في سنة 292هـ عادت مصر إلى الخلافة العباسية بعد سقوط الدولة الطولونية، غير أن ذلك لم يمح من ذاكرة المصريين تلك الأيام الزاهرة التي عاشوها في كنف هذه الدولة، لذا حلموا بإحيائها، وتلقفوا أي محاولات لدعمها وإضفاء البعد القومي عليها، بخاصة في ظل ما لاقوه من أهوال وتنكيل على يد العباسيين بعد دخول مصر.

ولم يمر وقت طويل حتى وجد المصريون ضالتهم في شاب يُدعى محمد بن علي الخلنجي، الذي قاد حركة للانفصال عن الدولة العباسية واستقل بمصر وحكمها لمدة تقرب من ثمانية أشهر، رافعًا شعار إعادة مجد الدولة الطولونية، فانحازوا له بكل طوائفهم آملين في إعادة دولة طولون.

تنكيل العباسيين بالمصريين

تذكر الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف في كتابها «مصر في عصر الإخشيديين»، أن سقوط الدولة الطولونية كان على يد القائد العباسي محمد بن سليمان الكاتب الذي دخل الفسطاط عام 292هـ، ودعا على المنابر للخليفة المكتفي بالله، ثم أمر بإحراق القطائع وأطلق سراح المسجونين  ونهب جنده مدينة الفسطاط، واستباحوا النساء وأتوا من الفظائع والمنكرات ما تقشعر له الأبدان.

بل إن ابن سليمان نفسه كان مضرب المثل في أخذ المصريين بالشدة والقسوة، ويكفي الإشارة إلى ما رواه المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي في هذا الصدد بكتابه «النجوم الزاهرة»، فذكر «كان محمد بن سليمان حكمه في أهل مصر يضرب أعناقهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم جورًا، وتمزيق ظهورهم بالسياط، وصلبهم على جذوع النخل، ونحو ذلك من أصناف النكال، وما زال على ذلك حتى رحل عن مصر في يوم الخميس مستهل شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين ومائتين».

وإذا جاز تفسير هذا العنف بأنه من الظواهر التي تصحب فترات الانقلاب، لكنه يشير أيضًا إلى أن المصريين كانوا لا يزالون يؤثرون حكم بني طولون على حكم الولاة التابعين للدولة العباسية تمامًا، الذين لم يكن لهم أي حظ من الاستقلال. وهذا الشعور يمكن استنباطه من لهجة المؤرخين المصريين، لا سيما ابن تغري بردي، في استهجان الفظائع التي ارتكبها جنود محمد بن سليمان.

حركة الجنود

بعد أن انتقل الحكم في مصر من الطولونيين إلى العباسيين على يد ابن سليمان، ورد كتاب الخليفة المكتفي بولاية أبي موسى عيسى بن محمد النوشري عليها.

والنوشري من القواد الذين أتوا إلى مصر مع ابن سليمان للقضاء على الدولة الطولونية، وبعد أن أتم زوال هذه الدولة خرج (أي النوشري) نحو العراق، ولكنه لم يكد يصل إلى دمشق مع جنده وبعض فلول الجيش الطولوني حتى وافاه كتاب المكتفي بولايته على مصر، فسلّم ما غنمه في مصر من مال وخيل ومنسوجات نفيسة ثم عاد إليها، بينما غادر ابن سليمان إلى الشام مع جنده.

في تلك الأثناء، بادر بالانفصال عن ركب الجنود ضابط من الجيش الطولوني اسمه ابن الخليج، أو إبراهيم الخليجي، أو محمد بن علي الخليج، أو محمد بن علي الخلنجي. والتف حول هذا الضابط عدد كبير من الجند والضباط الذين كانوا في خدمة بني طولون قبل زوال دولتهم، والذين كانوا لا يزالون يذكرون عظمة هذه الدولة ويكرهون أن يغادروا مصر ويخشون ما كان ينتظرهم في العراق. وكان ابن الخليج من صغار الضباط في قسم من الجيش الطولوني يرأسه القائد صافي الرومي الأصل، ولا توجد معلومات كافية عن نشأته أو نشاطه آنذاك.

والتف حول ابن الخليج كثير من الجنود والضباط وبايعوه قائدًا عليهم، وعقدوا العزم على إحياء الدولة الطولونية، وانضم إليهم أنصار جدد، ويمم الجميع شطر مدينة الرملة في فلسطين فهزموا واليها وصيف بن صوارتكين الأصغر، وأمر ابن الخليج بالدعوة على منابرها في يوم الجمعة للخليفة العباسي بصفته زعيمًا دينيًا للدولة، ومن بعده لإبراهيم بن خمارويه بن طولون بوصفه أميرًا وواليًا لمصر، ومن بعدهما لنفسه بوصفه نائبًا عن إبراهيم.

والواضح أن ابن الخليج أراد أن يبعث دولة الطولونيين وأن يحتفظ بالتبعية الاسمية للخلافة العباسية، ومع ذلك فإنه بمثل هذا العمل في تلك الظروف كان معناه الخروج على الخليفة. وبحسب «كائف»، لا يمكن الجزم إن كان ابن الخليج مخلصًا في دعواه لبني طولون، أم كانت دعواه لإبراهيم بن خمارويه (الذي كان حينئذ أسيرًا في بغداد) ستارًا لمطامعه الشخصية.

البحث عن شرعية

ويرى شافي عبداللطيف بشارات في دراسته «الدولة العباسية في عهد الخليفة المكتفي بالله علي بن أحمد 289 – 295هـ / 902 – 908م»، أن الخليجي أراد من الدعاء للخليفة العباسي وابن خمارويه ولنفسه، أن يظهر تبعيته لكل من الخلافة العباسية والطولونيين، ويبدو أنه أراد بذلك أن يحد من رد فعل العباسيين تجاهه عن طريق اعترافه بشرعيتهم، وأن يُبعث لهم برسالة مفاداها أنه مجرد تابع لهم، حتى يبدد من مخاوفهم نحوه، ويحول دون قيامهم ولو مؤقتًا بأي عمل عسكري ضد ثورته الوليدة.

ومن جهة أخرى، نصب الخليجي نفسه على الحق الطولوني في حكم مصر ريثما تنبعث دولتهم من جديد، وذلك بأن دعا لإبراهيم بن خمارويه مع الطولونيين الذين سبق لهم أن خبروا دولتهم جيدًا، مستغلًا في الوقت نفسه حجم المعاناة الكبيرة التي تعرضوا لها من الجيوش العباسية أثناء قيامها بإنهاء الحكم الطولوني في الشام ومصر، وبذلك يكون الخليجي قد أعطى لنفسه صبغة شرعية عن طريق الجمع بين الولاء للعباسيين والطولونيين، وأظهر بأنه لا أطماع خاصة له في الحكم.

وبحسب «بشارات»، سرعان ما أثبتت سياسة الخليجي فعاليتها وجدواها، إذ توافد إليه الناس بأعداد كبيرة من دون أن يبذل دينارًا واحدًا، لما ذاقوه من ويلات تبعات السيطرة على بلادهم من قبل العباسيين.

هزيمة العباسيين ودخول مصر

ومهما يكن من أمر، فقد أعجب كثير بشجاعة الخليجي وإقدامه، فزاد عدد أنصاره، ولما علم الوالي عيسى بن النوشري بخروج ابن الخليج جهز جيشًا لمقابلته على حدود مصر الشرقية، والتقى الجيشان عند غزة وكان النصر لابن الخليج، فاتجه إلى العريش ثم إلى الفرما وتتابعت انتصاراته على فلول الجيش المنهزم، بحسب ما روت «كاشف» في كتابها.

واضطر النوشري إلى إعداد جيش آخر ضخم العدد والعدة، وسار على رأس هذا الجيش إلى مدينة العباسة (شمال شرقي بلبيس بمحافظة الشرقية الآن) لملاقاة ابن الخليج، ولكنه هُزم، فلم يجد بدًا من الجلاء عن الفسطاط ونزل بجيشه عند الجيزة.

ودخل ابن الخليج مدينة الفسطاط، فأحسن الشعب استقباله ودعا له الإمام على المنبر بعد الخليفة العباسي وإبراهيم بن خمارويه، وعمل على تهدئة الأمور والقضاء على الفوضى في البلاد.

إدارة الدولة

ويذكر الدكتور وفاء محمد علي في كتابه «صفحات من تاريخ العباسيين»، أن دخول ابن الخلنجي الفسطاط أنعش الأمل في قُرب عودة دولة الطولونيين مرة أخرى، وكان سرور المصريين بذلك شديدًا، وذلك لأنهم لم ينسوا أيام بني طولون المجيدة، وفي فورة تحمسهم له تزينوا له بالزعفران، وحلقوا وجه دابته ووجوه دواب أصحابه فرحًا بهم.

واستقر الخلنجي في مدينة الفسطاط بعد أن اطمأن على توطيد مركزه في الفسطاط والدلتا، حتى إنه بدأ في توزيع مناصب دولته من وزارة وخراج وشرطة، واستشعر الناس قرب عودة بني طولون، فالتفوا حوله وأقبلوا عليه من جميع البلدان، حتى بلغت عساكره خمسين ألفًا.

وبحسب «علي»، واجهت محمد بن علي الخلنجي صعوبة الحصول على الأموال لسد احتياجات رجاله، وصرف أعطياتهم، بخاصة أن عيسى النوشري وعامل الخراج في مصر الحسين بن أحمد الماذرائي المعروف بأبي زنبور تمكنا من إيقاعه في تلك المشكلة، حين أخفيا الأموال المجموعة من الخراج، وكذلك أخفيا الدفاتر التي تسهل على ابن الخلنجي معرفة أصول الأمول في الضياع، وذلك حتى لا يتمكن من مطالبة أهل الضياع بما عليهم، كما أن ابن زنبور حمل معه كذلك جماعة من الكُتاب حتى لا يطالبوا بما عليهم من الأموال، ولكن ابن الخلنجي نجح في العثور على بعض الكتاب الذين كانوا على علم ودراية بأمور الخراج والدواوين.

ومع ذلك فإن هذا الوضع الاقتصادي الحرج اضطر ابن الخلنجي إلى اللجوء لبعض أعمال الظلم والجور، فصادر أعيان البلد، فلقي منه الناس شدائد، إلا أنه كان إذا أخذ شيئًا من أحد أعطاه ما يثبت ذلك، ووعده بأن يرد له ما أُخذ منه أيام الخراج.

هزيمة الخلنجي

في هذه الأثناء أراد الخلنجي التخلص من الوجود العباسي بأقصى سرعة، فوجه بخفيف النوبي أحد قواده لمحاربة النوشري، ولم يثبت النوشري أمام النوبي، واضطر للرحيل إلى الإسكندرية ثم تروجة (قرية في البحيرة)، فسار وراءه النوبي في حين تابع الخلنجي إمداده بالنجدات والمؤن، ولكن عيسى قتل من جنده عددًا كبيرًا، فاضطر خفيف إلى الانسحاب إلى الفسطاط بينما توجه النوشري إلى الصعيد، بحسب ما روى «علي».

وأمام هذا الموقف المتأزم في مصر أرسلت الخلافة قوات برية وبحرية لتعضيد النوشري ومؤازرته برًا بقيادة أبي الأعز خليفة بن مبارك السلمي، وبحرًا بقيادة دميان الصوري المعروف بـ«دميانة»، وهكذا أصبح الأمر في غاية الخطورة بالنسبة لابن الخلنجي أمام جيش الخلافة وأسطولها القادمين من الشمال، وجيش عيسى النوشري المتحفز في الصعيد.

غير أن ذلك لم يفت في قوة الخلنجي الذي صمم على محاربة العباسيين حتى النهاية، فخرج لملاقاة الجيش القادم بقيادة أبي الأعز، والتقى به عند العريش، وتمكن الخلنجي من هزيمته في محرم سنة 293هـ، كما تمكن من أسر عدد كبير من جنوده، ثم واجه بعد ذلك جيشًا عباسيًا آخر تحت قيادة فاتك المعتضدي برًا، وقوات دميانة بحرًا، وتمكن فاتك من هزيمة جيش الخلنجي عند النويرة (في بني سويف حاليًا) بعد مقاومة باسلة، وبعد أن التقى بجيش فاتك أكثر من مرة.

واضطر ابن الخلنجي إلى الانسحاب إلى الفسطاط، وفي أثناء ذلك دخل دميانة بمراكبه، ورأى الخلنجي أن وقائع الحرب بدأت تدور في غير صالحه، وزاد من سوء موقفه سوء الأحوال في مصر لكثرة الحروب، حتى أجدبت البلاد، وارتفعت الأسعار، وحصل غلاء عظيم.

وفي النهاية، اضطر ابن الخلنجي إلى الاختفاء في منزل رجل يقال له «تريك» الذي وشى به لدى العباسيين فتم القبض عليه، وأرسل إلى بغداد ومعه ثلاثون نفرًا من أتباعه بعد أن تمكن من حكم مصر سبعة أشهر واثنين وعشرين يومًا، فنكل به الخليفة كما نكل بأصحابه، وأمر بتشهيرهم على الجمال، ثم أمر بقتله، لتنتهي بذلك تلك المحاولة لإعادة الدولة الطولونية التي كلفت الخلنجي حياته، وكلفت المصريين الذين التفوا حوله وآزروه – حبًا في الدولة الطولونية – الكثير، غير أن الأمر لم يخل من دلالات وتداعيات لاحقة.

ويذكر «علي»، أن ثورة ابن الخلنجي التي كانت قاب قوسين من تحقيق أهدافها تدل دلالة واضحة على شدة ضعف العباسيين آنئذ، وعجزهم عن التمكين لسلطانهم، وليس أدل على ذلك من أن سنة 292هـ شهدت أربعة ولاة لمصر هم: شيبان بن أحمد بن طولون، ومحمد بن سليمان الكاتب، وعيسى النوشري، ومحمد بن علي الخلنجي.

 ولعل أبرز آثار هزيمة المصريين في عودة دولة بني طولون هو استياؤهم من الخلافة العباسية، ذلك الاستياء الذي دفعهم على طريق آخر في ما بعد، تمثل في تجاوبهم مع النفوذ الفاطمي الذي ظهر في بلاد المغرب. وكان الفاطميون لا يعترفون للعباسيين بأحقيتهم في الخلافة لا من الوجهة السياسية، ولا من الوجهة الدينية.

القضاء على فلول الخلنجي

على كلٍ، عاد عيسى النوشري لولاية مصر، وبدأ بضبط شؤونها  وإصلاح أحوالها، وتتبع قادة الخلنجي وجنده وأنصاره وكُتّابه، فتمكن من القبض على أكثرهم، وفي شهر رمضان 293هـ وفدت كتب عيسى على الخليفة تبشره باستقرار الأوضاع في مصر، وبأن نفوذ دولته عمّ أنحاء الولاية، ذكر «بشارات» في دراسته المذكورة آنفًا.

وخلال هذا الشهر شُرع بهدم ميدان أحمد بن طولون بأمر من متولي الخراج الحسين بن أحمد الماذرائي، ثم بيعت حجارته بعد ذلك. وقد سبق للعباسيين أن أحرقوا فيما مضى مدينة القطائع التي كانت بمثابة عاصمة إدارية للطولونيين ولحق بها الخراب إثر انقضاء حكمهم.

وبحسب «بشارات»، لعل العباسيين أرادوا بذلك محو أي أثر للطولونيين في مصر من شأنه أن يبعث في ذاكرة المصريين مشاعر الحنين والاعتزاز بهذه الأسرة التي عاشوا في كنفها أزهى فتراتهم خلال الحكم الإسلامي، وبالتالي قد تُترجم هذه المشاعر إلى أفعال حقيقية على أرض الواقع، كما حدث مع ثورة الخليجي التي اتخذت من شرعية الطولونيين وشعبيتهم غطاء للثورة على الحكم العباسي.