» منصبًا كليًا على محاولة ربط التشريح بالأعراض النفسية. كان هذا حتى صادفته حالة امرأة ستصنع مستقبله بالكامل دون أن يدري. كانت المريضة قد شفيت من حالة مستعصية من الذهان بشكل إعجازي بمجرد إصابتها بحمى من التهاب «الحمرة البكتيري – erysipelas». سيسيطر الشغف بهذه الحالة على «فاجنر-يوريج» رغم أنه استغرق سنوات قبل أن يقوم بالنشر فيه، والتأكد منه.

في العام 1887، نشر «فاجنر-يوريج» ورقته الشهيرة «تأثير الحمى على الذهان – The effect of feverish disease on psychoses»؛ والتي تعتبر تعميدًا رسميًا له كأحد أتباع المدرسة المادية في علاج الأمراض النفسية.

حينها كانت الأمراض النفسية الأكثر قابلية لخلق خطوط مستقيمة بينها وبين المسببات البيولوجية؛ هي «الخرف – Dementia»، و«نقص هرمون الغدة الدرقية – Thyroid deficiency»، و«مرض الزهري العصبي – Neurosyphilis» . هذا الأخير الذي سيتناوله «فاجنر-يوريج» بالبحث والدراسة.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين؛ كان مرض الزهري العصبي –المرحلة الثالثة من مضاعفات مرض الزهري- يعد سرطان عصرنا الحالي. المرض الأعتى والأشرس والمراوغ دائمًا للعلاج.

كان قاتلًا بحق، لا يترك مريضه دون صولات وجولات يعيش فيها مصابًا بالخرف والشلل، وحبيسًا في ضلالاته وهلاوسه. وعندما ينتهي منه، كان يتركه جثة هامدة معذبة. لم تكن ثورة المضادات الحيوية قد رأت النور بعد، وكان الزهري العصبي حكم إعدام نافذ وبطيء.

وهنا رأى «فاجنر-يوريج»فرصة لاستخدام فلسفته العلاجية، وبيان فعاليتها.


حماس حار

صورة للطبيب يوريج على أول إصدار لعملة الشلن النمساوي فئة 500، عام 1953.

كانت تجارب وملاحظات «فاجنر-يوريج» قد أسفرت عن قناعة عميقة لديه بأن الحمى تستطيع بالفعل علاج الكثير من حالات الذهان. لذا قرر أن يأخذ أمر التسبب في الحمى على عاتقه، ويترك لها مهمة العلاج. عرفت هذه الطريقة آنذاك باسم «العلاج بالحمى – Pyrotherapy». إلا أن مساهمة «فاجنر-يوريج» لم تتوقف عند هذا الحد.

قرر «فاجنر-يوريج» أن الحمى الأكثر فعالية في العلاج، هي حمى الملاريا التي يسهل علاج مرضاها بعدما تؤدي الحرارة المرتفعة مهمتها في علاج أمراضهم. هنا بدأ «يوريج» ما يسمى بـ«العلاج بالملاريا – Malariotherapy»، حيث يصيب مرضاه بالملاريا بواسطة دماء جنود آتين من حروب البلقان، ويترك للحمى المجال في أن تأخذ مجراها، ثم يقوم بالعلاج!.

وللمفاجأة، أثبتت هذه الطريقة تحسنًا ملحوظًا في مرضى الزهري العصبي، و«علاج الشلل العام – General paresis of the insane». كان المرضى عادة هم رجال من الطبقة المتوسطة، وكانت الأعراض الجلية تتسبب في حتمية حجزهم في مصحات العلاج النفسي، أو الابتهال من أجل موت أسرع. بعد استخدام العلاج الملاريا؛ بدأ الزهري العصبي يصبح مرضًا قابلًا للشفاء، لا طريقًا أحادي الاتجاه نحو الجحيم.

بالطبع أصيب المجتمع العلمي بحمى محاولة تجربة استخدام عدوى بكتيرية أخرى في التسبب في الحمى الشافية، بدءًا من التيفود، وصولًا إلى الكوليرا، إلا أن الملاريا أثبتت أنها الأكثر فعالية. خاصة لتوافر علاجها ببساطة بواسطة «الكوينين – Quinine» في مقابل فشل علاج الزهري العصبي المتقدم بـ«السالفارسان – Salvarsan»، والزئبق. كانت تلك هي المحاولة الأولى لعلاج الزهري العصبي بطريقة بيولوجية، وقد أثبتت نجاحًا ضخمًا بمعايير بداية القرن العشرين.


الطب كمهنة سامية والطبيب كمعادٍ للسامية

يوريج,الملاريا,النمسا,شلن,
يوريج,الملاريا,النمسا,شلن,

على الرغم من صنعه لمثال يحتذى به في التأسيس للطب النفسي كما نعرفه الآن، من ناحية خلق حالة اهتمام بالبحث عن علاجات دوائية للأمراض النفسية؛ إلا أنه كانت لـ«فاجنر-يوريج»أيديولوجية شديدة التطرف راهنت على الجانب الخطأ، على عكس ما كان من رهانه في المرة الأولى وتحيزه ضد «فرويد».

كان «يوريج» شديد المعاداة السامية، ولم يحل بينه وبين انضمامه للحزب النازي سوى زواجه الأول من يهودية. كذلك كان «يوريج» من أهم المدافعين عن التطهير العرقي، وتنقية العرق الأبيض من أي شوائب قد تعلق به!، لذا فقد كان من أهم المناصرين للتعقيم القسري للأشخاص الذين لم ترهم الدولة كمصدر فخر للنوع البشري؛ مثل المرضى النفسيين، المدانين بجرائم، بل وأحيانًا المعارضين.

في عام 1927، منح «فاجنر-يوريج» جائزة نوبل لاستخدامه الملاريا كعلاج للزهري العصبي المسئول وحده عما يصل لـ 10% من كل المرضى النفسيين في المصحات. كان إنجازًا لا يمكن للجنة نوبل التغافل عنه رغم الانتقادات الواسعة، والشكوك المستمرة حيال مدى خطورة وأخلاقية التسبب في إمراض الآخرين.

في ذاك الوقت لم يكن هناك حل للمرضى المشلولين تمامًا، والمتساقطين تحت سطوة الذهان إلا أن يخوضوا معركة أخيرة ضد عدو مختلف يمكن التحكم فيه. كان «فاجنر-يوريج» أول طبيب نفسي يحصل على جائزة نوبل في الطب، وللمصادفة فسوف يتلوه في نيل هذا الشرف «إيجاس مونيز» مخترع أسلوب علاج الأمراض النفسية بجراحة في المخ، ونزع جزء من أحد «فصوصه – Lobotomy».

بالطبع لا يفوتنا أن نشير للاختلاف العميق بين أسلوب «يوريج» وطريقة العلاج باللقاح. فاللقاح لا يؤدي لإمراض الإنسان؛ بينما يوقعه العلاج بالحمى تحت سطوة أمراض مخيفة التبعات. من حسن الحظ أن البشرية كانت على أعتاب ثورة المضادات الحيوية، ولم يعد المرضى بحاجة لقضاء أوقاتهم معذبين في حمى ليتم شفاؤهم!