في الفيلم الكوميدي «جاءنا البيان التالي»، الصادر عام 2001، يقف البطل في وسط منطقة حربية مشتعلة متسائلًا عن جدوى الصمت والدب الروسي يسحق اخوتنا من أهل الشيشان العُزل. صدر الفيلم في مرحلة زمنية كانت منابر المسجد في العديد من القرى والمدن تنتهي خطبتها بدعاء شبه محفوظ يتضرع فيه الإمام إلى الله لنصرة المجاهدين في الشيشان على أعدائهم من الروس.

فهي جمهورية تقع في جنوب غربي روسيا، اعتنق أهلها الإسلام لحظة وصوله إليهم منذ قرون. ومنذ تلك اللحظة ظل تاريخ الشيشان يُكتب عبر الحديث عن الصراع مع روسيا، فالماضي صراع مع روسيا، والحاضر ولاء لروسيا، فكأنما الشيشان هي رد فعل لروسيا. وفي العقل الجمعي ظل الأمر مرتبطًا بحرب على المجاهدين والإسلام، سواء حين كانت الشيشان تعادي روسيا، أو حين صارت حليفةً لها.

لكن بعد 21 عامًا من صدور الفيلم ودعوات المنابر جاءنا البيان التالي أن رمضان قديروف زعيم الشيشان قد نشر قوات بلاده على الأراضي الأوكرانية للجهاد، على حد وصفه، مع الجنود الروس. قديروف دعا الأوكرانيين إلى المسارعة في الإطاحة بحكومتهم، والاستسلام للقوات الروسية. وتفاخر الرجل بأن قواته لم تتكبد أي خسائر حتى اللحظة، ثم لمح إلى إمكانية قيام القوات الروسية على السيطرة بسهولة على المدن الأوكرانية، بما في ذلك العاصمة كييف، لكنها تسعى لتجنب وقوع خسائر قدر الإمكان.

قديروف لا يتردد عن الإشادة ببوتين في كل وقت ممكن، وفي سياق الحرب الأوكرانية أوضح أن بوتين قد اتخذ القرار الصحيح، وأنه وشعبه سينفذون أوامره تحت أي ظرف. رمضان في ذلك لا ينقلب على الإرث الشعبي من معاداة الشيشان للروس فحسب، بل ينقلب على إرث والده، وعلى إرثه الشخصي من قتال الروس.

من الصراع للولاء

بعد قيام الثورة البلشفية أنشأ الروس إقليم الشيشان، الذي يضم الشيشان والأنجوش، ليكون ذا حكم ذاتي. لكن أثناء الحرب العالمية الثانية اتهم ستالين الشيشان بالتعاون مع النازية، ورحلّهم جميعًا إلى آسيا الوسطى. ثم بعد عدة سنوات سمح لهم بالعودة إلى وطنهم. عام 1990 حين انهار الاتحاد السوفيتي، حاولت الشيشان الاستقلال، ونفذ جوهر دودايف انقلابًا ضد الحكومة المحلية السوفيتية. فتوجه إليها الروس فيما عُرف بحرب الشيشان الأولى.

 في تلك الحرب كان رمضان يقاتل الروس إلى جانب والده أحمد قديروف، الذي أعلن الجهاد العام ضد الروس. خاض أحمد الحرب مدعومًا بمقاومة شعبية باسلة ودعم هائل من المجاهدين العرب القادمين من أفغانستان. بعد ثلاث سنوات عُين أحمد قديروف مفتيًا عامًا للشيشان، ونجحت روسيا  في إقناع الشيشان بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار. بتلك الاتفاقية حصلت الشيشان على استقلالها الواقعي لا الرسمي، وعاد الروس لبلادهم وطُويت صفحة الحرب الشيشانية الأولى عام 1996.

حين وصل بوتين إلى السلطة لم يكن سعيدًا بحال الشيشان، فأرسل قواته مرة أخرى إليها. بوريس يلتسين، الرئيس السابق لبوتين، اتبع نهج الحرب الخاطفة في حرب الشيشان الأولى. لكن بوتين لم يكن يمانع من حرب طويلة، فوضع لها شعار الحرب على الإرهاب للحصول على الدعم الغربي اللازم، واستمرت حرب الشيشان الثاني من نهاية عام 1999 إلى عام 2009.

دمّر الروس جرونزي، وقام أحمد قديروف بتسليم جوديرمس، ثاني أكبر مدن الشيشان، لبوتين دون رصاصة واحدة، بذريعة حفظها من التدمير الهائل الذي لحق بجروزني. انقسمت المقاومة الشيشانية، وشعر المجاهدون أن قديروف الأب قد خذلهم، فضعفت صفوفهم. وبعد انتخاب أحمد قديروف رئيسًا للجمهورية الشيشانية عام 2003، تحولت الشيشان من عداوة روسيا إلى موالاتها.

دعم لامحدود بمقابل لا نهائي

باتت الشيشان تحت وصاية الكرملين، فتحول الصراع الخارجي إلى صراع داخلي. انتهى صراع الداخل باغتيال قديروف الأب عام 2004. فعيّن بوتين ابنه رمضان خليفةً له منذ عام 2007. لم يخذل رمضان تصور بوتين عنه، فأرسل الرجل قواته لدعم الروس في سوريا، وفي شرق أوكرانيا عام 2014. كما أرسل وحدات خاصة من جيشه إلى بيلاروس لدعم روسيا في أوكرانيا أيضَا. وفي 2022 كرر ما فعله سابقًا، بحشد قواته للجهاد مع الروس.

قديروف دمج القوات التي كان يحارب من خلالها الروس في حرب الشيشان الأولى لتصبح قوة خاصة في جهاز الشرطة الرسمي، ليتمكن من خلالها من إرهاب معارضيه وتصفية من يشاء. ووضع رمضان لهم قائمة حصرية تضم قرابة 300 اسم يجب اغتيالهم سواء داخل الشيشان أو خارجها، منهم صحفيون ونشطاء في مجال حقوق الإنسان. لكن صداقة قديروف القوية ببوتين تضمن له النجاة من كافة الاتهامات الدولية التي تلاحقه، أو حتى من أصوات المعارضة التي ترتفع في الداخل الشيشاني.

قد يكون قديروف الابن يدعم بوتين مضطرًا بسبب التفوق العسكري الروسي، أو مختارًا بسبب غرامه الشخصي بشخصية بوتين القوية التي يخشاها الغرب. لكن الأهم أن قديروف يعرف كيف يستفيد من وجود بوتين، ويحصل على مقابل جيد لكل خطوة يقوم بها دعمًا لبوتين.

فمقابل دعمه اللامحدود لبوتين، يغض القيصر الطرف عن التوسع المطرد الذي يقوم به قديروف على الحدود الشرقية والغربية للبلاد، بحجة الحفاظ عليها من الانفصاليين. فمثلًا في عام 2018 بدأ قديروف في توسيع الطريق الجبلي المؤدي إلى داخل جمهورية إنجوشيا، الجارة الغربية للشيشان. حجة قديروف كانت تطوير البنية التحتية، لكن بعد فترة وجيزة ظهر المسئولون الشيشانيّون في مناطق داخل جمهورية إنجوشيا يلتقطون صورًا رسميةً ويزعمون أن المنطقة التي يقفون عليها تابعة لهم.

أعطونا المال واصمتوا

كانت الصدمة بادية على أهالي الجمهورية الصغيرة، لكن  في نهاية عام 2018 كان قديروف قد وقع بالفعل اتفاقًا رسميًا  مع يونس بك، زعيم إنجوشيا، يقضي بتسلم قديروف 10% من مساحة إنجوشيا. تظاهر عشرات الآلاف من سكان إنجوشيا، لكن لجأ قديروف إلى المحكمة الدستورية الروسية التي أقرت بالموافقة على عملية نقل تبعية الأراضي للشيشان، فأدرك المتظاهرون أن عداءهم بات موجهًا لبوتين شخصيًا، فهدأ الجميع.

بعد عملية الضم تلك، نشرت الشيشان خريطة محدثة لحدودها، لكن المفاجأة أنها لم تكن تشمل الـ10% من إنجوشيا فحسب، بل شملت أيضًا أجزاء من جمهورية داجستان الواقعة على الحدود الجنوبية الشرقية للشيشان. بالطبع وجه قديروف بسرعة إصلاح هذا الخطأ الشنيع في الخريطة، وتم إصلاحه فعلًا. لكن بعد بضعة شهور التقى قديروف زعيم داجستان وناقشا ترسيم حدود جديدة بين الجمهوريتين.

قديروف لا يتوسع في الداخل فحسب، بل يستغل وجود بوتين في ظهره للتوسع الخارجي كذلك. عبر تقوية علاقاته مع الدول العربية، ودول الخليج. قديروف بذلك ينشأ دولة داخل دولة، الشيشان داخل روسيا. فباتت الشيشان تمتلك جيشها الخاص القوي، وعلاقات خارجية مستقلة رسميًا عن مواقف روسيا، وتوسع إقليمي. لكن ما يربط الشيشان بروسيا أكبر من كل ذلك، المال.

ما يصل إلى 85% من ميزانية الشيشان تصل من روسيا على دفعات مالية من موسكو. وفي كل مرة يطالب قديروف بالمزيد بحجة محاربة التطرف، والحفاظ على استقرار المنطقة. وحين يلوح الكرملين بتخفيض الميزانية الممنوحة، يعلن قديروف أنها خطوة غير مقبولة. ويذهب في بعض الأحيان للمحكمة الشيشانية العليا من أجل إسقاط ديون على الدولة لصالح شركات روسية، مثلما ألغت المحكمة دينًا بـ9 مليارات روبل على الشيشان لعملاق النفط الروسي جازبروم.  

ودائمًا ما يخضع الكرملين لمطالب قديروف، ودائمًا أيضًا ما يغيب رد فعل بوتين عن المشهد. حتى في حوادث كبيرة مثل ضم إنجوشيا، لم يعلق بوتين. المقربون من بوتين يعلنون أن الرجل لا يرى تهديدًا حقيقيًا فيما يفعله قديروف طالما يُبقي الأمور تحت السيطرة، لكن الواقع يقول إن قديروف يزيد الصدع داخل القوقاز يومًا بعد يوم، وإن الوضع بات كالقنبلة الموقوتة التي توشك على الانفجار في وجه الجميع.