أقرَّ زيدٌ إقرارًا أي: «أخْبرَ»- بسؤاله أو من دون سؤالِه- عن فعل فعله أو قولٍ قاله، أو رأي رآه. وأصلُ الإِقرار: «التقرير»، و«الاعترافُ»، وهذا أو ذاك هو: «تحصيلُ ما لم يصرِّح به القولُ»، كذا في الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري.

والقرارُ لغة: يأتي بمعنى الاختيار، وبمعنى الثبات والسكينة والطمأنينة، وبمعنى انشراح الصدر والهدوء الداخلي للنفس، وبمعنى الأمان الخارجي على سلامة البدن. ومن القرار بتلك المعاني: الاستقرارُ، (الألف والسين والتاء: للطلب) بمعنى طلب السكينة والطمأنينة والهدوء والراحة والأمن والأمان.

وبأيسر نظر، يتبينُ من ذلك أن الإقرار أو القرار لا يثمر شيئًا من تلك الثمرات المعنوية والمادية إلا إذا كان بملء إرادة المرء، وبوعي كامل بما يقر به، وفي حال حريته الكاملة؛ ومن دون إكراه مباشر أو غير مباشر، مادي أو معنوي، من أي جهة كانت. وعلى هذه الأرضية اللغوية ابتنى عظماء فقهائنا اجتهاداتهم في مختلف المذاهب بشأن مسألة «الإقرار» وربطوا فروعها بأصولها. وما كان هذا المدخل اللغوي إلا خادمًا لمصادرهم الأصولية الأخرى المعروفة.

والإقرارُ اصطلاحًا هو من وسائل «الإثبات» بعامة. وهو يختلفُ عند بعض الفقهاء عن «الشهادةِ»، وعن «الاعتراف»: فالاعترافُ إقرارٌ مصحوب بمعرفة المُقرِّ بما أقرَّ به، أما الإخبارُ بالإقرار فله أحوالٌ منها: إن كان عن حقٍ سابق على المخْبِرِ ويقتصر حكمه عليه فهو إقرار، وإن لم يقتصر: فإما ألَّا يكون للمخبِر فيه نفع، وإنما هو إخبارٌ عن حق لغيرِه على غيرِه فهو شهادةٌ، وإما أن يكون للمخبر نفعٌ فيه، وإخبار بحقٍ له، فهو الدعوى، كذا في الدر المختار وحاشية ابن عابدين، وفي تبيين الحقائق للزيلعي وفي غيرهما لدى غيرهما. والدعوى: قولٌ مقبول عند القاضي، يُقصد به طلبُ حقٍ عند الغيرِ، أو دفعُ الخصم عن حقِّ نفسه، وللقاضي القول الفصل في الدعوى، بعد أن يستعمل كل طرف حريته في إبداء دعواه أو دفاعه.

يظهرُ مما سبق أن الإقرار نوعٌ من أنواع «القولِ»؛ أو «النطق»، أو «التعبير»، وشرط صحته «الحرية»، فمن دونها لا يكون شرعيًا ولا مشروعًا عند مختلف فقهاء المذاهب الفقهية الإسلامية بلا استثناء، مثلما أن الحريةَ هي شرط كل فعلٍ أو قولٍ يصدر من المكلفين بالخطاب الشرعي، بل: مثلما أنَّ الحريةَ هي متطلبٌ مُسبق لتحمل التكاليف الشرعية بتمامها من حيث الأصل على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي حسب الأحوال

 وهنا نلفى الحريةَ مُتغلغلة في جنبات مسألة الإقرار بأصولها وفروعها وعلاقاتها وتداعياتها وآثارها بالنسبة للفرد الذي يقرُّ، وللغير المُقرِّ عليه أو له، ولجملة العلاقات التي قد تربطهما معًا، أو قد تصلهما بدوائرهما الاجتماعية الخاصة والعامة التي يعيشون فيها. وعليه فإن باب «الإقرار» في كتب مذاهب الفقه الإسلامي يندرج بكامله في تأصيل الحريات الفردية وتأصِيلِها في الممارسات العملية اليومية، وليس من الصوابِ قراءةُ اجتهادات الفقهاء في هذا الباب من زاويةٍ تشريعية أو «قانونية» ضيقة، غالبًا ما يؤدي ضيقها إلى الوقوف عند ظواهر تلك الاجتهادات ومعانيها القريبة، من دون الوصول إلى حقائقها ومقاصدها البعيدة.

لنْ أبرحَ هذه التقدمة التمهيدية اللغوية الدِّلالية، إلى باحات الاجتهادات الفقهية في صلة مسألة الإقرار بالحرية في أصل وجودها، وبالحريات الفردية في مناحي تطبيقاتها؛ إلا بعد إرسال النظر بعيدا خارج دائرة هذه الاجتهادات وخارج ما يرتبط بها من مطارحات قدمها أقطابها من كبار مجتهدي المذاهب ومقلديهم في هذا الموضوع؛ أقصدُ إرسال النظر إلى ساحة الحضارة الأوروبية الحديثة حيث عرفت الإكراه على «الإقرار» باعتباره تطبيقًا للقانون بغرض الإثبات أو بغرض المعاقبة أحيانًا، وذلك في قرنين اخترتهما على سبيل العينة الزمنية -لا أكثر- من تاريخ الحداثة الأوربية المعاصرة أقصد القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر للميلاد، طبقًا لعدد السنين والحساب في عمر تلك الحضارة «الحديثة»- وليس من قرونها الوسطى التي يصفونها بالمظلمة لما شهدته من أهوال يشيب لها الولدان- ويقابلهما القرنُ الثاني عشر والقرنُ الثالث عشر الهجريان؛ طبقًا لعدد السنين والحساب في عمر حضارة أمتنا الإسلامية.

تروي مصادرُهم أنه: في الثاني من مارس سنة 1757م حكمتْ محكمةُ باريس على شخصٍ اسمه «داميان» بأن «يدفعَ غرامة معنوية هي: الإقرارُ بجرمِه علنا أمام بابِ كنيسة باريس الرئيسي». وتضمنت حيثيات تطبيق هذا الحكم عدةَ إجراءات قانونية تمامًا، كان القصد منها تهيئة «داميان» للإقرار، منها أن: يُسحَبَ ويقادَ في عربة عاريًا إلا من قميصٍ يسترُ سوأته، حاملًا مشعلًا من الشمع الملتهب وزنه قرابة كيلو جرام، وبعد أن يصل إلى ساحة جريف، تكتب بالفرنسية هكذا: (Greve) [لمن يتمالحون بالأحرف اللاتينية]، يقوم المنفذون بوضعه فوق منصة الإعدام المنصوبة هناك، ويَجري قرصُه بآلة حديدية تشبه الكماشة في حلمتيه وذراعيه وركبيته وشحمات فخذيه، وفي تلك الأثناء يَحملُ «داميان» في يده السكينَ التي ارتكب بها جريمة قتل أبيه، ثم تُحرق يدُه بنار الكبريت، وفوق المواضع التي قُرصَ فيها يَصبُّ أحد المكلفين بتنفيذ الحكم رصاصًا منصهرًا، وزيتًا مغليًا، وقارًا (زفت مغلي) صمغيًا حارقًا، ويضع عليه شمعًا وكبريتًا ممزوجين معًا، وبعد أن يتم انتزاع اعترافَه يمزَّق جسدُه ويقطع بواسطة أربعة أحصنة (زادت إلى ستة عند التنفيذ لعجز الأحصنة الأربعة عن أداء مهمتها حسب رواية ميشيل فوكو في كتابه: المراقبة والمعاقبة) ثم تحرقُ أوصالُه بالنار حتى تتحول إلى رماد.

وقد جرت مراسمُ الحصول على الإقرار من «داميان» في الميدان العام أمام كنيسة باريس في السنة المذكورة، وكان لوبرتون- كاتب المحكمة التي أصدرت الحكم- كلما اقترب من «داميان» وهو يصرخ صراخًا رهيبًا من هول التعذيب ليسأله إن كان لديه ما يقرُّ به، كان جوابه دائمًا «النفي»، واكتفى عند كل هجمةِ تعذيبٍ عليه بأن يردد: «عفوك يا إلهي، عفوك يا رب».

وتكررت محاولات استنطاق «داميان» لِيقرَّ دون جدوى، فصدر الأمرُ القضائي بتنفيذ الحكم بشد وثاق كل طرف من أطرافِه (يديه ورجليه) بحبلٍ مربوط في حصان من جهة وفي أحد أطرافه من جهة أخرى، على أن يندفع الحصانان في السير جهة اليمين بشدِّ يده اليمنى ورجله اليمنى، ويندفع الحصانان الآخران إلى جهة اليسار لتتمزق أوصالُه أولًا وهو حي، ثم يتم حرقها. وقد عجزتْ الأحصنة الأربعة- لما تحركت بأقصى قوتها- عن فصل أوصاله، فجاءوا بحصانين إضافيين لإنجاز المهمة، واقترب المنفذون ومعهم رجال الكهنوت، فرجاهم داميان فقط ألا يشتموه، وأن يقوموا بمهمتهم لا غير، وأخبرهم أنه غير ناقمٍ عليهم، وطلبَ منهم أن يصلُّوا من أجلِه، وبعد أن تمزقت أوصاله رموها في المحرقة الرهيبة التي أوقدوها له، وكان «داميان» لا يزال يتحشرجُ في أنفاسه الأخيرة ساعة ألقوه فيها، وتم تنفيذ الحكم وتحول المسكين إلى رماد بعد ساعات طوالٍ، ومن شدة النيران ظلت أرض المحرقة وما حولها دافئة حتى الصباح، وكان دفؤها سرَّ لجوء كلبٍ للنومِ على أرضيتها، أو بالقرب منها طوال الليل، رغم طرده بعيدًا عدة مرات؛ لأنه لم يجد في تلك الليلة قارسة البرودة أدفأ منها.

هذه ليست قصة خيالية، ولا هي حكاية من دهاليز العصور الوسطى (القرن السادس عشر الميلادي وما قبله في أوروبا)، بل إن وقائعها مسجلة في سجلات «العدالة» الأوروبية خلال القرن الثامن عشر. وهي أيضًا ليست خاصة بفرنسا وحدها في ذلك الزمن، بل كانت شائعة في أغلب البلدان الأوربية مع اختلاف تفاصيلها وأحداثها وشخوصها. ولم تنقشع ظلمات الإكراه على هذا النحو الذي قاساه «داميان» من أجل انتزاع الإقرار والاعتراف من محاكم أوروبا إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؛ عندما ألغت فرنسا عمود الاعتراف وعروض التشهير والتعذيب العلني للمتهمين أو للمحكومين للحصول على إقرارات منهم بارتكاب الجرائم، أو لتنفيذ جزء من العقوبات التي كانت تنالهم، وتبعت بقيةُ بلدان أوربا فرنسا في ذلك في مراحل مختلفة.

وحتى سنة 1787م، عشية الثورة الفرنسية، تقول المصادر التاريخية الأوروبية: إنَّ «روش غلبرت دو ميتير»-وهو من كبار قادة تلك الثورة فيما بعد- كان يسرد أدوات إهانة الإنسان وتعذيبه في بلاده فرنسا، مثل: عمود التشهير، ومقارض اللحم، والرصاص المذاب، والسوط، والدولاب، وغيرها، وكان يتمنى أن تصبحَ هذه الفظائع معدودة لا من «إجراءات قانونية» وإنما من علامات التوحش ودلائل ضعف تأثير العقل والدين(عندهم) على النَّفس البشرية.

تلك أمثلةٌ محدودة العدد، واسعةُ الدلالة بشأن الوقائع التي كانت تقع يوميًا في أنحاء مختلفة من أوروبا في القرن الثامن عشر الذي يوصف في تاريخ الحداثة الأوروبية بأنه «قرن انتصار العقل في العلوم والابتكارات»، وفي طرائق التفكير والتدبير بعامة بحسب ما قال بول هازار في كتابه «أزمة الضمير الأوروبي» أو بالفرنسية [لمن يحبون التمالح بأسماء الكتب الأجنبية: La Crise De La Conscience Europeenne 1860-1715]. أمّا على المستوى الإنساني فقد ظلّت أحوال العدالة والحريات هناك مزرية إلى منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، ووصف ميشيل فوكو (لمن يتمالحون بأسماء الأساتذة الأجانب) تلك الحقبة فقال، إنها «حقبة الفضائح الكبرى بالنسبة إلى العدالة التقليدية»، عندهم طبعًا.

من جهتنا، وبعدَ تلك الشذرة التي أوردناها عن تقاليد أوروبا في القرون الأولى لنهضتها الحديثة (وليس في عصورها الوسطى المظلمة)، يحقُّ لسائلٍ أن يسألَ: ألم يكن في حضارة الإسلام تعذيبٌ وإرغام للمتهمين وإهدار لحرياتهم وإكراهٌ لهم على الإقرار بما لم يقترفوه، أو الاعتراف بما لم يعتقدوه؟ وللإجابة بكلام واضح لا غموض فيه، وبإقرار جازم لا تردد معه أقول: بلى، ولكن.

أقول: بلى؛ لأن المصادر التاريخية تخبرنا مرات عدةٍ عن أن بعض الأمراء أمر بتعذيب زيد من الناس لينتزع منه قولًا، ومرات أخرى أخبرتنا أن سلطانًا من السلاطين أو خليفة من الخلفاء قد أكره عالمًا من العلماء وضربه ليقر أو ليعترف بما لم يفعل، أو بما لا يؤمن به. والأمثلة الأشهر هي التي ترد بشأنِ ما تعرَّض له: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، وهم من أئمة المذاهب، وهم من هم في علوِّ المنزلةٍ وسمو المكانة ورفعة المقام، ولا بد أن كثيرين ممّن هم أقل منهم قد نالهم شيء من ذلك.

وأقول: ولكن؛ لأنَّ ما سجلته كتبُ التاريخ وحولياتها، والتراجم وسردياتها، والسِّيَرِ ووقائعُها، والأوامر والمراسيم الملوكية أو السلطانية ومطلوباتها؛ كلها تؤكد أن ما جرى في تلك الحالات جاء من قبيل «انحراف السلطة»، أو «إساءة استخدامها»، وأن تلك الأوامر السلطوية، وليست القضائية، كلها وفي جميع الحالات صدرت عارية عن الشرعية، ولم يجرؤ ابنُ ليلتِه، ولا من هو أكبر منه، في يومٍ من تلك الأيام ولا في ساعةٍ من نهار، على أن ينسبَ تلك الانحرافات أو الإساءات إلى الشريعة، أو حتى إلى اجتهادات فقهية معتبرة فيها أو بشأنها.

وظلت تلك الانحرافاتُ «انحرافاتٍ» ولم تتحول لقوانين واجبة التنفيذ، وقد راح أصحابُها وقُبروا، وبقي ذكرهم السيئ يتردد في أسماع الزمان: أن أولئك قد ارتكبوا تلك الشنائع، بينما عاشت أسماءُ ضحاياهم- الأئمة المشار إليهم- وتخلَّدَ علمهم وذكرهم في وعي الأمة؛ لأنهم ثبتوا على رأْيهم، ولم يقبلوا التفريطَ في حريتهم وما يعتقدون صبرًا واحتسابًا.

قرأتُ كتاب «موسوعة العذاب» في سبعة أجزاء لعبود الشالجي، ووجدتُ في هذه الموسوعة ما يندى له الجبين من صنوف العذاب والإهانة والإجراءات الحاطة بالكرامة الإنسانية التي مارستها السلطات الحاكمة في خلال أحقاب مختلفة من تاريخ الحضارة الإسلامية وحكوماتها؛ ولكن لم ترد كلمةٌ واحدة تثبتُ أن ما حدث أخذ صبغة تشريعية، أو «قانونية»، أو أن أيًا من صنوف التعذيب بالغًا ما بلغ من الفظاظة قد اقتربَ من شيء مما تعرض له «داميان» بموجب حكم قضائي رسمي في ساحة الإقرار أمام باب كنيسة باريس في عصر النهضة الأوروبية وتحديدًا في سنة 1757م؛ على ما سجلته كتب تاريخ أوروبا.

وأنت- أيها القارئ الكريم- تستطيع أن تعودَ مثلًا إلى وقائع «محنة» الإمام أحمد ابن حنبل، سواء في ما كتبه علماؤنا عنها مثل: أبو علي حنبل بن إسحق بن حنبل، في كتابه «المحنة» (طبعة محققة ومنشورة سنة 1440هـ/2019م)، وعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي في كتابه «محنة الإمام ابن حنبل» (طبعة محققة ومنشورة 1432هـ/2011م)، أو فيما كتبه المستشرقون أو ما كتبه وكلاؤهم في بلادنا بدءًا من المستشرق «باتون»، مرورًا بـ«جوزيف فان إس»، وجولد تسيهر، وليس انتهاءً بفهمي جدعان ومحمد عابد الجابري.

وستخرجُ بنتيجةٍ واحدة واضحة لا ترى فيها عوجًا ولا أَمتًا بشأن مسألتنا الخاصة بأساليب الإثبات بالإقرار، أو المعاقبة بالاعتراف والتشهير، وهي: أن تعذيب الإمام أحمد تم خلسة في غياهب الحبس، وأن أحدًا من العلماءِ في عصره، أو من بعده إلى اليوم، لم يجرؤ على شرعنةِ ما تعرَّض له لينتزع منه المعتصم أو غيره من خلفاء بني العباس إقرارًا برأي لم يره ولم يعتقده، وأن ما جرى معه من تعذيب وضغطٍ كان يتم تحت جنح الظلام، وأن الذين ارتكبوا تلك الانحرافات كانوا كسرَّاق الليل لا يقرُّ لهم جفنٌ ولا يهْنأ لهم بال خشية افتضاح أمرهم، وأن أولئكَ الذين قاموا بالتعذيب زالوا وزالت الحكومات التي احتموا بها، وأن ابن حنبل الذي عانى ما عاناه، قد عاش فقهه في ضمير الأمة إلى اليوم، وسيظل إلى أن يشاء الله، وأن أقصى من تحدثت عنه تلك المصادر بشأن وسائل التعذيب التي نالت منه في محنته هو: ضربه بـ«السوط» ثلاثين مرة، أو ثلاثمائة أو أكثر أو أقل، وإبقاؤه في «الحبس» مدة عامين، أو أقل أو أكثر، ثم تغريبه، وهي شنائع طبعًا، ولكنها تتضاءلُ وتتصاغرُ من فرط تواضعها لو قيست بما سردَه «فوكو» في كتابه «المراقبة والمعاقبة» بشأن محاولات إرغام داميان في ساحة باريس على الإقرار بما أرادوه منه، ومتى؟ هل في غياهب العصور الوسطى؟ لا، بل بعد أن انتصف القرن الثامن عشر، الموصوف في تاريخهم بأنه «قرن انتصار العقل» على حد قول بول هازار.

إذا أجرينا المقارنة بين «محنة ابن حنبل» وفشل خصومه في إهدار حريته، وإخفاقهم في إكراهه على الإقرار بما يريدون، وبين «محنة جاليليو»، ومحاولة السلطات إثنائه عن آرائه في نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، لما اختلفت النتيجة السابق ذكرها سوى في أن جاليليو خضع لمحكمة تفتيش رسمية حكمت عليه بالهرطقة وأعدمته في سنة 1633م (أول قرون نهضة أوروبا الحديثة على أرجح الأقوال)، مثلما أُعدم كثيرون غيره أراد خصومهم انتزاع إقرارات منهم، أو الحصول على اعترافات بأمور لا يؤمنون بها، ولكن تضحية أولئك العلماء بحياتهم هي التي جعلت أفكارهم تعيش قرونًا بعدهم.

ويبقى أن أي مقارنة في هذا الموضوع ستؤكد بالضرورة على أوجه للشبه وأخرى للاختلاف بين حرية «الإقرار»، أو «الاعتراف» وكيف حصّنتها الاجتهادات الفقهية للعامة وللخاصة فنزعت عنها صفة «الشرعية» وصفة المشروعية، وجعلتها عملًا «غير مشروع» من جهة، وبين استخدام أفظع وسائل التعذيب والإكراه؛ كانت هي عين تطبيق القانون السائد للحصول على إقرار أو اعتراف ليكون دليلًا من أدلة الإثبات، أو جزءًا من حزمة عقوبات كانت تحكم بها المحاكم في أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي/ منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريبًا. والفرق بين الحالين يكفي تصوره لإدراك آثاره على الجانبين.

أخذنا هذا «النَّفَسَ»- الذي لم يكنْ عميقًا بما فيه الكفاية خشيةَ الابتعاد كثيرًا عن منهجنا في كتابةِ هذه المقالات عن الحرية في مصادرنا من دون سواها من المصادر- وعقدنا تلك المقارنات السريعة؛ لنوضحَ أنه في الوقت الذي ظلت فيه تشريعات أوروبا ومحاكمها على هذا النحو الذي وصفنا جانبًا منه حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت شريعة الإسلام قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة قد حظرتْ مجرد الإكراه- معنويًا أو جسديًا- من أجل انتزاع «الإقرار»، وأبطلتْ ما يصدر من إقرارات تحت الإكراه، وكان كبارُ فقهاء المذاهب قد توسعوا حتى استوعبوا أمهات مسائل الحريات الفردية والجماعية وفروعها في ثنايا مدوناتهم المذهبية، وأرسوا بتلك الاجتهادات- التي نقدم بعض جوانبها- أصول البناء المعنوي الداخلي، وأركان التكوين المادي الظاهري للحرية الإنسانية، وأوضحوا وجوه اتصالها بممارسة الحريات الفردية والجماعية بالأمثلة الشارحة وبالمسائل الجزئية والنوازل المتتالية. وحديثُنا مستطرد- إن شاء الله- عن الحرية في تلك الاجتهادات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.