لم ينتهِ الجدل حول قرار الإدارة الأمريكية تأجيل البت في قرارها بشأن الرفع النهائي والتام للعقوبات على السودان، حتى اندلع جدل حول السودان أيضًا مرة أخرى، ولكن هذه المرة حول تقرير للخارجية الأمريكية يقر بتعاون السودان في مجال مكافحة الإرهاب، غير أنه باقٍ في قائمة واشنطن للدولة الراعية للإرهاب، بجانب كوريا الشمالية، وإيران، وسوريا.


ابتذال شعارات حقوق الإنسان

على ما يبدو، سيظل السودان حالة نادرة في أنماط تعاطي الدبلوماسية الدولية، أو بعض الدول الكبرى مع بعض القضايا، فهو بلد خاضع لعقوبات دولية قاسية لعقود، وهو مدرج على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، كما يظهر أيضًا ضمن تقارير الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر، بجانب قوائم دولية أخرى تمتد من مكافحة الفساد إلى حرية الإعلام وحقوق الإنسان.. إلخ.

كما أنه بلدٌ، ورغم وضعيته تلك، تتسابق الدول الكبرى – وكذلك القوى الإقليمية- للتعاون معه فى العديد من القضايا الحيوية بالنسبة لتلك الدول.

أكثر من ذلك، ربما يكون السودان من الحالات النادرة في العالم اليوم التي يتنقل فيها بلد من موقف إلى نقيضه ويكون نظامه عابرًا لسياسات وتقلبات دولية وإقليمية عديدة مرّ بها، بل تتنافس القوى الخارجية للتعاون معه، وهو كذلك البلد الذي تتركز جهود دبلوماسية دولية كبيرة تشمل مجالات السلام والنزاع والتنمية والقضايا الإنسانية والإرهاب والتطرف.. إلخ.

الأهم هنا، أنه البلد الوحيد الذي تمت محاولة «تجريب» بعض شعارات وآليات حقوق الإنسان ونقيضها، كالمحكمة الجنائية الدولية، ومسئولية الحماية والتدخل الإنساني، والإبادة والتطهير العرقي، علاوة على ابتذال تلك الشعارات وفق الأجندات السياسية للدول الكبرى.


جدل قائمة الدول الراعية للإرهاب

مؤخرًا، سيطرت على الساحة قضية رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان من العام 1997، وكذلك استمرار إدراجه على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993، بعد أن أصدرت الخارجية الأمريكية، الأربعاء (19تموز/يوليو)، تقريرها السنوي عن الإرهاب، والذي أقر بتعاون السودان الوثيق مع واشنطن في هذا الموضوع. حيث قال التقرير إن «مكافحة الإرهاب أصبح أولوية أمنية للسودان، وبات شريكًا متعاونًا مع الولايات المتحدة في مكافحته رغم وجوده على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب»، ورغم هذا الإقرار ظل السودان مدرجًا على قائمة الدول الراعية للإرهاب!.

وباتت مسألة التعامل مع السودان تثير النقاش الجدل، وتتسبب في انقسام المواقف هناك. ويُظهر تأجيل واشنطن البت في رفع العقوبات وإقرارها بتعاونه في هذا الصدد، مدى الانقسام داخل واشنطن، وداخل إدارة ترامب بشكل خاص، كما يعكس كذلك التناقض الذي يحكم توجهات واشنطن.

وتواجه واشنطن أمام مأزق كبير في التعامل مع السودان؛ إما أن تتخذ قرارًا نهائيًا برفع العقوبات عن السودان وشطبه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومواجهة الضغوط التي ستتبع ذلك القرار، أو اتباع سياسة المماطلة والتسويف ودبلوماسية الوعود تجاه السودان من خلال تمديد قرار رفع العقوبات مرة ومرات، وهذا بدوره سيجعل الخرطوم تراجع التزاماتها تجاه واشنطن، مما سيترتب عليه تداعيات على المصالح الأمريكية، فضلاً عن الحرج الذي يشعر به الأمريكيون عندما يجلسون على طاولة الحوار مع نظرائهم السودانيين.


دبلوماسية الوعود والتمديد

هناك دوائر أمريكية ترى ضرورة إبقاء السودان تحت الصغط والوعود كخيار وحيد أمام واشنطون لممارسة نوع من النفوذ على السودان، وهو ما يجعل الإدارة الأمريكية مترددة حيال التعامل مع السودان، فهي لا تريد تطبيعًا تامًا للعلاقات مع الخرطوم بدون ثمن تدفعه الخرطوم، ولا رفع تام للعقوبات، ولكن تريد منه التزامًا صارمًا بأجندة وضعتها واشنطن، وعلى أساسها تقيس مدى تقدم السودان في إنفاذها.

وعليه، سيكون موعد 12 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وهو التاريخ الذي حددته واشنطن لاتخاذ قرارها بشأن رفع العقوبات عن السودان، حدًا فاصلاً في وتيرة التواصل والحوار الدبلوماسي الحالي بين الخرطوم وواشنطن.

وفي هذا الموعد المرتقب، ستبلغ دبلوماسية «الوعود والتمديد» مداها، وعندها ستكون واشنطن مواجهة بخيارات تصعيدية صعبة تجاه ملف السودان: إما تصعيد من جانبها تجاه السودان تحت ذرائع شتى لتبرير عدم اتخاذ قرار نهائي برفع العقوبات على الخرطوم، أو الخضوع لضغوطات اللوبيات بفرض عقوبات جديدة، أو تمديدها العقوبات الحالية مرة أخرى، أو وضع شروط جديدة لرفع هذه العقوبات.

أو في المقابل، من المتوقع أن يكون هناك تصعيد من جانب الخرطوم، ربما يفتح الباب واسعًا امام ألداء ومنافسي واشنطن (أبرزهم بكين وموسكو)، لتعزيز حضورهم في السودان، وهم يستغلون كل سانحة على حساب «العم سام».


الدول الكبرى والشرك المحلي

هناك إقرار حتى داخل واشنطن بأن الولايات المتحدة يتراجع دورها ونفوذها لصالح قوى دولية صاعدة كالصين وروسيا، وأن القطبية الأمريكية تتآكل لصالح لاعبين جدد على الساحة الدولية، وبالتالي قدرة واشنطن على التأثير الفعال تتراجع بشكل كبير.

يمثل السودان، نظرًا لموقعه الجيوستراتيجي كجسر بين أفريقيا والوطن العربي، بيئة خصبة للقوى الدولية الصاعدة لممارسة النفوذ وبناء التحالفات وتعزيز حضورها في هذه المنطقة، فضلاً عن تأثير السودان- سلبًا وإيجابًا- على العديد من الملفات الساخنة التي تهم القوى الدولية اليوم، لاسيما الأوضاع في ليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، والحاجة إليه في تلك القضايا، خاصة مع تزايد اعتماد الدول الكبرى في تدخلاتها المختلفة من خلال حليف إقليمي أو شريك محلي، فضلاً عن الأوضاع في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل وبحيرة تشاد وصولاً إلى تخوم الصحراء، وجميعها تقع في صُلب اهتمامات الدول الكبرى والأوضاع فيها تأخذ طابعًا إقليميًا أكبر.

وكانت الصين قد عززت من علاقاتها مع السودان خلال العقدين الأخيرين، بينما تسعى موسكو – في ظل العقيدة البوتينية- إلى تعزيز انفتاحها على أقاليم العالم المختلفة على كافة الأصعدة، ويعد الانتشار العسكري أحد أوجه السياسة الروسية الجديدة.

لذلك سيكون أمام الروس فرصة ذهبية لتعزيز تعاونهم مع السودان، لاسيما في حال لم يفِ الجانب الأمريكي بتعهداته برفع العقوبات عن السودان بعد تمديد القرار بشأنها مؤخرًا لثلاثة أشهر تنتهي في تشرين الأول/أكتوبر المقبل.

إزاء ذلك، يقع السودان شيئًا فشيئًا في خطوط الصدع التنافسي بين القوى الدولية، فعلاقات الخرطوم بواشنطن أمامها أشواط طويلة لعبورها قبل الوصول بها إلى مرحلة التطبيع التام.


حلف إقليمي جديد

كذلك، هناك تطور جديد ذو صلة بالسودان يجب أخذه في الاعتبار عند تناول الأبعاد المختلفة للعقوبات المفروضة على السودان، وهو وجود حلف إقليمي تأسس على شعار محاربة الإرهاب، ربما يكون التطور عاملاً جديدًا يزيد من تعقيدات هذه القضية، إذ تحاول بعض الأطراف الإقليمية، وبالتحديد (محور الرياض- أبوظبي)، توظيف قرار واشنطون لرفع العقوبات لممارسة ضغوط على الخرطوم في عدة سياسات إقليمية، لاسيما بعد اندلاع الأزمة المفتعلة بين هذه دول المحور من جهة، وقطر من جهة أخرى.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه خلال زيارته إلى المملكة العربية الأسبوع الماضي، نصحت الرياض «بالتواصل الإيجابي مع واشنطن»، كما تواردت الأخبار بتراجع الرئيس البشير عن قراره بتعليق عمل لجنة الحوار مع واشنطن، الذي كان قد أصدره غداة الإعلان عن قرار الإدارة الأمريكية بتأجيل قرارها حول رفع العقوبات عن السودان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.