ممثلو البنتاجون الأمريكي صرَّحوا أن لديهم خطة للاختراق الجوي لكالينينجراد. المتحدث باسم الخارجية الروسية اعتبر تلك التصريحات تهديدًا لا تقبله روسيا، وأن التصريح يعكس مدى جهل الإدارة الأمريكية بما تحتويه كالينينجراد، ومدى أهميتها بالنسبة لروسيا. اللافت في الأمر أن الخطة التي أعلن عنها البنتاجون لشلِّ دفاعات كالينينجراد تتضمن هجومًا بحريًّا وبريًّا وجويًّا، مترافقين مع هجمات سيبرانية وأنشطة أخرى ضمن الحرب الإلكترونية. خطة الهجوم وحدها تكشف مدى صلابة المدينة، وكثافة السلاح الموجود فيها.

كالينينجراد مقاطعة روسية، لكن تحيط بها الدول الأوروبية من كافة الجوانب، لدرجة أنه ليس لديها أي حدود برية مع المناطق الرئيسية الروسية. لكنها تبعد عن بولندا بـ 35 كيلومترًا، و70 كيلومترًا عن ليتوانيا، بينما تبعد 1289 كيلومترًا عن موسكو.

 المدينة مشهورة بمدينة العنبر، بسبب وجود متحف العنبر الموجود في برج مشيَّد بالطوب الأحمر. وكان في لحظة تاريخية جزءًا من حصون الدفاع عن المدينة. كانت المدينة تحمل اسمًا ألمانيًّا، كونيسبرج، لكن جرى تغييره إلى كالينينجراد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد احتلها الروس وطردوا سكانها الألمان منها، وسُمِّيت نسبةً إلى ميخائيل كالينين، الرئيس الأسبق للاتحاد السوفيتي آنذاك. وبذلك صارت كالينينجراد المنفذ الروسي الوحيد على بحر البلطيق.

كالينينجراد هي موطن واحد من أشهر الفلاسفة، إيمانويل كانط. ويقع قبره فيها حتى الآن، وأقيم فيها متحفه الخاص أيضًا. كانط عاش مرحلة تأرجح المدينة بين القوى الدولية، لكنه اختار أن يكون روسيًّا حتى النهاية. فقد أقسم بالولاء للاتحاد السوفيتي، لكن حين عادت المدينة إلى بروسيا رفض الحنث بيمينه وظل روسيًّا.

درع للدفاع ومنطلق للهجوم

عام 1945 حين احتلت الجيوش الروسية شرق بروسيا، الذي كان جزءًا من ألمانيا، واجهوا مشكلة أن المنطقة تنمتي عرقيًّا للألمان. لكنهم لم يريدو إعادتها للألمان، وكذلك لم يريدوا إنشاء دولة شيوعية ألمانية مستقلة تدين بالولاء للروس، لهذا اختار ستالين الاختيار الأبسط، ضم المنطقة للاتحاد السوفيتي، طرد السكان الألمان، إحلال السكان الروس مكانهم.

بدأت كالينينجراد تدفع ثمن غربتها بمرور الوقت، فحين انضمت دول البلطيق إلى حلف شمال الأطلسي، ظلت المدينة خارج الحلف واعتُبرت عدوًّا لكامل الحلف. وبازدياد قوة الناتو ازداد تمسك الروس بالمدينة، وازداد إصرار بوتين على جعلها أكبر ثكنة عسكرية لتصبح تهديدًا مميتًا في عمق التحالف الغربي. خصوصًا أن كالينينجراد تحتوي الميناء الروسي الوحيد الذي لا تتجمد مياهه في فصل الشتاء، ما يجعلها حيويةً لبقاء روسيا متصلةً بالعالم في أوقات الجليد.

يقول الروس إن المدينة ستكون درع الدفاع عن روسيا ضد أي هجوم أوروبي، لكن العتاد العسكري الذي تحتويه المدينة لا يقتصر على الأسلحة الدفاعية، بل يمكن أن تكون منطلقًا للهجوم على أوروبا كذلك. ومن أحدث الأسلحة التي زُودت بها المدينة هي منظومة إس-400 الروسية. كذلك صواريخ إسكندر، القادرة على تنفيذ الهجمات البحرية والبرية طويلة المدى، كما يمكنها إطلاق رءوس حربية نووية.

بوتين لا يعتمد السرية في تسليح كالينينجراد، بل ينقل إليها السلاح في عروض عسكرية مهيبة. مثل ما حدث مع نقل بعض صواريخ إسكندر المسلحة نوويًّا إلى المدينة. وجود صواريخ إسكندر في كالينينجراد يشل قدرة بولندا على القيام بأي تصرف يغضب الدب الروسي، فبإمكان الصواريخ بسهولة أن تدمر المنشآت الدفاعية الروسية.

مخزن أسلحة نووية

لا تنكر روسيا أو تشكك في أي صورة تظهرها الأقمار الصناعية الأوروبية، مثل الصور التي نشرها اتحاد العلماء الأمريكيين للمدينة وأظهرت منشأة تخزين عميقة مغطاة بسقف سميك من الخرسانة. ما يعني أن الموقع المكتشف يحمل مواصفات مواقع تخزين الأسلحة النووية. ويحيط بالموقع سياج ثلاثي الطبقات، وبداخل المخابئ يوجد سياج آخر ثلاثي.

الصور المنشورة وفقًا لهانز كريستنس، مدير مشروع المعلومات النووية في منظمة اتحاد العلماء الأمريكيين، لا تظهر أن هناك أشياء مخزنة بالفعل، لكنها تظهر أن الموقع يتم إنشاؤه حاليًّا. وفي ذلك دلالة على أن الروس يبيتون النية على نقل أسلحة نووية إلى كالينينجراد، أو أن هناك أسلحة نووية بالفعل في المدينة ويتم إنشاء ذلك المبنى العميق لتخزينها.

ربما يستطيع الناتو مجتمعًا أن يتغلب على التفوق العسكري الروسي في المدينة، لكن كالينينجراد بالنسبة للروس ليست مهمة في ذاتها، بل أهميتها أنها ستكون قادرة على فتح جسر آمن للروس في قلب أوروبا. وبإمكانها عبر صواريخها شلُّ حركة الملاحة الجوية، العسكرية والمدنية، في كامل أوروبا، ما يمكن أن يكدِّر صفو حياة المواطن الأوروبي لشهور طويلة.

وما قد يسهل مهمة الناتو في احتواء خطر كالينينجراد هو غضب أهلها على الدب الروسي. فرغم أن صور الزعيم ستالين لا تزال معلقة على حوائط منازلهم، إلا أنهم لا يدينون بالولاء المطلق للشيوعية الروسية ولا للقيصر بوتين بصفة خاصة. عدد سكانها 43 ألف مواطن، 88% منهم روس. لكن رغم ذلك فلم يبالِ الروس بإعادة إعمار المدينة أو تزويدها بمظاهر الحياة الحديثة، بل كل ما أضافه الروس إلى المدينة هو العديد من المجمعات السكنية الضيقة والشاهقة.

الجيل الجديد ليس أوروبيًّا

من أسباب غضب السكان على الدب الروسي أن السياح لا يتوافدون على المدينة رغم مبانيها العتيقة ومعالمها التراثية، لكن الغضب الأوروبي من المدينة جعل السياح يعزفون عنها. كما أنها تخضع لروسيا فيحتاج السائح إلى تأشيرة دخول مُصدرة من موسكو، ما يضع المزيد من العقبات في طريق السياح، فيؤثرون الابتعاد عنها. كما يعيش أهلها في فقر كبير مقارنةً بحال الأوروبيين والروس على حد سواء.

وحين تذكر الروس كالينينجراد تذكروها في خضم كأس العالم عام 2018، وتجهزت المدينة لاستضافة 4 مباريات من البطولة. تحديث استادات كرة القدم أثار غضب السكان أكثر مما أسعدهم، لأن المرافق الحيوية والبنية التحتية للمدينة لم ينلها التطوير. فقط تم تحديث وترميم الاستادات والمناطق المحيطة بها فحسب.

لكن على النقيض يريد بعض سكان المدينة من بوتين أن يكون عدائيًّا بصورة أكبر تجاه أوروبا، فهم يرون أن أوروبا هي من نبذتهم لا بوتين هو من عزلهم. ربما تكون تلك الأصوات هي من تصل إلينا لأن الأصوات الأخرى المناهضة لسياسات بوتين يحدث  معها كما يحدث مع كل معارضي بوتين، القمع والسجن، أو التلاشي بالسم.

أما الجيل الجديد الناشئ في المدينة فقد نجحت الدعاية الروسية في إقناعه بأن كالينينجراد ليست إلا روسيا صغرى، لا يمكن أن تنالها يد التطوير لأنها في قلب أوروبا، أما روسيا الكبرى فهي الجنة المنتظرة. لهذا يرى العديد من الشباب حياتهم في كالينينجراد ليست إلا مرحلة انتقالية قبل الحياة في موسكو نفسها. رغم أنهم يواجهون تضييقات في الانتقال لموسكو، لكن بوتين جعل من موسكو بمثابة الحلم لهم.

تلك الرؤية تعاكس ما يتصوره الأوروبيون عن حال سكان كالينينجراد، فهم مقتنعون أن جيل كالينينجراد يرى نفسه شبابًا  أوروبيًّا مخطوفًا من قبل الروس، وينتظر التحرير الأوروبي للمدينة.