(1)

فتح عينيه فغمرتهما المياه، أبقاهما مفتوحتين وحرص أن يبقي فمه مغلقًا وجسده ممتدًّا ثابتًا، رغم عبث الماء به وازدياد ثقله عليه. منذ طفولته وهو يغطس في البحر، يتحدّى الصِبيَة في المكوث أطول فترة ممكنة تحت الماء، ينتصر أحيانًا ويخسر أحيانًا. لكن هذه المرة قرر أن يتحدى البحر نفسه، أن يعرّفه عليه. راودته الخاطرة منذ مدة. لمعت المياه مع شروق الشمس عليه وعلى صاحبه في قاربهما الصغير، فعلِق البريق في ذهنه وتاه فيه، يجب أن يراه من الداخل، هذا البريق، أن يتملّكَه. لا يوجد حال للبحر لا يعرفه، لا يوجد لمياهه لون لم يره من قبل. لكنه المرة أراد أن يمتزج به، علّ اللمعان يلتصق به أو يذوب هو فيه.

سدّد نظره عبر الماء إلى الماء ولم يقدر أن يتجاوزه، أعمته شفافية كثيفة عن أن يراها لكنها أعمته أيضًا عن أن يرى عبرها. وكلما نزل أكثر ازداد عجزه عن الرؤية، وفي الوقت نفسه بدأت تتسلّل إليه حاجة إلى النَفَس، عليه أن يقاوم الآن ليبقى حيث هو، ورويدًا رويدًا تحول ذهنه ومجهوده من التركيز في رؤية الماء إلى التركيز ألّا يغلبه. لحظات، وبدأ في دفع المياه بقدميه ليصعد ويصعد، دون أن يقترب السطح، يجرفه التيار إلى البعيد، ومع هذا أبقى عينيه المحترقتين بالملح مشرّعتين، ولم يرَ بريقًا.

بعد جهد اقترب هو من سطح البحر، فمنعه انقطاع نفسه من الانغماس في بقعة الضوء الآخذة في الاتساع، شكّلتها أشعة الشمس رقيقة على وقع الموج. إن البريق أوضح من خارجه، من البعيد. وصل أذنيه صراخ معلمه مكتومًا.

– عبده… عبده…

(2)

استطاع أن يلاحظ تبدّل ملامح المعلّم عوض من الفزع إلى الغضب، لكنّ الرجل مدّ يده وأعانه على تسلّق القارب الصغير، ولم يقل شيئًا. تناول شبكته ورمى بها إلى البحر دون مساعدة عبد الرحمن أو الحديث معه. فتمالك عبد الرحمن نفسه، ووقف بجانب معلّمه وأمسك بطرف الشبكة.

مرّت ساعة طويلة قبل أن ينطق المعلم عوض:

– ما كان هذا الذي فعلت يا عبده؟

تمهّل عبد الرحمن قبل أن يجيب، يعرفه معلّمه منذ انضم لمساعدته طفلاً في العاشرة، لم يفترقا إلا فترة الجندية أثناء الحرب الكبيرة. وعندما عاد منها مهزومًا وجد معلّمه بانتظاره تمامًا مثلما وجد أهله. فمنذ عودته قبل سنتين وهو يعمل مع المعلّم عوض، يتقاسمان رزقهما الذي يتعبان فيه، لـ عبد الرحمن الثلث ولعوض الثلثان. لم يبقَ من أبناء الأخير في عكا إلا ابنته العزباء، تزوجت ابنتان من خارج عكا، وسافر أولاده الثلاثة واحدًا تلو الآخر إلى بلاد تقع وراء البحر، تسمى تشيلي، يعيشون هناك ميسوري الحال، وله منهم أحفاد لم يرهم. أحدهم يحمل اسمه، وإحداهم تحمل اسم «تيريز» زوجته.

لن يقدر على مراوغة الشيخ الكبير وهو لا يريد أيضًا، فطال الصمت ولم يستعجله المعلّم عوض بل استطرد قائلاً:

– كنت تريد قتل نفسك؟

– أعوذ بالله، لا أفعلها.

– لم تكن بعيدًا عن هذا، وأنت أخبر الناس بخطر ما فعلته. نزلت ولم تخرج، وظننتُ أنك لن تخرج أبدًا. تكلم عبده، قل.

لم يرِدْ عبد الرحمن أن يتكلم. رأسه مليء بكل ما لم يقله منذ عاد، لكنه لم يرد أن يتكلم. في الحرب تعلم الصمت، وفقد اللهفة. بقي صامتًا يوم عاد الى بيت أهله ويوم عاد أخوه ولم يعد الأخ الآخر، ويوم زواجه من خالدة. تنازعته يومها خيالات مختلفة، اختلطت بأهازيج العُرس والزفاف والدخلة. هاجمته في غير موعدها، فهو موعد مؤجل منذ عقد قرانهما قبل رحيله إلى الحرب، رأى خالدة مرة واحدة ورأته وانتظرته.

– سرحتَ من جديد يا عبده، شد حيلك وأنت مثل اللوح.

ثم خفّف من لهجته:

– لم تحبل خالدة؟ هذا هو السبب؟ يا ولدي لكل مشكلة حل، تكلم.

رفع عبد الرحمن ظهره المحنيّ وحوّل نظره من البحر إلى عينيّ المعلًم عوض:

– لِمَ تقول هذا؟ من قال إنه توجد مشكلة؟

– لا أحد يا عبده… لا أحد.

(3)

يحب عبد الرحمن المعلّم عوض كأبيه، يحبه كالبحر الذي يخوضانه كل يوم من أيّام السنة عدا أيّام الأعياد وأيّام العواصف. لكن كيف يصف له ما يجول في خاطره؟ لو عرف لقال له، لو فهم لشكا له. من أين يبدأ وأين ينتهي؟ في أول عودته، كان يجالس الصيادين والناس في المقاهي ويسمع قصص الحرب. لكنه لم يشارك بأية حكاية من حكاياته، لم تكن لديه حكايات بعد. وبالتدريج وبعد أن زوّجوه، انسحب من كل المقاهي، ولم يبق له إلّا المعلّم عوض وخالدة، وبدأت الحكايات تتضح في خاطره.

أخذ المعلّم عوض يشدّ الشبكة فشدّها معه، عَلِق بها سمك كثير، فتهلّل وجه معلّمه كما يحصل كل يوم:

– رضا، الحمد لله.

وبدأ عوض يخلّص السمك من الشبكة ويرميه في الحوض الصغير بقربه، فتَبِعه عبد الرحمن، يخلّص السمك ويرميه في البحر، حتى انتبه له المعلم عوض:

– قد جُننت، أي والله أنت مجنون. ماذا تفعل يا عبده؟ ترمي السمك؟ قوتي وقوتك؟

شدّ الشبكة من يده فشدّها عبد الرحمن وكل منهما يحاول تخليص السمك. واستمر عوض يصرخ عليه وتسارعت كلماته وتوالت شتائمه حتى تعب، فرفع يده عن الشبكة مُبقيًا بضع سمكات ناجيات في يد صَبيِّهِ.

يوم بغيض آخر، الآن كلاهما صامت. المياه هادئة والقارب كأنه متسمّر فوق نقطة معينة لا يتحرك منها، أو هكذا بدا لهما.

– أنت شاب يا عبده، الحياة مفتوحة أمامك مثل هذا البحر.

حدّق عبد الرحمن بالأفق، ليس باتجاه البعيد لكن باتجاه عكا، صاحبة السور القديم. من ولد قبل الآخر هو أم السور؟ هم أم السور؟ وراءهم حرب وأمامهم حرب. سحبوه عنوة وهو في العشرين أو يكاد، هو واثنين من إخوته للجهادية، هم والكثير من فقراء البلد. اغتر الضابط بطوله وعرضه، ففرّقه مباشرة عن إخوته وأخذه لتدريبات السلاح في فرقة مواجهة. لم يسعفه رجاء شقيقيه أن يبقى معهما أو مع أحدهما، فهو لا يعرف إلّا البحر وأهله. فكان عليه أن يعتاد غمز الجنود ولمزهم، لا رحمة بين رجال انتزعوا لحرب صدقوها ولم يفهموها.

وقتها لم يكن يفهم عكا، لم يكن مثل إخوته أحمد وسليم. فرغم فقرهم برزوا شبابًا أشداء، وقد انتبه أحمد مبكرًا لاختلاف عبد الرحمن عنهم، وكان يقول له إنّ طول يديه ورقة عظمه أخذتا من عقله. لكنهم حموه، والمعلّم عوض أحبه كولده وعلّمه حب البحر.

أمّا في الحرب، فلم تكن حماية ولا حب، تعلّم في أرضها ما لم يتعلمه في كل سنواته التي سبقتها. مع التدريب أصبح جنديًا صالحًا وشجاعًا، لم يكن يعرف دائمًا أين هو، ولكنه كان دائمًا يحارب من أجل بلاد المسلمين وسلطانهم، ويتّبع التعليمات ويخاف الموت. يخاف الموت ويرقبه، يقطف أترابه وأعداءه، سنة بعد سنة. لم يميز في البداية جولات الهزيمة من جولات النصر، ثم تراكمت الهزائم فأصبح يعرفها واعتادها. وفي الهزيمة الأخيرة، لم ينج إلّا هو وثلاثة آخرون، تخبّأ من الموت الذي جال أرض المعركة قويًا قاسيًا. راقبه من مخبئه أسود وأحمر، يسقط من السماء ويخرج من الأرض. فخرجت روحه إليه، مجذوبة لقوته هاربة من هلعه هو.

رافق الثلاثة الآخرين في طريق العودة، كل واحد منهم يسعى إلى بلده. وبعد أسبوع وجدوا نبع ماء فاستحموا فيه. تلقّى نظراتهم نحوه بصمت، أمّا نظراتهم الباسمة إلى بعضهم فأغضبته، بعد أربع سنين من النظرات الباسمة، غضب. فما كان منه إلا أن مد يديه نحوهم واحدًا تلو الاخر، ورماهم عراة بقوة إلى أرض الجدول المليئة بالحجارة والصخور.

لبس زيّه المهترئ، إنه في ريف حلب، هو يعرف أين حلب وسيصل إلى عكا وحده. وعندما وصلها، كان الإنجليز قد سبقوه إليها، وجعلوا السلطان ذكرى بين الناس، ولا أبطال عائدون من الهزائم. لكنّ الناس فرحوا لانقضاء شظف الحرب وانفراج البحر وعودة الغائبين. عاد هو وأحمد دون سليم. ودخل على خالدة، ورجع الى البحر.

(4)

– سامحني أبو الناجي، أنا لا أعرف ما يحدث معي.

– سمعت بالدكتور داوود، اذهب إليه أو ابعث امرأتك، الطب تقدم.

– خالدة ليست بحاجة. وأنا أعرف ما عندي. ومن أجل ماذا؟ لإنجاب الأولاد؟

توقف قليلاً ثم أكمل بصوت منخفض:

– ها أنت وحدك يا معلّم عوض وقد أنجبتَ، والبلاد تتسلم من يد ليد إلا أيدينا ونحن ننجب. لست وحدي العاجز.

نظر إليه معلّم عوض غاضبًا:

– يعني نموت؟ نسلم الإنجليز واليهود أرضنا؟ سمعت عن بلفور؟ ماذا يقول أحمد؟ هل يعرف ما تقوله، وهو يصول ويجول في الجرائد كل مساء في المقهى؟

– أحمد؟ هو يسألني كل يوم إن كانت خالدة حبلى؟

وقف عبد الرحمن ورمى الشبكة في البحر، فوقف عوض قربه ناظرًا إلى البعيد، وللحظة اختلطت عليه الاتجاهات، ولم يعد متأكدًا إن كان ينظر شرقًا أم غربًا. شعر بالدوار فجلس في أرض القارب واضعًا رأسه بين يديه. مر بعض الوقت حتى نبّهه عبد الرحمن:

– ربنا عوّض، هذا صيد وفير.

– لنرجع، يكفي اليوم.

بعد برهة من تحويل وجهة القارب باتجاه المدينة، لاح السور القديم بفتحاته التي كانت تطل منها المجانق يومًا، والآن يطلّ منها أطفال عابثون أو جنود مهزومون أو زوار عابرون أو زوار مقيمون. تأخّر وقت عودتهما يومها عن كل يوم، ووقفت الشمس عامودية لاسعة فوق رأسيهما، تُذكِّرهما أنها ستشرق غدًا.

– سنخرج مبكّرًا في الغد يا عبده، بعد آذان الفجر.

تمت

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.