حالة من الغموض أحاط بها «الكاكائية» أنفسهم طوال تاريخهم، وهو ما ساهَم في عدم الوقوف على هويتهم الدينية والاجتماعية، بشكلٍ واضح، إلى الآن، فلا يُعرف على وجه التحديد ما إذا كانوا فرقة دينية منفصلة، أم هم مجرد قبيلة كردية مسلمة تأثرت بما حولها من الأديان والمذاهب الأُخرى، فظهرت لديها تعاليم غريبة على الإجماع الإسلامي.

في كتابه «الأديان والمذاهب بالعراق»، يذكر الباحث العراقي رشيد الخيون، أن الكاكائية مسلمون، مالوا إلى الغلو في محبة الإمام علي بن أبي طالب، فعُدوا من «العلي إلهيين»، أي يعبدون عليًا ويعتبرونه هو الله، كما أنهم تأثروا بالأديان المحيطة بهم، فشكلوا فرقة خاصة في نظرتها إلى الوجود، وفي طقوسها الغريبة من الصعب اعتبارها واحدة من المذاهب الإسلامية، أو مذهبًا من ديانة أخرى.

ويردُّ الخيون اسم الفرقة، التي أسَّسها سلطان إسحاق بن عيسى البرزنجي، إلى الكلمة الكردية «كاكا»، والتي تعني «الأخ الكبير»، إذ ينظر أعضاؤها إلى علي بن أبي طالب باعتباره «الأخ الأول» لذا سُمّوا بـ«الكاكائية».

ويذكر الأديب الألباني شمس الدين سامي فراشري في كتابه «قاموس الأعلام»، أن هذه الطائفة ظهرت بالأناضول في أواخر عهد الدولة السلجوقية (1037- 1194)، وكانوا في الأصل من طرق التصوف، ولهم رئيس يدعو للإخاء البشري، ويحضُّ على التعاون بينهم وبين سائر الناس.

وفي دراستهما «التوزيع الجيوثنوغرافي في محافظة نينوي»، ذكر الباحثان موفق ويسي محمود وقصي رياض كنعان، أن الكاكائية هي جماعة باطنية انطوائية تكتمت في إظهار معتقداتها تكتمًا شديدًا، فهي ترى أن التخفي في إقامة الشعائر الدينية والتظاهر بغير المعتقد الأصلي مجاراة لمجاوريها من صُلب عقيدتها.

قيل إن الطائفة نمت بين الأكراد، بينما يرى آخرون أنها نزلت من إيران وتركيا، وقسم منهم هاجر إلى القرى القريبة من السليمانية وأربيل والموصل بالعراق، وكل هذه الانتقالات والهجرات المستمرة للكاكائيين ونزولهم في أماكن مختلفة ولفترات طويلة جعلتهم يحتكون بكثير من القبائل والعشائر، وهو ما يُصعّب من تحديد موطنهم الأصلي.

على كلٍّ، بات الوطن الرئيس المعروف للكاكائية بالعراق هي القرى التابعة لناحية داقوق في محافظة كركوك، وكذلك تلك التابعة للحويجة شمال العراق، ومنهم أيضًا في محافظتي السليمانية وأربيل، وفي محافظة نينوي استوطنت عوائل عديدة في بعض القرى التابعة لقضاء الحمدانية وناحية النمرود التابعة له.

أُطلق على الطائفة في إيران أسماء عدة، منها «يارسان» أي «الله المعشوق»، و«العلي إلهية»، أما الكاكائيون الساكنون في نواحي الموصل وأربيل فيُسمّون بـ«الصارلية».

المسيح موسى عليه السلام

يذكر رجل الدين المسيحي الأب أنستاس الكرملي في مقال نُشر بمجلة «لغة العرب» في أبريل عام 1928م، بعنوان «كا كه يي»، أن الكاكائية «طائفة خفية المعتقد والمذهب، مبثوثة في كركوك وأنحائها، ولهذا لم يذكر وجودهم أحد من الكتبة والمؤرخين، لأنهم يخفون رأيهم الديني على كل إنسان، ويتظاهرون بالإسلام في موضع يكون أكثر سكانه مسلمين رغم أنهم لا يؤمنون بنبوة الرسول محمد ولا بالصحابة وأئمة المسلمين، ولا يؤمنون بالقرآن، ويتظاهرون بالنصرانية في المواطن التي يكثر فيها المسيحيون».

ويذكر العزّاوي في كتابه، أنهم لا يؤمنون بنبوة الرسول بشكلٍ كامل، وإنما يقولون عنه «أنه مُلقن من الإمام علي، ولكنه راعَى الظاهر ولم يبالِ بالباطن، بل لم يقف عليه ولا على دقائق أسراره، ولا على مراد الإمام علي».

ومن فرط تأثرهم بشخص الإمام علي، فإن الكاكائيين لا يقصُّون شواربهم بسبب رواية أسطورية تنتسب للإمام برّروا بها هذا السلوك، وهي أن الإمام علي غسّل الرسول محمد بعد وفاته، وفي نهاية الغُسل ترسبت مياه في سُرة الرسول فشربها علي، ولذلك طالت شواربه وكلما قصها تنمو مُجددًا، وتبركًا بهذه القصة لا يقصّ الكاكائية شواربهم التزامًا بهدْي الإمام علي.

مجموعة من رجال «الكاكائية»
مجموعة من رجال «الكاكائية» في فعالية عامة

ويعتبر الكرملي، أن عقائد الكاكائية قريبة من المسيحية، وتحديدًا عقيدة الثالوث، فهم يعتقدون، أيضًا، أن الإله الواحد يتجلَّى في ثلاثة مظاهر؛ كبير ووسط وصغير، ويساعد هذه المظاهر أربعة وزراء، وللوزراء مسيطرون عددهم سبعة، وللمسيطرين منفذون وعددهم اثنتا عشر، وهؤلاء «اتفقوا جميعًا على أن يرسلوا إلى العالم الأدنى رجلًا زودوه بجميع القوى العقلية والجسدية، وهو موسى، وهم يعظمونه أشد التعظيم، ويحلفون به، ويضعونه فوق جميع الأنبياء، ويعتقدون أنه المسيح».

روح الله في قلوبنا

يرى الكرملي أن الكاكائيين لا يتمتعون بأي حضور إسلامي بينهم، بينما يطرح المؤرخ العراقي عباس العزاوي وجهة نظر مختلفة، فيذكر في كتابه «الكاكائية في التاريخ»، أن عقائد هذه الطائفة إسلامية لكن دخلها الغلو، ولعل أكبر مؤثر على هذه العقائد هو الصوفي الحسين بن منصور الحلاج، خاصةً آراءه بشأن «الحلول» (أي الاعتقاد بحلول روح الله في البشر)، وكذلك في «الاعتقاد بالله»، والتي تُعدُّ من أكثر الأمور تعقيدًا في عقيدتهم.

فهم يرون أن الألوهية لا يُمكن إدراك كنهها، ولا تصح معرفتها بوجهٍ أو لا يتيسر الاطلاع عليها، أو الوقوف على معرفتها؛ لأن الله لا يصحُّ وصفه أو نعته أو تسميته، أو الاتصال به، لكنه يظهر في أدوار كثيرة (أدوار الظهور)، ويرون أن البدن واسطة هذا الظهور.

ويعتقد الكاكائية أن الله برز للعيان بطريقة «الحلول»، والتي تعني حلول الروح القدس في قلوبهم، و«الاتحاد»، أي اتحاد العبد بالمعبود، ومن هذا المنطلق يؤمن الكاكائيون بوحدة الوجود والموجود، وهم بذلك مثل أرباب الوحدة من أهل التصوف وأهل الإبطان، الذين يعتقدون أن الكون هو الله، أو أصله الله، والكل يرجع إليه، ويعود إلى حقيقته، وهم أيضًا يؤمنون بالتناسخ، وهو تنقل الروح العادية من بدنٍ إلى آخر حتى تُطهر وتكون صالحة مجردة مما ارتكبته من أعمال.

تجمع ديني لإحدى فرق الكاكائية
تجمع ديني لإحدى فرق الكاكائية

كتب الكاكائية

الكاكائية لا يتلون القرآن، ويُعدُّ في نظرهم غير معتبر، لأن من جمعه عثمان بن عفان، ويقولون إنه من نظم الرسول محمد، ولا يستدلون بآياته إلا لغرض تأكيد عقيدتهم، أو تأويل آياته لتوافق ما عندهم من إبطان، حسبما يذكر العزاوي.

ويستمد الكاكائية مفاهيم عقيدتهم من عدة كتب، منها «خطبة البيان»، الذي ينسبونه إلى الإمام علي، ويعدونه من أعظم كتبهم وأجلّها، وهناك كتاب ثانٍ اسمه «جاودان عرفي»، وصاحبه هو فضل الله الحروفي الذي يحظى بمكانة كبيرة في نفوس الكاكائية، ويرجعون إليه في عقائدهم. و«الحروفي» هذا أسَّس الطريقة الحروفية الصوفية الشيعية، وادّعى بأنه خليفة الله في الأرض، كآدم وعيسى ومحمد.

وبالإضافة إلى هذين الكتابين، ألّف أحد أقطابهم ملا عابدين كتاب «سرانجام»، وهو من كتبهم المتداولة اليوم، والذي زعم ظهور الله تعالى على الأرض، وتجسّده عدة مرات منها في صورة «علي المرتضى» (أي الإمام علي بن أبي طالب)، وسلطان إسحق مؤسس الطائفة.

ومن هذه الكتب وغيرها يستمدون عباداتهم التي تتمثل في الأدعية والمناجاة، ولا تُتبع فيها أوقات معينة أو حالات خاصة، وإن كانت قراءة هذه الأدعية عند بزوغ الشمس أو عند غروبها أمرًا معتادًا، كما أن الكاكائيين ليس لهم صلاة، ولا مراسيم عبادة أو أداء فروض تعبدية مثل الصوم.

مزارات أصحاب الظهور

مثل كثير من الطوائف الدينية، للكاكائية مراقد ومزارات مشهورة، أبرزها مرقد «سلطان إسحق» مؤسس الطائفة، والذي يُعدُّونه من أهل الظهور (أي ظهور الله من خلالهم)، ويقع في جبل هاورمان شمال شرق العراق، وليس للكاكائية يوم معين لزيارته، وإن كان الأكثر يأتون في فصل الربيع.

وبجانب بوابة سور بغداد يوجد مرقد «سيد إبراهيم»، وهو من أعاظم رجالهم ومن أهل الظهور أيضًا، ويقولون إنه «مهدي آخر الزمان»، كما يحتفي الكاكائيون بمزارٍ يقع في كهف جبل عال بالقرب من مدينة سربيل على الحدود الغربية مع إيران، يُدعى «دكان داود»، وداود هو أحد أجلِّ رجالهم يُدعى «دواد» خليفة المُؤسِّس سلطان إسحق، والذي وضع أحد الكتب المقدسة عند الكاكائيين وهو «زبور داود» ولشدة حبهم له لا يحلفون به كذبًا، ويقال إنهم يُرجِّحون داوود على الرسول محمد لأنهم يعدونه مظهرًا للتجلي.

الأمر كذلك بالنسبة لمرقد الحاج السيد أحمد و«يراني سلطان» في مدينة النجف، فالأول يقولون إنه رُفع إلى السماء وصار أسدًا، والثاني يقدمون له النذور، ويقولون إن من حلف به كاذبًا اعوجَّ فكه، ومن كان فكه معوجًا قوّمه، ويعدون ذلك من كراماته.

أكتم من الكاكائية

يحرص الكاكائية على كتمان أسرارهم الشعائرية بكل ما يملكون، فلا يظهرون عقائدهم ولا عاداتهم ومراسمهم علنًا، ولا يطلعون أحدًا عليها، وهذا التكتم يُعدُّ من واجباتهم الدينية، وقد ضُرِبَ بهم المثل في الكتمان فقيل «أكتم من الكاكائية».

وبرغم ذلك لم تنقطع آمال الكاكائية في التعبير جهرة عن طقوسهم ومعتقداتهم، وكان ذلك الأمر يراودهم في حقب تاريخية عديدة، منها في العام 1921م، أي مع تأسيس الدولة العراقية وإقرار دستور لا يُحرِّم تنوع العقائد، وحينها عرَضَ بعض قيادات الطائفة على سيد فتاح سيد خليل الزعيم الروحي للكاكائية، وقتها، أن يُنهي عهد الستر ويُدخل الكاكائية في مرحلة المكاشفة، لكنه توجس من إنهاء سرية العقيدة خوفًا من اعتبارهم نحلة مرتدة عن الإسلام وهو ما سيجعلهم يواجهون بعواقب وخيمة، كما يروي الخيون.

ظلَّ الكاكائية على حالهم هذا بسبب حالة التوجس التي سيطرت عليهم إلى أن سقط نظام صدام حسين وبدأوا يبحثون لأنفسهم عن فرصة للتواجد العلني بجانب المعتقدات الأخرى، إلى أن كتب مهدي كاكائي وهو أحد قيادات الطائفة، ما يشبه النداء يُطالب بإعلان الكاكائية كديانة مستقلة، بعد قرون من الزمن تخفوا فيها وراء الانتساب لعلي بن أبي طالب.

وطالب مهدي كاكائي في دعوته التي نُشرت على صفحات موقع تابع للاتحاد الديمقراطي الكردستاني في مايو 2015م، بالدعوة لمؤتمر عام يُعقد في جنوب كردستان، وذكر أنهم في حاجة إلى ثورة دينية من خلال تنظيم أنفسهم وإعطاء هوية خاصة متميزة لدينهم، مشيرًا إلى أنه سيقوم بالتأسيس لهذه الثورة، وأنه يأمل في أن يشارك فيها جميع الكاكائية من مختلف أنحاء العالم، لكن هذه الجهود لم ترَ النور حتى الآن.

وبسبب طقوس وعقائد هذه الطائفة المخالفة للإجماع الإسلامي، تعرَّضت الكاكائية لإرهاب تنظيم «داعش»، بعد إصدار المحكمة الشرعية التابعة له فتاوى تبيح قتلهم، ما أدى إلى نزوح 50 عائلة كاكائية عن قراهم الواقعة في المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية العراقية وإقليم كردستان إلى مدينتي السليمانية وأربيل، كما نُسفت مزاراتهم الدينية، ومنها مرقد السيد زيبار أحد مراقدهم المقدسة في جنوب كركوك، والذي فُجّر في صباح عيد نوروز (أحد أعيادهم الدينية) في 21 مارس 2018.

وفي 13 يونيو الماضي قُتل 7 أشخاص من أتباع الكاكائية، وأصيب أكثر من 5 آخرين في هجوم شنه إرهابيو داعش على قرية دارا بمنطقة ميخاس التابعة لقضاء خانقين في محافظة ديالى، ما دعا زعيم الطائفة نصرالدين الحيدري، لمطالبة الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان بحمايتهم من الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها، معتبر أن طائفته لطالما كانت «مصدرًا للسلام والمحبة والتعايش، ولم يكونوا يومًا ما مصدرًا للتفرقة».