تفترض نظريات العدالة المعاصرة في كثير من الأحيان أن الدولة الشرعية هي الدولة التي لا تُكرِه الناس على الامتثال للقيم أو المبادئ، وأنه على الدولة أن تكون محايدة تجاه تصورات الخير المختلفة، وألّا ُتكرِه الناس على الامتثال للمفاهيم المثيرة للجدل المتعلقة بالخير، كما أكد الفيلسوف الأمريكي «رونالد دوركين» على وجوب حيادية السياسات الحكومية فيما يتعلق بالسؤال حول الحياة الصالحة أو ما الذي يعطي قيمة للحياة.

وفى المقابل فقد جادل عدد من الكُتَّاب المعاصرين بأن المعايير التي يقيس بها الليبراليون المعايير الاجتماعية تضع الكثير من التشديد على الحقوق الفردية والاحترام الفردي، وتعطي قليلاً من الانتباه للظروف الاجتماعية التي تجعل الفردية مُمكنة، فـ «بعض الجماعانين يرون أن لا جماعة حقيقية بحاجة إلى مبادئ عدالة، ويقترن هذا الرأي بالرأي الماركسي الذي يرى أن العدالة فضيلة علاجية تعمل على تصحيح -ما يعتبره الماركسيون- وضعًا يتسم بُشح الموارد المادية، في حين يرى الجماعانين أن ما يستدعي وجود هذه الفضيلة هو الافتقار إلى فضائل أكثر نبلاً، ويعنون بذلك فضيلتي العناية والتضامن».[1]

كذلك يشير الفيلسوف «مايكل ساندل» المنتمي إلى الفكر الجماعاني، إلى أنه عندما يُبدي الناس على نحو عفوي استجابة لحاجات الآخرين، بدافع المودة، فلن يشعر الشخص عندها بالحاجة إلى المُطالبة بحقوقه، فالمفكرون الجماعانين يرون ضرورة وجود حدود للعدالة، وهذه الحدود توجد عند الجماعة والعلاقات والأواصر الوجدانية، حيث إنه عندئذ لا يجوز أن نتطرق إلى مبادئ العدالة لتحكم تصرفاتنا، بل ينبغي الاحتكام إلى علاقتنا وأواصرنا المشتركة التي تتفوق بكثير على هذه المبادئ، فالجماعانية لا تريدنا أن نعيش في مجتمع محكوم بمبادئ إجرائية، حيث يكون أهم شيء عدالة الإجراءات، بغض النظر عن الروابط التي تجمعنا.

وبالتالي، ولأجل تحقق ذلك، فإن الجماعانين ينتقدون الرؤية الكونية Universalism للعدالة، فيرى «مايكل والزر» أنه لا وجود لوجهة خارجية عن الجماعة ولا لموقع خارج التاريخ والثقافة، وأنه لأجل استنباط مبادئ العدالة علينا النظر في قيم ومعتقدات الجماعة التي ننتمي إليها.

وعلى عكس ذلك نرى «رونالد دوركين» يؤكد على أن العدالة لا يجب أن تعكس المُعتقدات والقيم الموجودة في المجتمع، وإنما يجب أن تعد اختبارًا لقناعتنا وقيمنا، ومع ذلك لا يكمن المُشكل مع الليبرالية بالنسبة للعديد من الجماعانين في تشديدها على العدالة، ولا في نزعتها الكونية، وإنما في نزعتها الفردانية، ويرى هذا النقد أن الليبراليين يُقيمون نظرياتهم على مفاهيم الحقوق الفردية والحرية الشخصية، ولكنهم لا يُعيرون اهتمامًا لحرية الأفراد ورفاههم داخل الجماعة، ومتى اعترفنا بارتباط الكائنات البشرية في وجودها بالمجتمع، كان واجبنا في العمل من أجل الخير المشترك للمجتمع موازنًا لحقوقنا الفردية في الحرية، لذلك يُحاجِج الجماعانين أنه من الضروري لنا التخلي عن سياسة الحقوق الليبرالية، أو على الأقل رفدها بسياسة في الخير المُشترك. [2]

المعنى الاجتماعي للخير

على الجانب الآخر يؤكد الليبراليون على ضرورة أن تُوفر الدولة إطارًا مُحايدًا Neutral للأفراد، لكي يتمكنوا من تحقيق أهدافهم ورغباتهم، فترى أن الذى يجعل المجتمع عادلًا ليس الغاية أو الغرض الذي يهدف إليه، ولكن رفضه الاختيار بين غايات وأغراض مُتنافسة مُقدمًا، ففي دستور الليبرالية وقوانينها يسعى المجتمع العادل أن يحقق مواطنيه غاياتهم وقيمهم الخاصة بالتوافق مع حريات مُشابهة للآخرين، فنحن أحرار في إنشاء مبادئ للعدالة غير مُقيدة بأي قيمة مُعطاة سابقًا، وأحرار أيضًا في اختيار غايتنا وأهدافنا، غير مرتبطين بأي حالة أو تقليد أو عادة. [3]

وفي حين يعتبر العديد من الليبراليين أن قيمة التحديد الذاتي هي من البداهة إلى حد يجعلها في غنى عن كل دفاع، وأن أقصى درجات الاحترام للشخص هو أن ندعه يختار قيمه كما يرجو وأن نمتنع عن معاملتهم كأطفال أو حيوانات، فإن الفكرة الجوهرية في الأخلاق الجماعانية ليست فلسفة تحررية، حيث إن القيمة المركزية ليست الحرية أو الاستقلال الذاتي وإنما الانتماء. وفي الوقت ذاته يجب أن يشمل معنى الانتماء احترام سلامة الشخص. [4]

وفي هذا السياق يؤكد «والزر» أن الإجراءات تختلف من مجتمع إلى آخر، وحتى داخل نفس المجتمع من فترة تاريخية إلى أخرى، وبالتالي فإن التوزيع يكون عادلاً فقط عندما يتم طبقًا للمعايير الناتجة عن المعنى الاجتماعي للخير والذي يتقاسمه أعضاء ذلك المجتمع. كذلك فإنه لا يمكن قياس العدالة الاجتماعية التوزيعية إلا بالرجوع إلى مجتمع معين وإلى أعضائه والمعاني التي يُعزونها إلى الخيرات الاجتماعية، وإجراءات التوزيع المُستخدمة وراء هذا الإطار، ولا يمكن أن يكون هناك أحكام صالحة عمومًا في أي مجتمع وفي أي وقت في التاريخ. [5]

يربط «والزر» فكرة العدالة بالانتماء، فأنا على سبيل المثال لي الحق في المشاركة في عملية توزيع الثروات إذا كنت أنتمي أولاً إلى هذا المجتمع المعنى بذلك، ويمكن أن يُعارَض هذا التصور بحجة أن تحديد معيار العدالة الاجتماعية في القيم المشتركة في مجتمع أخلاقي يُشكل أيضًا مشكلة كبيرة فيما يتعلق بالعلاقات بين الطوائف المختلفة أو بين اللحظات المختلفة في التطور التاريخي لهذا المجتمع.

ما بين العدالة الاجتماعية والظلم

إذن إلى أي مدى يستطيع المرء تقييم هذه العلاقات من حيث العدالة الاجتماعية أو الظلم؟

يتبنى «والزر» -صراحةً- وجهة النظر النسبية بأن الأحكام التي يتم اتخاذها داخل المجتمع تختلف عن الأحكام الصادرة داخل مجتمع آخر، وجميعها شرعية. ففي نظره ليس لدينا أي سبب لدعم التفوق الأخلاقي لمجموعة من القيم أو بعض الترتيبات المؤسسية على الآخرين طالما أن هناك استقلالية لمجالات العدالة، وأن توزيع الخيرات يتم وفقًا لتقاسم التفاهمات داخل هذا المجتمع. [6]

وعلى ذلك، يرد «دوركين» بأننا لا نتشارك المعاني الاجتماعية في الواقع، ولكنها قيم مُتنازع عليها دائمًا، ويرى أنه لأجل تجاوز هذه الخلافات فعلينا تجاوز تقاليدنا وفهمنا ونلجأ إلى مبادئ عامة. ويرد «والزر» على ذلك -وهو هنا يتماشى مع الجماعانية- بأنه لا يمكن حل الخلافات إلا على أساس المعاني المشتركة للخير الاجتماعي، ويقول في ذلك: إنه على الرغم من أن هناك بالطبع خلافات ونزاعات مُتكررة، فإنها لا تتحدى الإطار المُؤسس القائم إلا خلال الفترات الثورية، وإنه من خلال الامتثال للمعايير الاجتماعية، فيمكن القول إن الأعضاء يتقاسمون القيم المُتجسدة في ذلك الإطار. [7] فيرى «والزر» أن البرامج التي تنطوي على إعادة توزيع كبير للثروة والموارد ستتماشى مع الفهم الاجتماعي الذي يُشكل دولة الرفاه.

ويستمر الشد والجذب بين والزر ودوركين، حيث يرد دوركين على والزر بأنه إذا كانت العدالة مجرد مسألة تتبع التفاهم المشترك، فكيف يمكن للأطراف أن تتناقش حول العدالة عندما لا يكون هناك فهم مشترك؟

فيقول دوركين إن «حقيقة الاختلاف توضح أنه ليس هناك معانٍ اجتماعية مُشتركة لأجل أن نختلف حولها». ويبدو أن والزر لم يفكر ببساطة في عواقب نسبيته لمجتمع مثل مجتمعنا، حيث إن التساؤل والنقاش حول العدالة لا نهاية له. [8]

أما ساندل فقد رأى أن والزر قد رفض مناشدة الحقوق وتبنى بدلاً منها تصورًا للانتماء للمجتمع المحلي، وهو تصور يفرض تحديًا قويًا للنظريات السياسية التي تضع الحقوق أولاً، ويقول ساندل إن المساواة في تصور والزر مُرتبطة بالانتماء، وإن المجتمعات المختلفة تقترح خيرات مختلفة مع قيم ومعاني مختلفة، والتي تؤدي بالتالي إلى فهم مُختلف للانتماء أو العضوية.

المذهب الجمهوري المدني

وقد لفتت بعض كتابات الجماعانين الانتباه كثيرًا إلى «المذهب الجمهوري المدني» Civic Republicanism، فالأخلاق الجمهورية كما قال ساندل تسعى لغرس الفضائل المدنية وتوجيه المواطنين نحو الصالح العام وتجاوز الحقوق الفردية، فالمذهب الجمهوري يؤكد على أولوية الواجب على الرغبة، فيرى هذا المذهب أننا عندما نقبل الانتماء إلى مجتمع فإنه يجب أن تكون في مُقدمة أولوياتنا مسئولياتنا وليس حقوقنا.

وإذا لم تتدخل الدولة لفرض رؤية معينة للحياة الخيّرة وتوجيه المواطنين لما فيه صالحهم كما يرغب الليبراليون، فكيف يكون موقفهم حيال من تعوزه القدرة على مجابهة القرارات التي تفرض عليه الحياة اتخاذها، حيث يمكن أن ينتج عن قراراته -غير المُدركة للواقع المحيط به- أفعال مُزلة ومُهينة لكرامته؟!

ألا يجب على الدولة أن تتدخل لتحمى هؤلاء من أنفسهم؟ حيث إنهم ليسوا في وضع يسمح لهم بممارسة كامل حريتهم في اختيار نوع الحياة اللائق بهم، فهم غير متساوين بغيرهم. وإذا كان الليبرالي الراشد البالغ يُطالب بحزمة حقوق ويرفض أي تدخل من الدولة، فيجب أيضًا أن يضع في اعتباره أولئك الأقل منه إدراكًا ووعيًا، حيث لا يجب أن نكون أنانيين أيضًا ونغُض الطرف عن غيرنا، حيث إن الاحترام والكرامة الذي يؤكد عليهما الليبرالي لابد أن يشملا الجميع وليس هو فقط.

وبالنسبة للفيلسوف الأمريكي «روبرت نوزيك»، فإن الحرية هي كل شيء والمساواة هي لا شيء. أما دوركين فهو لا يتفق مع تصور دولة الحد الأدنى عند نوزيك، وقد انتقد فهمه لوظيفة الدولة والتي ينبغي أن تضمن فقط حق الملكية وتهتم بأمن مواطنيها. [9] فيُنكر دوركين أن الدفاع عن الحقوق يعني التخلي عن المفهوم الكلاسيكي للصالح العام، الذي يبدو أنه الغاية النهائية للسياسة، ويرى أن الرفاه الاجتماعي ليس في حاجة لأن يتعارض مع الحقوق الفردية، ويعتقد أن المساواة هي أساس مفهوم الحقوق الفردية.

ويؤكد ساندل أنه إذا أمكن الزيادة في الإيثار ومشاعر الحنان المُتبادلة على نطاق أوسع، لقلَّت الحاجة إلى العدالة، ويرى -تبعًا لذلك- أن حال البشر سيكون أفضل، فيقول: ما دامت العدالة تعتمد في سيادتها على حدود الأشخاص وانفصال بعضهم عن بعض بالمعنى المعرفي، فإن أولويتها قد تقل كلما تلاشى الغموض واشتدت وشائج هذه الجماعة. [10]

وبالتالي يخاطب ساندل الجانب الوجداني للبشر، حيث إنه يرى أن هناك معنى مفقود في حياتنا بسبب تشديدنا المبالغ فيه على أولوية حقوقنا وعلى عدالة الإجراءات، بغض النظر عن النتيجة وبغض النظر عن علاقتنا ببعضنا بعضًا. فهو يتصور أنه علينا في بعض الأحيان التخلي عن مبادئ العدالة من أجل خير أكبر، يتمثل في علاقتنا الوجدانية؛ سواء في العائلة أو علاقة المواطنين ببعض في المجتمع الواحد، والتي لا يمكن أن يُعوِّضها أي إجراء عادل.

المراجع
  1. ويل كيملكا، «مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة»، ترجمة: منير الكشو، مراجعة صالح مصباح، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، تونس، 2010، ص 269-272.
  2. نفس المرجع، ص 269-272.
  3. Michael Ssandel, The procedural republic and the unencumbered self, source: Political Theory, Feb: 1984, published by: Sage Publication.
  4. Philip Selznick, The idea of communitarian morality, Calfornia Law Review, Volume 75, Issue 1, January 1987.
  5. Viorel Ttutui, Between the sphere of justice and the right to citizenship: the limits of the communitarian theory of Michael walzer, “Alexandru Ioan Cuza” University of Iași, June 2011, p130-135.
  6. Ibid.
  7. Michael Walzer & Joshua Cohen, Review of spheres of Justice: A defense of pluralism and equality, Standford University, Research Gate, The Journal of Philosophy, 2016.
  8. Ronald Dowrkin, To each his own, Spheres of Justice, A defense of pluralism and equality by walzer, 14 April, 1983.
  9. Darlei Dall’ Agnol, Dworkin’s liberal egalitarianism, Translated by: Milene Consense Tonetto, Criterion Vol. 2, Belo, Horizonte, 2006.
  10. مايكل ساندل، «الليبرالية وحدود العدالة»، ترجمة: محمد هناد، مراجعة: الزبير عروس، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2009، ص 282.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.