اندلعت أزمة دبلوماسية كبيرة بين كندا والهند بسبب اتهام الأخيرة باغتيال ناشط معارض لها يقيم على الأراضي الكندية، في يونيو/حزيران الماضي.

ففي 18 سبتمبر/أيلول، أعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، أن بلاده تحقق في «اتهامات معقولة» بشأن احتمال تورط عملاء لنيودلهي في مقتل هارديب سينج نيجار، وهو ناشط من طائفة السيخ، وذلك بعد أن تنصتت أجهزة الأمن في كندا على اتصالات دبلوماسيين هنود لديها، وحصلت على معلومات استخبارية من تحالف استخبارات العيون الخمس، الذي يضم أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

ولا يرغب أعضاء هذا التحالف الاستخباري في أي صدام مع الهند التي تؤازرهم في جهود احتواء الصين، لكن الحادث تعلق بالسيادة الوطنية لكندا، وكذلك عندما اكتشفت أوتاوا أن دولة صديقة متورطة في الاغتيال، تعامل مسؤولوها مع القضية بشكل مختلف خلال اتصالاتهم مع الحكومة الهندية خلال الأشهر التالية للحادث، لكن عندما وصلت القصة للإعلام قررت حكومة ترودو نشرها بشكل استباقي.

وفي اليوم نفسه، طردت الخارجية الكندية دبلوماسيًّا هنديًّا، كما تم تعليق إرسال وفد تجاري كندي كان من المقرر أن يزور الهند في أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

وردت الهند بطرد دبلوماسي كندي، وبعد يومين، علقت جميع خدمات تأشيراتها في كندا، بدعوى أن أمن بعثاتها الدبلوماسية هناك في خطر، وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت نيودلهي أن 41 من أصل 62 دبلوماسيًّا كنديًّا في الهند لديهم أسبوع واحد لمغادرة البلاد.

وسبق أن اتهم رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، وحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، كندا بالتقاعس عن التعامل مع التطرف لدى الجالية السيخية لديها، بما يشكل تهديدًا للأمن القومي الهندي.

وعلى الرغم من أن مودي لم يناقش علنًا الخلاف المتزايد مع أوتاوا، فقد وصفت السلطات الهندية كندا بأنها «ملاذ آمن للإرهابيين»، وهاجم السياسيون الهنود موقف ترودو، معتبرين أنه يتهم بلادهم دون دليل بهدف كسب أصوات الناخبين السيخ.

ويبلغ عدد السيخ في كندا حوالي 2 بالمائة من إجمالي سكان البلاد، أي نحو 800 ألف نسمة، ويعد وجود هذه الجالية وأنشطتها من الأمور التي توتر العلاقة بين البلدين من فترة طويلة؛ ففي عام 1985، انفجرت طائرة تابعة للخطوط الهندية كانت متجهة من كندا إلى نيودلهي، مما أسفر عن مقتل جميع ركابها، وكان كل المتهمين من الهنود السيخ حاملي الجنسية الكندية، وطلبت نيودلهي تسليمهم دون جدوى، وتمت تبرئة اثنين منهم، وفي عام 2016، أطلقت كندا سراح الشخص الوحيد الذي أدين في التفجير، وظلت هذه القضية تعكر العلاقة بين الطرفين.

وبالنسبة لحكومة اليمين المتطرف بزعامة ناريندرا مودي، فإن هناك دوافع محلية لمعاملة كندا بحزم وشدة، فهذا الأسلوب ينال إعجاب جمهوره اليميني المتشبع بمقولات العظمة القومية.

من هو سينج نيجار؟

يعد هارديب سينج نيجار من أبرز رموز حركة خالصتان الانفصالية المحظورة في الهند، وكان مطلوبًا من قبل السلطات الهندية بتهمة الإرهاب، وحذرته السلطات الكندية ثلاث مرات على الأقل، وأبلغته بوجود تهديدات حقيقية على حياته.

 وصنفته نيودلهي كإرهابي عام 2020، وعرضت مكافأة قدرها مليون روبية لمن يدلي بمعلومات تؤدي لاعتقاله، واتهمته وكالة التحقيقات الوطنية الهندية بالوقوف وراء جماعة مسلحة محظورة تدعى «قوة نمور خالصتان»، تسعى إلى «تطرف مجتمع السيخ في جميع أنحاء العالم» لدعم تأسيس وطن للسيخ على بعض أراضي الهند.

وكان الرجل الهندي المولد البالغ من العمر 45 عامًا عند اغتياله،  يمتلك شركة لأعمال السباكة في كندا، وترأس معبدًا سيخيًّا في ضواحي مدينة فانكوفر،  وحفلت واجهة المعبد بلافتات تدعو لإجراء استفتاء على استقلال مناطق السيخ عن الهند، واجتهد في حشد قوى الطائفة لتنظيم الاستفتاء غير الرسمي، بين المهاجرين في الخارج.

حركة خالصتان

تعني خالصتان «الأرض الخالصة» أي «الصافية»، وتشير في الأيديولوجية السياسية السيخية إلى وطن السيخ المستقل، والسيخية هي ديانة يمارسها 23 مليون شخص في الهند وثلاثة ملايين آخرين حول العالم، ظهرت في القرن الخامس عشر في منطقة البنجاب في شمال الهند، التي كان يحكمها المغول المسلمون آنذاك.

وتم استحداث هذه الديانة على يد المفكر الهندي غورو نانك (توفي عام 1539)، بهدف التقريب بين مبادئ الهندوسية والإسلام، وفي عام 1710، استولى السيخ على سيرهيند، أقوى مركز إداري مغولي بين دلهي ولاهور تحت قيادة باندا سينج بهادور (توفي عام 1716)، وأنشأوا مملكة خاصة بهم، لكنها لم تدم طويلًا، وأعيدت المحاولة في أوائل القرن التاسع عشر في صورة مملكة المهراجا رانجيت سينج (توفي عام 1839)، لكن تم القضاء عليها على يد البريطانيين عام 1849.

اقرأ أيضًا: السيخية: ديانة هندوسي طاف بالكعبة

وفي المفاوضات المطولة التي سبقت تقسيم الهند بين المسلمين والهندوس عام 1947، برزت فكرة إنشاء دولة سيخية مستقلة، لكن قلة عدد الطائفة جعلت هذا الاقتراح غير قابل للتطبيق، وتم احتساب مناطقهم مع الهندوس عند التقسيم، فارتكبوا مجازر مروعة بحق السكان المسلمين في إقليم البنجاب الذي تم اقتسامه بين الهند وباكستان، وهاجر السكان بين جانبي الإقليم وفقًا لأديانهم.

وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ظهرت حركة سيخية انفصالية عنيفة أصابت البنجاب الهندي بالشلل لمدة عقد من الزمن تقريبًا، تحت قيادة جارنايل سينج بهيندرانويل، وهو قيادي عارض سياسة التفاوض على مطالب الطائفة سلميًّا مع الحكومة المركزية، وأصر على أن السلطة السياسية في البنجاب حق من حقوق السيخ، وليست هدية من نيودلهي.

وقاد حملة عنيفة من أجل الحكم الذاتي لولاية البنجاب، ووقعت مواجهات مع الجيش الهندي في عهد رئيسة الوزراء، أنديرا غاندي، في أوائل يونيو/حزيران 1984، واقتحمت القوات الهندية المعبد الذهبي في أمريتسار، لطرد بهيندرانويل وأنصاره الذين كانوا مختبئين فيه، ودمر الهجوم جزءًا كبيرًا من المعبد مما أثار غضب السيخ على نطاق واسع.

ووفقًا للسلطات الحكومية، قُتل مئات الأشخاص في هذه العملية، ومن ضمنهم بهيندرانويل، لكن السيخ يقولون إن عدد القتلى أعلى بكثير، وربما يصل إلى ثلاثة آلاف، وبعد أشهر، قُتلت غاندي على يد حراسها من السيخ.

وبعد تلك الواقعة تراجعت حركة خالصتان داخل الهند في التسعينيات، لكن مؤخرًا تجددت مطالب السيخ بإقامة دولة مستقلة، ومن أبرز قادتهم الحاليين، أمريتبال سينج (30 عامًا) الذي تتبع خطى بيندرانويل، وتشبه به في ملابسه، وقيل إنه أجرى عملية تجميل في جورجيا عام 2022 ليصبح أكثر شبهًا به.

وهاجم سينج وأنصاره المسلحون بسيوف وسكاكين وبنادق، مركزًا للشرطة في شباط/فبراير بعد اعتقال أحد مساعديه بتهمة الاعتداء ومحاولة الاختطاف، وحاولت السلطات بعد ذلك اعتقاله في منتصف آذار/مارس، لكنه تمكن من الفرار على دراجة نارية بعد تغيير ملابسه في غوردوارا، لكن الشرطة الهندية تمكنت من اعتقاله في أبريل/نيسان الماضي بعد مطاردة استمرت أكثر من شهر، وأدت إلى احتجاجات وأعمال تخريب من قبل أتباعه في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة.

وتقول العديد من منظمات السيخ في الخارج إن الحكومة الهندية تساوي حركة خالصتان كذبًا بالإرهاب، وتقول إنها ستواصل الدعوة سلميًّا إلى إنشاء وطن منفصل.

وتجدر الإشارة إلى أن المخطط التوسعي لحركة خالصتان لا يقتصر على غرب الهند فقط، بل يشمل إقليم البنجاب الباكستاني الذي يعد أكبر وأهم الأقاليم في ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم، لكونه يضم البقعة التي ولد بها غورو نانك مؤسس الديانة، ويضم معبد غورداوارا داربار المقدس لدى الطائفة.