هدف العمل الفني ليس رواية وقائع وأحداث، وإنما تبليغ وتوصيل انفعالات
جيمس جويس في حواراته مع آرثر باور

في الفصل الرابع من الرواية الذي يشهد الظهور اﻷول لليوبولد بلوم بعد انفراد ستيفن ديدالوس -وهو نفس بطل رواية جويس السابقة (صورة الفنان في شبابه)- ببطولة الفصول الثلاثة اﻷولى، تنطلق سلاسل اﻷفكار من نقطة بسيطة، وهي تفكيره في تناول كلاوي مقلية كوجبة للإفطار، وهذه الفكرة البسيطة التي يبدأ بها الفصل تتشعب وتتفرع إلى عشرات اﻷفكار الأخرى إلى ما يبدو أنه لا نهاية، ونجد أن سلاسل اﻷفكار تلك تتغير بالطبع، إما مع تغير المؤثر الخارجي الذي يقوم باستثارتها، أو مع ترك المسار اﻷول للفكرة الحالية والسير وراء فكرة جديدة جادت بها سابقتها، وهكذا.

وفي الوقت ذاته، يحافظ جويس طيلة الوقت على البساطة الشديدة للأحداث التي تقع خارج السياقات الشخصية والعقلية للشخصيات، وعلى اعتيادية أفعالهم، إمعانًا في اﻹبقاء على حالتها الواقعية، فالحدث الخارجي في الرواية كما ذكرنا من قبل يأتي في مرتبة ثانوية لحساب الانفعالات واﻷفكار.

إن متابعة كل هذه الانفعالات واﻷفكار تتطلب باﻷساس تغييرا جذريا لكل الاستراتيجيات التقليدية والمعتادة في المتابعة والقراءة، وذلك بسبب عدم تقيدها بالقيود التي يتسم بها السرد التقليدي للحدث، فهى تنطلق كوحش رابض بدون ضابط أو رابط، قد تبدأ اﻷفكار انطلاقًا من أكثر الذكريات شخصية وحميمية إلى ما هو أكثر عمومية ووجودية، أو من اللحظة اﻵنية إلى التاريخ الغابر، أو ربما لمسارات معاكسة لكل ما سبق، أو مسارات مختلفة بالكلية، حتى يبدو اﻷمر وكأنه محاولة ملاحقة مستمرة لها في تنقلاتها وتقلباتها التي لا تنتهي، ففي الفصل الثالث الذي يعد من أصعب فصول الرواية على اﻹطلاق، ما أن يفكر ديدالوس في شيء ما حتى يقفز مباشرة إلى فكرة أخرى، ومع وصولنا لتلك الفكرة الأخرى حتى نصير أمام فكرة ثالثة، وهكذا تستمر الملاحقة كأننا نلاحق ضفدعًا في حديقة معشوشبة، وكل هذا في ظل حدث خارجي بسيط جدًا: مجرد تمشية على شاطئ البحر لا غير.

أي حدث نراه أمام أعيننا ما هو في النهاية إلا حاصل جمع لكل العمليات العقلية المتعددة التي سبق اﻹشارة إليها، بحيث يتجاوز اﻷمر مجرد مراقبة عينية مباشرة للحدث المباشر.

ومع وجود عشرات -بل قل مئات- العوامل التي تؤثر على الشكل الذي نرى عليه هذه الانفعالات واﻷفكار أمامنا، نشهد وجود عدد من الثغرات أو العيوب التي تنتاب اﻵليات أو العمليات التي يقوم بها العقل البشري، والتي يحاكيها جويس تمامًا ويتماشى معها حتى النهاية ضمن هذا النسيج المركب، كالنسيان أو تداخل الصور الذهنية أو اللجوء بشكل لا واعي إلى الذاكرة المشتهاة وليس الذاكرة الحقيقية والفعلية أو بتر اﻷفكار أو عدم اكتمال اﻷفكار، وطوال الرواية كثيرًا ما نجد بلوم ينسى أو يختلط عليه اﻷمر، أو حتى قد يبتر فكرة بشكل فجائي ليفكر في أمر آخر.

إذن، فأي حدث نراه أمام أعيننا ما هو في النهاية إلا حاصل جمع لكل العمليات العقلية المتعددة التي سبق اﻹشارة إليها، بحيث يتجاوز اﻷمر مجرد مراقبة عينية مباشرة للحدث المباشر لما يحدث إلى مراقبة متمهلة لكل مقدماته البطيئة، أو ربما كما شبهها المترجم العراقي صلاح نيازي الذي تصدى هو اﻵخر لترجمة (عوليس) إلى اللغة العربية بأنها «مثل مراقبة نمو نبتة»، خاصة مع اﻷخذ في الاعتبار صغر الوحدة الزمنية التي تجري فيها اﻷحداث ليكون كمثل عينة ممثلة ومنتقاة وموضوعة تحت المجهر من مجموع حياة كاملة إمعانًا في الحض على فعل المراقبة حتى أصغر جزئية.

وفي سياق مراقبة اﻷفكار هنا، وخاصة مع شخص لديه باع كبير في عدد هائل من المعارف الإنسانية والعلمية مثل بلوم، نصير أمام منظومة كاملة من اﻹحالات والمرجعيات واﻹشارات التي قد تستلزم الرجوع ﻷكثر من مصدر يساعد على اﻹحاطة بها أو بجزء كبير منها، ما أن يتغلغل القارئ في عالم الرواية حتى يجد نفسه أمام طوفان هادر من المعارف: تاريخ، جغرافيا، فلسفة، أديان وعقائد، أدب، فن، بيولوجيا… إلخ.

مما يحقق تجاوزًا كبيرًا للشكل الروائي الصارم كما نعرفه وحتى تجاوزًا لفكرة اﻷدب برمته ومحاولة تصنيفها، صابغًا عليه صبغة موسوعية تحاول اﻹحاطة بمجموع الناتج الفكري والعلمي للجنس البشري، وفي الوقت ذاته يحافظ على آنية الحدث الدرامي ومحلية الموقع الجغرافي الذي تجري فيه وقائع الرواية، وهذه الصبغة الموسوعية تتجلى بشكل بالغ الوضوح في الفصل السابع عشر أو الفصل قبل اﻷخير منها، وموسوعية هذه الرواية تتجاوز حتى ما قدمته رواية مثل (موبي ديك) للكاتب اﻷمريكي هرمان ملفيل التي اقتصرت في إحاطتها على موضوع واحد باﻷساس، وهو التحويت أو صيد الحيتان.

هذا التجاوز الذي يمارسه جويس يمتد أيضًا إلى الأسلوب الفني للرواية، ويواصل ما بدأه في (صورة الفنان في شبابه) من كسر لقاعدة وحدة اﻷسلوب داخل العمل الفني، ويقرر التوسع في ذلك هذه المرة ﻷقصى درجة ممكنة حتى تصل الرواية لمرحلة “اللا أسلوب”على حد قول طه محمود طه، كان ما ينشده جويس من جراء ذلك هو وضع هذا الوسيط اﻷدبي أمام اختبار قاسٍ يستهدف باﻷساس معرفة المدى الذي يمكن أن يبلغه هذا الوسيط، واختبار كم الإمكانيات التي يمكن له أن يقدمها للقارئ وعدم الركون للإمكانيات اﻷدبية المعروفة سلفًا قبل كتابة (عوليس)، صحيح أن تيار الوعي هو العمود الفقاري للسرد هنا، إلا أنه مع كل فصل جديد ستجده موضوعًا في قالب فني جديد ومختلف تمامًا عن الفصل الذي سبقه وما يليه على حد سواء.

من أجل الوصول لمرحلة «اللا أسلوب» تلك، لا يقتصر جويس في استفادته على ميراث فن اﻷدب فقط، بل تمتد هذه الاستفادة من سائر الفنون الأخرى.

ومن أجل الوصول لمرحلة «اللا أسلوب» تلك، لا يقتصر جويس في استفادته على ميراث فن اﻷدب فقط، بل تمتد هذه الاستفادة من سائر الفنون الأخرى، ويستغل الكثير من أدواتها وآلياتها الفنية لتعاونه على تقديم كل ما كان يتعذر تقديمه في الوسيط اﻷدبي من قبل ليصبه في هذا الخليط: استغلال آلية المونتاج المتوازي في السينما التي كانت فنًا وليدًا وقتئذ للتنقل بين أكثر من حدث في الوقت ذاته، توظيف فن الموسيقى لتنغيم اﻷحاديث واﻹيقاع كما رأينا في مقدمة الفصل الحادي عشر، التحول من القالب الروائي إلى قالب مسرحي صرف مثل المشهد الوجيز في الفصل التاسع أو المسرحية المكونة من مائة وخمسين صفحة فقط والمشكلة لقوام الفصل الخامس عشر -وهو أطول فصل في الرواية- الحكي عبر تنويعة هائلة ومتدرجة من اﻷساليب اﻷدبية التي تشكل رصدًا لتطورها من أكثرها كلاسيكية وحتى أكثرها معاصرة كالفصل الرابع عشر، السرد عن طريق توالي اﻷسئلة واﻷجوبة في الفصل السابع عشر، السرد المتتالي والمتداخل بدون اللجوء ﻷي علامات ترقيم في الفصل اﻷخير الذي يمثل وجهة نظر مولي بلوم التي يفرد لها جويس المساحة كاملة في هذا الفصل.

لا يتوقف تجريب جويس عند حدود اﻷسلوب اﻷدبي فقط، بل يمتد تجريبه وبجرأة لم يسبقه إليها أحد نحو اللغة نفسها، وهي أداة السرد الرئيسية كما هو معروف بالبديهة، فاللغة اﻹنجليزية بحالتها وقت كتابة الرواية لم تكن لتسعف جويس بالمرة حول ما يحاول التعبير عنه لغويًا ضمن هذه البنية المتشابكة من اﻷفكار واﻷساليب المستخدمة في الرواية.

مما جعل من الحتمي بالطبع وضع اللغة نفسها هي الأخرى موضع اختبار للوقوف على ما يمكنها أن تحتمل تقديمه، وإلى أي مدى ستصمد اللغة أمام ما يقوم به جويس، فنجده طوال الرواية يستخدم اﻷلعاب اللفظية على اختلاف أشكالها بدون حد، قد يستغل مثلًا تشابه لفظين في الصوت أو في المعنى، أو يقوم بصك كلمات جديدة بالكلية، أو مزاوجة عدد من الكلمات معًا ولا يشترط أن تكون من نفس اللغة، بل يمكن أن يزاوج كلمات من لغات مختلفة معتمدًا على إتقانه لعدة لغات وتعمقه الشخصي في مطالعة القواميس والمعاجم اللغوية، ناشدًا في ذلك كسر حدة الرصانة اللغوية لدرجة تفتيتها لعناصرها اﻷولية في سبيل الوصول إلى قالب لغوي جديد يواكب تركيب اﻷفكار التي تعتمل في رءوس أبطاله.

هناك سبب آخر يقف وراء هذا التجريب اللغوي المكثف، وهي الرغبة في تجاوز التراث اللغوي والثقافي البريطاني الذي لا يمكن إنكار طغيانه في هذا الوقت على ما عداه، مما استدعى تحقيق ضربة قوية مؤثرة لهذا التراث العريض، وبنفس السلاح كذلك، فباتت الرواية حاملة ﻹنجليزية جديدة تمامًا قد يقف أمامها الكثيرون لفك شفراتها، كما تأتي الضربة الثانية نحو واحد من أهم الرموز الثقافية في تاريخ بريطانيا كله إن لم يكن هو أهمها، وهو الشاعر المسرحي ويليام شكسبير الذي يقوم بتفنيد ومناقشة أعماله المسرحية بأكثر من طريقة وأكثر من وسيلة، وعلى رأس هذه اﻷعمال التي نالت نصيب اﻷسد من ضربات جويس المتتالية هى مسرحية (هاملت) مثلما يتجلى في سؤال استنكاري يستحق التوقف عنده حول أحداث هذه المسرحية، وهو: كيف عرف والد هاملت بهوية قاتله مع الوضع في العلم بأنه قد قُتل وهو نائم؟

لا يكسر جويس فقط الصورة المعتادة عن اللغة اﻹنجليزية في مرآتها، بل يزيل كل الحدود الفاصلة بين اﻹنجليزية وبين ما عداها من اللغات، أو لنقل بأنه يقوم بهدم برج بابل على الورق، كاسرًا احتكار اللغة اﻹنجليزية لصدارة المشهد ومفسحًا المجال للمزيد من اللغات التي تتواجد على ألسنة متحدثيها اﻷصليين ومن عداهم على حد سواء، جويس لا ينقل اﻷفكار الموجودة في لغات أخرى إلى لغته، بل ينقلها بنفس لغتها على مسامع متحدثي وقراء اﻹنجليزية حتى لا تفقد موسيقاها اللغوية المميزة والحفاظ على نفس الحالة التي كانت عليها مما يخلصها من أي هيمنة تفرضها اللغة اﻹنجليزية، سيلاحظ القارئ الوجود القوي للغات مثل اللاتينية (لكونها لغة مرتبطة بالثقافة الدينية في إيرلندا) والفرنسية (التي يجيد ديدالوس التحدث بها)، باﻹضافة إلى استخدامات للغات أخرى مثل اﻹيطالية واﻷلمانية واﻹسبانية وحتى اﻹسبرانتو.

يمنح جويس كذلك لمن لم يتسن له من قبل التعبير عن نفسه لغويًا كالجماد والحيوانات فرصة التعبير عن الذات هنا، ومن نفس منطلقه الصوتي، بمعنى أنه على مدى تاريخ اﻷدب كانت الحيوانات والجمادات تتحدث بنفس حديث البشر ونفس منطقها، بينما يقوم جويس بخلق لغاتها من نفس منظورها، ولا تتحدث بنفس حديث البشر إلا حينما تنسلخ عن طبيعتها اﻷصيلة مثلما نرى في الفصل الخامس عشر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام ما هو مختزن في اللاوعي.

كل شيء في الرواية له صوته الخاص، حيث يصيغ جويس بالحروف مما يتسق معها، ويصلح ﻷن يكون ترجمة لغوية لصوتها كما نسمعه نحن على الدوام، كمثل أصوات عجلات الترام، عصا الرجل اﻷعمى، مساقط اﻷنهار، صفير غلاية الشاي، الرعد، وحتى غازات البطن لا تسلم من بين يدي جويس هى الأخرى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.