يحكي كمال الدين حسين في مذكراته مواقفه العديدة مع رفيق الثورة وزعيم الأمة جمال عبدالناصر. يقول إنه كانت هناك خلافات عديدة بينه وبين عبدالناصر، لكنها كانت تُحل في حدود النقاش الطبيعي. لكنّ موقفًا واحدًا كان أبرز المواقف التي تعكس أحداثه آراء الاثنين. في أحد الاجتماعات سأل عبدالناصر رفاقه هل عبّود باشا أفضل، أم لينين؟ عبّود باشا اسم مجازي يُقصد به الرأسمالية المتطرفة، ولينين كناية عن الاشتراكية المتطرفة. فرد حسين بأنه كذلك يخيرهم بين الشيطان وإبليس.

استمر حسين في الحديث موجهًا سؤالًا لعبدالناصر قائلًا إذا افترضنا أن هناك «ميكانيكي» يملك ورشة صغيرة، ويعمل لديه اثنان من العمال، فهل من العدل أن يشاركه الاثنان أرباحه بنسبة متساوية؟ أجابه عبدالناصر أنه يرى ذلك عدلًا فعلًا. فصعق حسين الجميع بإجابته قائلًا: يبقى في المشمش. نزل الرد صادمًا على رؤوس الجميع، لم يكن أحدهم يخاطر ابتداء بمعارضة عبدالناصر بعد أن رأوا انصرافه عمن يخالفه الرأي، في أحسن الأحوال، وإبعاده للمخالفين وتحديد إقامتهم، في غالب الأحوال، لكن حسين قالها وانتهى الأمر.

ليس من المستغرب إذن أن ينتهي الأمر بصدور قرار يوم 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1964 يقضي بتحديد إقامة كمال الدين حسين في إحدى الاستراحات في الهرم. لكن ذلك لم يُنه مسيرة كمال الدين حسين، المسيرة التي بدأت قوية، ومهدها صاحبها لنفسه بسنوات طويلة من المناكفة مع الجميع، وجمع بداخله مجموعة كبرى من الآراء عبر عديد من التقلبّات الفكرية. ولم يفقد مثالية الشباب في غالب مراحل حياته، فكان حماسه أكبر أحيانًا من حكمته، وكانت رغبته في بناء مصر ونظام سياسي مختلفين تفوق قدراته الحقيقية، وقدرات مناصبه، على إنجاز ذلك.

لقاء عبد الناصر وكمال الدين

بدأ كمال الدين، من مواليد القليوبية، حياته بالحصول على شهادة مُعلم من مدرسة المدفعية البريطانية. بعد أن تخرج في الكلية الحربية عام 1939، ولمّا يبلغ الثامنة عشرة بعد. ثم حصل على ماجستير العلوم العسكرية، فالتحق بوحدة المدفعية في الصحراء الغربية. لكنه عام 1948 قدم استقالته من الجيش لينضم لصفوف المتطوعين للحرب مع الفدائيين تحت قيادة أحمد عبدالعزيز. أوكل إليه البطل رئاسة الأركان والمدفعية. أصيب مرتين خلال الحرب مع اليهود. لكنه شق طريق العودة لمصر في أوائل عام 1949.

استراحت كتيبته العائدة قليلًا في خيام معسكرات العريش. في تلك اللحظة كان اللقاء الأول بين حسين والصاغ جمال عبدالناصر. بعد التعرف حكى عبدالناصر لحسين الحوار الذي دار بينه وبين الشهيد أحمد عبدالعزيز. قال له جمال إن ميدان الجهاد الحقيقي ليس في فلسطين، بل في مصر. وافقه حسين على ذلك، فنشأت صداقة بين الاثنين، واتفاق ضمني أن يكون جهادهما معًا في القاهرة.

بعد العودة عين مدرسًا في كلية أركان الحرب. ومنها بات عضوًا في لجنة الضباط الأحرار، وكان مع الرعيل الأول الذي وضع خطة تحرك قوات الجيش ليلة الثورة. وكان هو قائد سلاح المدفعية في يوليو/ تموز 1952. وألقى بنفسه القبض على علي نجيب، شقيق الرئيس محمد نجيب، الذي كان قائد المدفعية لحظة الثورة. ومنذ اللحظة الأولى للثورة كان اسمه من أبرز الأسماء الموجودة في تنظيم الضباط الأحرار. رغم أنه كان ثاني أصغر أعضاء مجلس القيادة سنًا، الأصغر كان خالد محيي الدين.

بدأت رحلته في تقلد المناصب منذ قيام الثورة، فكان عضوًا في المجلس الأعلى لهيئة التحرير. ثم عُين وزيرًا للشئون الاجتماعية عام 1954. بعدها أصبح وزيرًا للتربية والتعليم. تأسيس نقابة المعلمين يرجع لكمال الدين، واُختير شخصيًا نقيبًا للمعلمين عام 1959. عُين بعد ذلك وزيرًا للإدارة المحلية عام 1960، ثم رئيسًا لمجلس الوزراء عام 1961. لكنه حتى في الفترات بين التنقل من منصب لآخر كان يجمع في يده عديد من المناصب والمسميّات الوظيفية.

فكان هو رئيس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. ورئيس مؤتمر الشباب الآسيوي الأفريقي. ومشرفًا على وزارات الصحة والإسكان، ورئيسًا للجنة الأوليمبية المصرية عام 1960، وأمينًا عامًا لهيئة الطاقة الذرية. ولم ينس اهتمامه الشخصي بالثقافة والفنون، فافتتح عددًا من المعارض الفنية للتعبئة القومية ضد الخطر الصهيوني، مثلما فعل مع معرض عبدالمنعم السحراوي، فنان تشيكلي من بورسعيد.

ثلاث استقالات وإقامة جبرية

لكن التنقل بين تلك المناصب لا يعني سلاسة العلاقة بين الرئيس والوزير. فقد كان لكمال الدين 3 استقالات موثقة، قبل استقالته الأخيرة التي اعتزل على إثرها الحياة السياسية. أول استقالة له كانت في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1957 من مجلس الأمة. استقال حسين لنفس السبب الذي استقال له عبداللطيف البغدادي، هو أن المجلس وافق على جعل مديرية التحرير، وهي هيئة حكومية، لكن جعلها المجلس مؤسسة خاصة. وهدف التشريع هو إخراج المؤسسة من قبضة المجلس كي لا يصبح من حقه محاسبتها على المخالفات المالية.

استقالته الثانية كانت من وزارة التربية والتعليم. مجلس الأمة أراد الضغط على الوزارة كي تقبل الحاصلين على 50% في الثانوية العامة، وإدراجهم ضمن جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس. حسين كان رأيه أنه بقبولهم سيتم الضغط على المنظومة التعليمية، لن تكون هناك مدرجات كافية ولا أساتذة تواكب الشرح لهذا العدد. رفضًا لهذا الضغط استقال حسين، وفي نفس يوم استقالته اجتمع عمداء الجامعات الثلاثة وأصدروا بيانًا يتضامنون فيه مع الوزير.

أما الاستقالة الثالثة، فكان عبدالناصر السبب المباشر فيها. عام 1958 تلقى حسين خطابًا من عبدالناصر، كان الخطاب تحت صيغة خطاب دوري لكل الوزراء، دون تسمية أحد بعينه. يقول الخطاب إن الرئيس لاحظ كثرة ظهور الوزراء في الإعلام، وتصريحاتهم المتتابعة، وينصحهم ضمنيًا بالتقليل والكف عنها. لكن المقصود بالخطاب كان عبداللطيف البغدادي وكمال الدين حسين.

 البغدادي تقدّم باستقالته فور وصول الخطاب إليه، أما حسين فسأل عن مكان عبدالناصر. فعلم أنه في استراحة برج العرب، فسافر إليه فورًا. تنقل مذكرات الرجل، وقطع من مذكرات أصدقاء لعبدالناصر، أن كمال الدين دخل عليه وألقى الخطاب أمامه قائلًا إنه يرفض أن يتحدث إليه أحد بهذه الصيغة. لكن عبدالناصر ردّ قائلًا إنه لم يقصد أي أحد من الإخوان المسلمين، إنما يقصد بعض الوزارء الذين يتحدثون عن أنشطة كاذبة لوزاراتهم.

علاقته بالإخوان المسلمين

كلمة الإخوان التي ذكرها عبدالناصر لم تكن مصادفة. فكمال الدين حسين كان منتميًا للإخوان. يقول في مذكراته إنه انضم إليهم عام 1945، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. يروي أيضًا أنه عرفهم أثناء التحاقه بالجامعة، وأن علاقته بهم لم تتجاوز حضور اجتماعاتهم. وقال أيضًا إن عبدالناصر كان يشاركه حضور تلك الاجتماعات. وأردف أن علاقته بهم استمرت حتى تطوع في حرب فلسطين.

ولعلاقاته بالإخوان، أو تدينه الشخصي، يرجع اهتمامه بالأزهر وتطويره. فجانب كبير من تحويل الأزهر لجامعة حديثة يرجع فيه الفضل له. فكان مشجعًا لأن يضم الأزهر كليات الطب والهندسة بهدف تخريج دعاة يجمعون بين الدين والعلم. تلك الفكرة تحديدًا احتارت في نسبتها، يميل البعض لمنحها لعبدالناصر شخصيًا، وأحيانًا لغيره من مجلس القيادة. لكن شبه الثابت أن من رعاها تشريعيًا وتخطيطيًا كان كمال الدين حسين.

أما الإنذار بنهاية الرجل السياسية فكان في اجتماع الثماني ساعات، 4 مارس/ آذار 1964، بين عبدالناصر وحسين وعبدالحكيم عامر، وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة. وفيه دارت المحاورة المذكورة أول المقال. وعلى إثرها تم تقييد حركة الرجل وزوجته. وفي رواية أخرى فإن تقييد الحركة لم يكن بسبب تلك المحاورة، والدليل النظري على ذلك أن الإقامة الجبرية صدر في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1965، أي بعد ما يزيد من عام على تلك المشادة الكلامية.

لكن الحدث البارز الذي صدر قبل قرار الإقامة الجبرية بثلاثة أيام فقط، كان برقية من كمال الدين حسين للرئيس. البرقية كانت بسبب اعتقالات عبدالناصر للإخوان المسلمين. وكانت البرقية حادة ومختصرة فقال فيها، لا خير فيّ إذا لم أقل لك اتق الله. وصدر بعدها بثلاثة أيام قرار تقييد الإقامة. وبعد القرار بعشرة أيام، 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1965، أرسل كمال الدين رسالة أخرى لعبدالحكيم عامر. كانت رسالة شديدة اللهجة كذلك يقول فيها لعبدالحكيم إنهم تحوّلوا لجلاديّ الشعب لا حماته.

معارض داخل معسكر الحكومة

ظل الرجل في عزلته الإجبارية حتى انتهى عهد عبدالناصر، وبدأ عهد السادات. ترشح عضوًا لمجلس الشعب عن دائرة بنها وفاز بالمقعد. كانت تلك خطوة جريئة، لم يقم بها أحد ممن خرجوا من السياسة بأوامر عبدالناصر. لكن حسين راهن على الحاضنة الشعبية له، ونجح رهانه. لكنه خرج من الحياة السياسية سريعًا مرة أخرى. هذه المرة مفصولًا من المجلس بعد رسالة أرسلها لأنور السادات.

الرسالة كانت في يوميّ 9 أو 10 يناير/ كانون الثاني 1977، أي أثناء انتفاضة الخبز التي نشبت بسبب الاعتراض على غلاء المعيشة. حسين انتقد السادات مبدئيًا لتجاوزه السلطة التشريعية وإصداره قوانين بتشريعات جديدة. لم يرد السادات على الرسالة لكن أرسلها لمجلس النواب كي يتخذ موقفًا من النائب المُرسل لها. في غياب كمال الدين تمت مناقشة الرسالة، وصوّت 252 عضوًا، من الحزب الحاكم، على طلب إسقاط العضوية عنه.

مع إسقاط العضوية كُشف نص الرسالة. واحتوت كلمات شديدة يصف بها حسين حكومة السادات بالخرقاء، ويصفه بقصر النظر، وتفصيل القوانين لمصلحته الخاصة. واتهمه بازدراء عقلية المصريين، وامتهان مجلس الشعب، وضرب القيم الدستورية. وأن السادات يمارس تقنينًا غير شرعي للظلم، وتقنين الظلم أشد أنواع الظلم، كما نقلت الرسالة. وختم الرسالة قائلًا: «ملعون من الله ومن الناس كل من يتحدى إرادة أمة أو يمتهن كرامة شعب، حسبنا الله ونعم الوكيل وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.»

بعد الفصل رفع كمال الدين الأمر للقضاء، جولات طويلة في المحاكم أفضت لحصوله على حق العودة للمجلس. لكن عندما أراد تنفيذ الحكم وجد أن صبحي صالح، بإيعاز من السادات، عدّل قوانين المجلس لتنص على أن من خرج من الجلس لا يعود إليه. لم يعد للمجلس لكنه انشغل بالهم العام العربي، وشارك بعد ذلك في جولة بين عديد من الدول العربية عام 1983 ليعقد اتفاق بين الفصائل الفلسطينية التي تناحرت في لبنان، وليفك الحصار عن قوات ياسر عرفات.

تُوفي الرجل عام 1999 بسبب أمراض الكبد، وأقيمت له جنازة عسكرية تقدّمها زملاؤه الأحياء من مجلس قيادة الثورة. ورئيس الدولة وقياداتها السياسية، وحضرت وفود رسمية من الكويت وليبيا والسعودية وفلسطين لتشيعه.

مات الرجل وماتت معه جوانب كثيرة من مذكراته، فلم ينشر إلا بعض منها في مجلة المصور. ونُسجت صورته الحالية من وحي ما استطاع سامي جوهر جمعه في كتابه، «الصامتون يتكلمون». وصفه الآخرون بأنه كتاب «الصامتون يكذبون»، لكن لم يُفند أحد كذب ما جاء به. وكذلك يبدو أن الحياة كانت قد أنهكت كمال الدين حسين فلم يبال بالرد أو بجمع مذكراته كاملةً في كتاب منفصل.

بعد تلك الاستقالات والرسائل شديدة اللهجة يصبح ممكنًا القول إن الرجل كان معارضًا. فبينما يقيم في معسكر مجلس قيادة الثورة، وداخل خيام الضباط الأحرار الذي خلقوا الثورة من العدم، فإنه كذلك يسكن خيام المعارضة وقضى معظم حياته في معسكراتها. لكنها كانت معارضة متقدمة على زمانها، ففي وقت كان الجميع لا يعرف إلا السلاح والمؤامرات السرية، اختار الرجل معارضة راقية بالاستقالات والنقاشات الحادة.

لكن لم يُحسب شعبيًا، أو بين النخب السياسية حتى، أنه معارض لعبدالناصر، بل ظل رمزًا بارزًا من رموز النظام. ربما يرجع الأمر لقوة كاريزما عبدالناصر، ونجاعة إعلامه، الذي ينجح في تصوير الخارجين عن أمره بالعصاة الفاشلين، لا المعارضين الثائرين.