امتدت مسيرة «كاثرين هيبورن» كنجمة رائدة في هوليوود لأكثر من 60 عامًا، اشتهرت فيها بالاستقلالية والشخصية المفعمة بالحيوية، فقد طوّرت شخصية خاصة بها على الشاشة تتوافق مع صورتها الشخصية، ولعبت بانتظام دور المرأة القوية، صاحبة الإرادة الحديدية، وحطّمت عددًا من الأرقام القياسية، كما امتد تأثيرها خارج وداخل الشاشة، وقادت قصة حب عنيفة، ما زالت حديث هوليوود حتى اليوم، وحفرت اسمها بحروف من ذهب، لتستحق مكانها على عرش أساطير هوليوود والسينما في العالم.

من رحم المعاناة

وُلدت كاثرين هيبورن في 12 مايو/أيار 1907، لعائلة غنية ومثقفة في مدينة كونيتيكت. كان والدها طبيب جرّاح ووالدتها ناشطة في مجال حقوق المرأة، لذا نشأت الطفلة ذات وعي وثقافة، حيث شجّعها والدها منذ الصغر على القراءة والاطلاع، وممارسة الرياضة وإبداء الرأي والتحلي بالشجاعة، كما وصفتهم:

الشيء الوحيد الأكثر أهمية الذي يحتاج أي شخص معرفته عني، هو أنني كليًا، نتاج شخصين رائعين تصادف أن يكونا والداي.

لكن بعمر الـ 14، أقدم شقيقها الأكبر على الانتحار، كما فعل والد أمها وعمها من قبل، فأصابتها صدمة كبيرة واعتزلت من حولها، كونه كان الأقرب إليها من العائلة، وربطتهم علاقة مميزة، حتى أنها لفترة من الوقت استخدمت تاريخ ميلاد شقيقها لنفسها، لكن على أي حال، مع التقدم في العمر تغلبت على الأمر وعادت لحياتها الطبيعية بالتدريج.

بعكس أغلب الممثلات والممثلين في عصرها، وحتى حاليًا، كاثرين صاحبة تعليمٍ عال، وتملك شهادة جامعية في التاريخ والفلسفة، وبعد تخرجها عام 1928، بدأت مغامرتها مع التمثيل بدايةً بالمسرح في نيويورك، وتزوجت في نفس العام، لكن الزواج لم يستمر طويلًا بسبب انشغالها بالتمثيل، وتركيز كل طاقتها من أجله.

بداية الأسطورة

ظلت لأعوام تُنمِّي موهبتها في المسرح، حتى وجدها كشّاف مواهب تابع لأستوديو RKO، وعرض عليها أن تتقدم لتجارب أداء فيلم لصالح الأستوديو، وبالفعل ذهبت وأبهرتهم بأدائها وحصلت على أول دور لها في فيلم A Bill of Divorcement، عام 1932، والذي لاقى نجاحًا كبيرًا، مما دعا الأستوديو لتقديم عقد مغر طويل الأمد، يربطها معهم في عدد من الأفلام.

بعدها بعام واحد فقط، حصلت هيبورن على جائزة الأوسكار الأولى، عن دورها في ثالث أعمالها، فيلم Morning Glory، عام 1933، ووصلت شهرتها إلى العالمية بدورها في فيلم Little Women، عام 1933، وأصبحت نجمة معروفة في كل مكان، ورسمت لنفسها مكانة مميزة، بحضورها الطاغي على الشاشة، وذكاء فريد بين معظم الممثلات.

وخلال الثلاثينيات، قدّمت عددًا من أفلام الكوميديا، لكن مسيرتها كذلك عانت من قلة الأرباح والنجاحات في صندوق التذاكر، وتردّد المنتجون في عرض أدوار مهمة عليها، مما دعاها إلى إنهاء عقدها مع RKO، بسبب التجاهل وسوء المعاملة، مما كلفها ما يزيد على 200 ألف دولار من جيبها الخاص، حتى تم رفضها لدور البطولة في الفيلم الشهير Gone With The Wind، عام 1939، فعادت للمسرح.

كان الكاتب المسرحي «فيليب باري» قد كتب مسرحية خصيصًا لها، وبالفعل قدّمتها كاثرين، وفتنت الجمهور والنقاد بأدائها في المسرحية، ووجدت في المسرح مُنقذها، لكنها كذلك أدركت أنه سوف يسيل لعاب هوليوود على المسرحية، من أجل تحويلها إلى فيلم، فقامت بشراء حقوق المسرحية.

حين أراد أستوديو MGM شراء المسرحية، وافقت بشرط أن تلعب دور البطولة، وقدّمت أحد أفضل أدوارها في فيلم The Philadelphia Story، عام 1940، مع اثنين من أساطير السينما «جيمس ستيوارت» و«كاري جرانت»، وأجبرت هوليوود على تقبلها مُجددًا، وفرضت نفسها عليهم عنوة بالحنكة والدهاء.

ثم تغيرت حياتها مُجددًا بعد فيلم Woman of The Year، عام 1942، حين وقعت في الحب مع شريكها في الفيلم «سبنسر ترايسي».

حب في الكواليس

لمدة 27 عامًا، كانت قصة الحب بين «كاثرين هيبورن» و«سبنسر ترايسي»، لا تخفى على أحد، وتظهر بشكل واضح على الشاشة، حتى أن المنتجين رفضوا اقتراح ترايسي بلعب هيبورن للعب دور البطولة بجواره في فيلم Father of The Bride، عام 1950، لأن حبهما واضح على سلوكهما المشترك، وغير مناسب للفيلم.

على الشاشة، كانت بينهما كيمياء لا يمكن إنكارها، وتوافد الجمهور بالآلاف على أفلامهم ليشهدوا المزاح المتقطع سريع البديهة، والمظهر الجميل، الذي يمكنه التحدث أكثر من أي حوار، كانت هذا التوافق والتلقائية أمام الكاميرا، سببًا في ظهورهما معًا في ثمانية أفلام أخرى أشهرها Keeper of the Flame (1942)، وAdam’s Rib (1949)، وPat and Mike (1952)، وDesk Set (1957)، وظهورهم النهائي معًا في Guess Who’s Coming to Dinner (1967).

على الرغم من كون العلاقة بينهما سرًا معروفا في هوليوود ومن حولها، فإنها ظلت طي الكتمان في الإعلام، حيث كان ترايسي مُتزوجًا وأبًا لطفلين، لكن تم تشخيص جون (أحد أبنائه) بأنه أصم كطفل رضيع، وشعر تريسي بالذنب العميق بسبب مرض ابنه، مُعتقدًا أنه كان عقابًا على خطاياه وبدأ في الابتعاد بنفسه عن عائلته.

لكن الطلاق لم يكن خيارًا أبدًا، فترايسي كان كاثوليكيًا صارمًا، وظل مُحاصرًا في ذلك الزواج الملعون مدى الحياة، واستمر في العيش معظم حياته في الفنادق والمساكن المستأجرة بعيدًا عن زوجته وعائلته.

لم يعترف ترايسي أبدًا أو يعبر عن مشاعره تجاه هيبورن علنًا، رغبةً منه في حماية زوجته وعائلته من الإحراج والفضيحة، ونادرًا ما شُوهد مع كاثرين في الأماكن العامة، وعاشا في منازلهم المنفصلة، لسبب آخر أيضًا هو مصالح رؤساء الأستوديوهات في هوليوود، الذين يخشون رد فعل الجمهور على الخيانة الظاهرة التي كانت تنتهك البنود الأخلاقية للنجوم في تلك الفترة.

إلى جانب محاولاته لإبقاء علاقته مع هيبورن بعيدة عن وسائل الإعلام، كان تريسي أيضًا يحارب شياطينه الداخلية، حيث قضى حياته مُثقلًا بالذنب بسبب ظروف عائلته، وعانى من نوبات منتظمة من القلق والاكتئاب والأرق، وحاول التغلب على إدمان الكحول معظم حياته البالغة.

لكن كاثرين لم تتخل عنه أبدًا، حتى أنها علّقت مسيرتها التمثيلية لـ 5 أعوام بداية من 1962، لترعى سبنسر خلال مرضه، حتى عادا معًا في فيلم Guess Who’s Coming To Dinner، عام 1967، وتوفي ترايسي في ذات العام، وفازت هيبورن بالأوسكار الثانية عن الفيلم، لكنها لم تشاهد الفيلم أبدًا تكريمًا لذكرى حبيبها، كونه فيلمه الأخير، ولم تحضر جنازته، احترامًا لعائلته.

المرأة القوية المستقلة

أعتقد أن كل ممثلة في العالم نظرت إليها بنوع من التبجيل، إحساس: أوه، يا إلهى، لو كان بإمكاني أن أكون مثلها فقط، لم ننظر إليها أبدًا بحسد أو غيرة، أنت تتمنى فقط يومًا ما أن تكون مثلها.
النجمة «إليزابيث تايلور».

على الرغم من أن هوليوود مليئة بعدد هائل من الممثلات، من هنا وهناك، ومن كل الأشكال والألوان، بعضهم بلا موهبة إطلاقًا، والبعض الآخر يُجبرَون على تجاهل موهبتهم لصالح النجومية، لكن كاثرين هيبورن امتلكت موهبة عظيمة، ولم يستطع أحد إجبارها على شيء أبدًا.

فلم تقف أبدًا في نفس الصف مع باقي نجمات هوليوود، وخرجت عن الصورة التقليدية للممثلات وقتها، فكانت امرأة قوية تملك أمرها، ولم تسمح للمنتجين أو كبار هوليوود بالتحكم بها، وتحديد وجهها الإعلامي.

يُذكر أنها في إحدى المرات جرت حول موقع التصوير في ملابسها الداخلية، في عصر كان التشدد في الحشمة من أهم سماته، والسبب في هذا الموقف أن المنتجين أخفوا بنطالها حتى تخرج للصحافة في فستان نسائي، ولا تشبه الرجال، لكنها رفضت وأصرت على إحراجهم بملابسها الداخلية، حتى أعادوا البنطال لها.

كذلك كانت ترفض لعب الأدوار المعتادة للفتاة الضعيفة، التي يتحكّم بها الرجال، أو تكون الطرف المُذعن أو المطيع في العلاقة مع الرجل، بل صاحبة الحضور الأقوى والطرف المؤثر على الشاشة، كما كانت ترفض أيضًا استخدام مستحضرات التجميل طوال الوقت، وتُفضِّل الظهور بوجهها الطبيعي في المقابلات والحوارات، وخلافًا لأي نجم بالعالم، لم تكن تلك الحوارات واهتمام الصحافة من أولوياتها، وكانت تقول:

إذا اتبعت القواعد دائمًا… فإنك تفقد كل المتعة.

ربما يكون أحد أسباب قوة شخصيتها، أنها من النسل المباشر لـ «إليانور» حاكمة أكويتين وأهم وأقوى امرأة في العصور الوسطى وأوروبا وأم «ريتشارد قلب الأسد» ملك إنجلترا الشهير، حتى أن كاثرين لعبت دور إليانور في فيلم The Lion in Winter، عام 1968، وفازت عنه بالأوسكار الثالثة.

هذه السمات الشخصية مكّنتها من التصرف بحرية ومواجهة العالم بلا خوف، وهي السمات التي اكتسبتها بسبب مساندة عائلتها وتربيتها المختلفة، حيث يصفها أحد النقاد:

لم تجد الأخريات منْ يقف خلفهن، كثير منهم هربوا من الفقر أو لديهم خلفيات بائسة، لكن هيبورن لديها عائلة كبيرة، كانت تتمتع بنعم اجتماعية عديدة؛ فقد كانت من علية القوم.

أيقونة داخل الشاشة وخارجها

لم يتوقف تأثير كاثرين هيبورن على داخل السينما فحسب، بل امتد أيضًا للحياة العامة، وبالأخص إلى عالم الموضة والأزياء، ففي عام 1985 منحها «مجلس مُصممي الأزياء الأمريكي» جائزة تقديرية، اعترافًا بدورها في تطور الأزياء الامريكية.

فمنذ اللحظة التي الأولى التي ظهرت فيها على الشاشة، جعلتها صورتها الفريدة «نجمة سينمائية»، ميّزتها شخصيتها الأنيقة وجسمها النحيف، عن المتعارف عليه وقتها مثل «جين هارلو» و«كارول لومبارد»، لكنها نقلت جوهر جيل جديد من النساء إلى الشاشة، كونها تنتمي لجيل النساء اللاتي فزن بحق الانتخاب لأول مرة، وامتزن بالاستقلالية وقوة الشخصية، فهي امرأة تنظر إلى الحياة مباشرةً في عينيها، لا من خلف رجل.

الأمر الذي انعكس على ملابسها وفلسفة اختيارها، في وقت كان فيه نجوم هوليوود الصورة الأهم للموضة، والجميع ينظر لهم بإعجاب، خصوصًا خلال الحرب العالمية الثانية، حين صارت باريس مدينة الموضة منكوبة، فلعبت الأزياء دورًا أساسيًا في تشكيل مظهر هيبورن، واتضح أنها شاركت بقوة في جميع جوانب ملابسها، وعندما كانت تستعد لدور ما، غالبًا ما تعطي لمصممي الأزياء ملاحظات مكتوبة حول أفكارها للألوان والأقمشة، نظرًا لأن الأزياء ساعدتها في تصوير شخصية الدور، كما قالت مصممة الأزياء «إديث هيد» الحائزة على جائزة الأوسكار ذات مرة:

لا أحد يصمم لكاثرين هيبورن، بل تُصمِّم معها، فهي محترفة حقيقية، ولديها أفكار مُحددة جدًا بشأن الأشياء المناسبة لها، سواء فيما يتعلق بالملابس أو النصوص أو أسلوب حياتها بالكامل.

وقد عملت فقط مع الأفضل، ولم تبخل بالوقت أو المجهود في صالح اختيارات ملابسها، فتقول هيبورن نفسها:

إنني أهتم كثيرًا بملابسي، يمكنني ان أقف لفترة أطول فوق العادي من أي شخص آخر، من أجل المقاسات والتجهيزات من أجل ذلك.

وقد احتفظ هيبورن بمعظم أزيائها على الشاشة، ولم تُفرِّط فيهم أبدًا.

بعد وفاتها عام 2003، تم التبرع بالمجموعة الكاملة لمتحف جامعة كينت، ما يزيد على 1000 قطعة ملابس، يتم عرضهم بشكل مستمر، أو استخدام بعضهم في عروض متنقلة، تكريمًا لدورها في الارتقاء بالذوق العام، وتغيير ملابس المرأة للأبد.

لن ينساها العالم قريبًا

بلا شك، تعد كاثرين هيبورن من علامات السينما، ومن أساطير هوليوود، ليس فقط بالأداء والشخصية، بل بالإنجازات أيضًا، فهي تحمل الرقم القياسي في مرات الفوز بالأوسكار في التمثيل، رجالًا ونساءً، بـ 4 مرات كأفضل ممثلة رئيسية، وحملت أيضًا الرقم القياسي في مرات الترشح لفترة من الزمن بـ 12 مرة، حتى كسرت «ميريل ستريب» رقمها، وحصلت على 21 ترشيحًا.

جدير بالذكر، أن هيبورن لم تحضر حفل الأوسكار أبدًا، إلا مرة واحدة عام 1974 لتكريم صديقها Lawrence Weingarten، مبررة ذلك بأن:

الجوائز لا تعني شيئًا بالنسبة لي، عملي هو جائزتي.

استمرت مسيرتها المهنية على الشاشة لأكثر من 60 عامًا، ما بين السينما والمسرح والتلفزيون، عملت خلالها مع كبار فرسان العصر الذهبي للسينما، أمثال «كاري جرانت» و«جيمس ستيوارت» و«همفري بوغارت» و«شارلتون هيستون» و«هنري فوندا» و«جون واين» و«لورنس أوليفيه» وغيرهم. وفي عام 1999، صنّفها معهد الفيلم الأمريكي كأفضل أسطورة أمريكية في كل العصور.

وقدمت مسيرة مسرحية عظيمة في الخمسينيات، لتنغمس في حبها لشكسبير، حيث لعبت مسرحيات «تاجر البندقية» و«اثني عشر ليلة» و«أنطونيو وكليوباترا»، وكانت تعود إليه على فترات متباعدة.

وفي عام 1981، ختمت مسيرتها بالأوسكار الرابعة عن فيلم On Golden Pond، وكان ظهورها الأخير في فيلم Love Affair، عام 1994، ثم اعتزلت التمثيل حتى توفت عام 2003، عن عمر ناهز 96 عامًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.