قادنا البحث في الوثائق الوقفية التي تخص الخديوي إسماعيل إلى الكشف عن ثلاث وقفيات من وقفياته الخيرية؛ خصصها كلها لثلاث تكايا ودراويشها بمصر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي: تكية المولوية، وتكية السليمانية، وتكية القادرية. وهذه الوقفيات مسجلة في خلال الأعوام: 1280، و1281، 1281/1282 الهجرية، 1863، و1864/1865م الميلادية على التوالي.

كانت أولى تلك الوقفيات على «تكية المولوية»، الكائنة بمنطقة السيوفية بحي الحلمية بمصر القديمة. وحجتها محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر بتاريخ 3 صفر 1280هـ/19 يوليو 1863م، وهي مسجلة برقم 27 بسجل رقم 2/أهلي، وأصلها محفوظ بدفترخانة الوزارة «برقم 865/ فهرست حجج».

وتعود نشأة تكية المولوية بمصر إلى العصر العثماني. والتكايا بعامة هي من العمائر التي كانت تستخدم لإيواء من لا عائل لهم، ولإطعام الفقراء وعابري السبيل. ومع انتشار الطريقة الصوفية المولوية في مصر، اتخذ أتباعها تكيتهم مكاناً للذكر وللممارسات الصوفية الأخرى. ولا يزال مبنى التكية قائماً إلى اليوم فيما بين سنجر العمري، ومقام وضريح الأستاذ المظفر. وتجمع واجهتها بين الطرازين المعمارين: العثماني والمملوكي. وتضم ثلاث قاعات: الأولى يطلق عليها اسم «قاعة السمع خانة»، أو «مسرح الدراويش»، والثانية هي مدرسة سنقر السعدي، أما الثالثة فعبارة عن أثر يطلق عليه «أثر يشبك».

ومما ورد في مستهل حجة وقف الخديوي إسماعيل على تكية المولوية أنه:

أشهد على نفسه حضرة جناب وكيل سعادة مولانا الصدر الأعظم، والدستور المشير الأفخم، والجناب الرفيع الأكرم: إسماعيل باشا والي الديار المصرية حالاً، دامت سعادته، وتوالت مسرته آمين، أنه: وقف وحبس وأرصد وأكد وخلد وتصدق لله سبحانه وتعالى بجميع القطع الأرض السواد التي عبرتها 200 فدان، و52 فداناً أخرى من أراضي المتروك أبعادية، بولاية الشرقية ونواحيها.

ثم نصت الحجة على مصارف الريع وهي أن:

يُصرف على السادة الفقراء المولوية الواردين والمقيمين والقاطنين والمنقطعين والمترددين بالتكية المعمورة بذكر الله تعالى، المعروفة بتكية المولوية، الكائنة بمصر المحروسة بخط السيوفية… وعلى ضريح الأستاذ المظفر، وفي عمارة وتجديد ومصالح ومهمات التكية المذكورة، وفي ثمن زيت وقود يستضاء به فيها، وفي ثمن ما يبسط بها من الحصر السمار، وغيرها، وفي أجرة بوابين خدمة، ونقل المياه إليها من بحر النيل المبارك، وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال بحسب ما يراه الناظر على ذلك.

ولما كان الوقف الخيري مؤبداً -في أغلب الأحوال- فإن مرور الأحقاب الزمنية المتطاولة عليه كان يعني احتمال تعذر صرف ريعه على ما هو مخصص له، ولهذا درج أكثر الواقفين على الاحتياط بالنص على كيفية التصرف إذا وقع هذا الاحتمال، وهذا ما ورد في حجة الخديوي إسماعيل على تكية المولوية، وهو:

إن تعذر الصرف لذلك؛ صرف على ما يبين فيه: الربع ستة قراريط (من جملة 24 قيراطاً) يُصرف في مصالح ومهمات إقامة الشعائر الإسلامية بالجامع الأزهر الأنور. والنصف والربع 18 قيراطاً يصرف في ثمن خبز قرصة يشترى ويفرق على طلبة العلم المجاورين بالجامع الأزهر… فإن تعذر الصرف للحصة التي قدرها النصف والربع، صرف ريع ذلك جميعه في مصالح ومهمات وإقامة الشعائر الإسلامية بالجامع المشار إليه، فإن تعذر الصرف على ذلك والعياذ بالله، صرف ريع ذلك جميعه للفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا.

وثمة شروط أخرى تضمنتها حجة هذه الوقفية، وهي شروط تتعلق باستصلاح وتنمية الأراضي الموقوفة، وهي: أن يبدأ الناظر بإصلاح أراضيها وتنقيتها من الخرس والقضاب وإماطة النبت الغريب وإزالته عنها، وأن يصرف من الريع ما فيه بقاء لعينها والدوام لمنفعتها، ولو صرف في ذلك الكثير. وقد جعل الخديوي إسماعيل النظر على هذه الوقفية لناظر ديوان الأوقاف المصرية، ثم لمن يلي وظيفته وهلم جرا، فإن لم يكن ناظر على الأوقاف المصرية، يكون النظر لمن يكون والياً على الديار المصرية، ثم لمن يلي وظيفته وهلم جرًّا، فإن لم يكن والٍ على الديار المصرية، فلرجل من أهل الدين والصلاح والعفة والنجاح يقرره في ذلك الحاكم الشرعي.

وزيادة في تأكيد ما عزم عليه الخديوي إسماعيل بهذه الوقفية، أوردت الحجة فقرة أخيرة تفيد أن نصها قد جرى عرضه عليه، «فلما أحاط علمه الكريم بذلك؛ أمر بكتابته وقيده بالسجل المحفوظ ضبطاً للواقع تحريراً في 3 صفر 1280هـ».

أما وقفيته الثانية فقد خصصها لتكية السليمانية بالقاهرة، وحجتها محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر، بتاريخ 5 شعبان 1281هـ/ وأصلها محفوظ بدفتر خانة وزارة الأوقاف برقم 866 ـ مسلسل 28 سجل/2أهلي/أ (ص103-ص110). وهذه الوقفية عبارة عن 25 فداناً بناحية كرداسة مديرية الجيزة، و10 أفدنة بناحية البساتين التابعة لمديرية الجيزة أيضاً.

ومما ورد في نص الحجة أن الواقف:

حضرة مولانا إسماعيل باشا خديوي مصر حالاً قد جعل هذه الوقفية على السادة الدراويش المقيمين والمترددين والواردين بتكية السليمانية الكائنة بمصر المحروسة بخط السروجية… وأنه اشترط البدء من الريع بإصلاح الأطيان المذكورة، وأن يدفع ما هو مرتب لجهة الميري، وأن يكون النظر للسيد أبو بكر راتب باشا ناظر عموم الأوقاف المصرية حالاً، ثم لمن يلي وظيفته وهلم جرًّا.

وتضمنت نهاية الحجة فقرة تفيد إطلاع الخديوي إسماعيل على مضمون هذه الوقفية، وأنه وافق عليها وأقرها، ونصها:

وثبت الإشهاد بمضمون الوقف وشروطه على النمط المبسوط لدى مأذون مولانا أفندي المشار إليه بشهادة الشهود ثبوتاً شرعياً، ثم عرض ذلك مفصلاً على حضرة مولانا أفندي الموما إليه، فلما أن أحاط علمه الكريم بذلك، حكم بصحة هذا الوقف ولزومه، في خصوصه وعمومه، على قول من يراه، عالماً بالخلاف الواقع بين الأئمة الأسلاف في شأن الأوقاف، حكما صحيحاً شرعياً، وأمر بكتابة ذلك وقيده بالسجل المحفوظ ضبطاً للواقع.

وتكية السليمانية كائنة اليوم، كأثر تاريخي، بشارع السروجية على ناصية عطفة الليمون وحارة أحمد باشا يكن بالقاهرة، ومسجلة كأثر برقم (225). وكان الأمير سليمان باشا الوالي العثماني على مصر قد عمرها في عام 920هـ-1543م وقد عرفت باسم تكية السليمانية. واستُعملت هذه التكية لدراويش الطريقة القادرية، وبها ضريحان لبعض شيوخهم في القرن العاشر الهجري، أحدهما الشيخ إبراهيم، والآخر للشيخ عبد الرسول؛ حسب ما ورد عنها في خطط علي باشا مبارك. وهناك نقش فوق باب مدخل التكية نصه:

هذه المدرسة الشريفة أنشأها في دولة السلطان الأعظم الخاقان المعظم مولى ملوك العرب والعجم، كاسر رقاب الأكاسرة، قامع أعناق الفراعنة، الغازي في سبيل الملك المجاهد في إعلاء كلمة الله فخر سلاطين آل عثمان السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان أيد الله دولته وأيد شوكته، هو مولانا الوزير الأعظم سليمان باشا.

وبحسب وصف التكية السليمانية في حجة الوقف، فإنها كانت التكية تتكون من: مبنى مستطيل الشكل يتوسطه صحن مكشوف، تحيط به الغرف من جميع الجهات عدا الجهة الجنوبية حيث يوجد إيوان عميق بعض الشىء يتصدره محراب مجوف. وملحق بالضلع الغربي للتكية ميضأة ودورة للمياه. وكذا مطبخ لإعداد طعام المقيمين بالتكية كما تنص على ذلك وقفية سليمان باشا الذي أنشأها. ويعلو الدور الأول من التكية طابق ثانٍ يحتوي على مجموعة من الغرف والخلاوى تحيط بالصحن من جميع الجهات، عدا جهة القبلة، التي يرتفع عقد إيوانها بحيث يشمل ارتفاع الطابقين. ويتقدم الغرف العلوية جميعها ممر يفصل بينها وبين الشرفات التي تطل على صحن التكية في الطابق الثاني، وقد غطيت غرف الطابق الثاني بقباب ضحلة، ولعل هذه التكية هي أول عمارة عثمانية تغطي غرف الطابق العلوي بقباب ضحلة. ويتقدم التكية مدخل كبير يبلغ ارتفاعه ارتفاع الطابقين، وقد زخرف هذا المدخل المعقود بكثير من الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية، ولكن أهمها بلاطات القاشانى التي تكسو طبلة العقد العاتق التي يطلق عليها اسم (النفيس) ويؤدى المدخل إلى دركاه تحتوي على فتحتين إحداهما توصل إلى صحن التكية، والثانية مقابلة لها وتؤدى إلى منزل شيخ التكية.

وأما الوقفية الثالثة فقد خصصها الخديوي إسماعيل لتكية القادرية. وحجتها محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر، بتاريخ 5 شعبان 1281هـ، وأصلها محفوظ بدفتر خانة وزارة الأوقاف برقم 868 فهرست حجج، ومسلسلة برقم 29 /2 أهلي/أ (ص116-ص125). وتثير هذه الوقفية كثيراً من اللبس؛ فهي مخصصة بحسب نص الحجة لتكية القادرية بخط الصليبة الطولونية، بينما يذكر علي باشا مبارك في خططه أن هذه التكية هي التكية السليمانية سابقة الذكر، وهي التي خصص لها الخديوي إسماعيل وقفيته التي سبقت الإشارة إليها. وما يثير اللبس أن حجة هذه الوقفية محررة بنفس تاريخ حجة وقفيته على التكية السليمانية، وأن المصادر التاريخية تذكر أن «التكية السليمانية» قد استعملها الدراويش التابعون للطريقة القادرية، ولا تذكر تكية أخرى خاصة بهم وتحمل اسمهم سواها.

ولكن وثيقة هذه الوقفية الثالثة للخديوي إسماعيل تتضمن معلومات تفيد أن تكية القادرية بحي الصليبة الطولونية ليست هي تكية السليمانية بحي السروجية بالدرب الأحمر بالقاهرة. فأصل حجة وقفية «تكية القادرية بخط الصليبة الطولونية» مكتوب باللغة العثمانية القديمة، ولها ترجمة إلى اللغة العربية، وقد ورد فيها أن الوقفية عبارة عن 20 فداناً من المستبعدات بعد التعديلة، وتلك المساحة كائنة بناحية كفر دميرة القديم تابعة لجفلك شريف باشا بمديرية الغربية.

وما يزيد الالتباس هنا وجود «تقسيط ديواني» مؤرخ في 19 صفر سنة 1282هـ أي بعد حوالي عام هجري كامل من تاريخ تحرير حجة وقفية تكية القادرية، وهذا التقسيط عبارة عن مساحة قدرها 20 فداناً، وهي نفس المساحة الواردة في حجة الوقفية المذكورة، وفي التقسيط أيضاً نفس ما اشترطه الخديوي إسماعيل في تلك الحجة وهو:

أن يصرف ريعها على دراويش وخدمة تكية القادرية الكائنة بمصر المحروسة بخط الصليبة الطولونية، وفي مصالح هذه التكية على الدوام والاستمرار، بحسبما يراه الناظر على ذلك ويؤديه إليه اجتهاده. ومن الشروط التي اشترطها فيها: أن يبدأ من الريع بإصلاح الأطيان المذكورة، وأن يدفع من ذلك الريع ما هو مرتب لجهة الميري، وأن يكون النظر للأمير أبو بكر راتب باشا ناظر عموم الأوقاف المصرية، ثم لمن يلي وظيفته وهلم جرًّا.

وإذا وضعنا المعلومات السابق ذكرها بخصوص وقفية الخديوي إسماعيل على «التكية السليمانية بخط السروجية»، إلى جانب هذه المعلومات الواردة في الحجة الثالثة التي تحدثت عن وقفية مساحتها عشرون فداناً بمديرية الغربية، وذكرت أنها مخصصة لتكية القادرية بـ «خط الصليبة الطولونية»؛ فإن السؤال الذي أبحث له عن جواب هو: هل هما وقفيتان على تكية واحدة لها اسمان: تكية السليمانية، وتكية القادرية، كما تقول بعض المصادر؟ أم هما وقفيتان لتكيتين مختلفتين واحدة اسمها: تكية السليمانية، والثانية اسمها تكية القادرية؟

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التكايا قد تطورت في الحضارة الإسلامية عن مؤسسة خيرية أقدم منها هي «الخانقاوات»: جمع خانقاه، وهي من العمائر الدينية التي كانت مخصصة لفقراء الصوفية وفئات أخرى من المهمشين، إضافة إلى أنها كانت تقدم خدمات تعليمية وصحية واجتماعية متنوعة. وقد اعتمدت التكايا، والخانقاوات من قبلها، على الأوقاف اعتماداً كلياً في تقديم خدماتها التي كانت تقدمها للغرباء وعابري السبيل والمنقطعين والعاجزين عن الكسب، إلى جانب فقراء المتصوفة والدراويش (راجع: هند علي حسن منصور، منشآت التصوف بمدينة القاهرة من الفتح العثماني حتى نهاية القرن التاسع عشر، رسالة ماجستير، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 2002م).

وبالرجوع إلى وثائق التكايا وأوقافها في مصر الحديثة والمعاصرة، يتبين أن أغلبها كان موروثاً عن فترات تاريخية سابقة على عهد محمد علي باشا. وأورد علي باشا مبارك عدداً منها في خططه، وأهمها تكية محمد بك أبي الدهب، وتكية الكلشني بالقاهرة. كما يتبين أن بعضها قد نشأ أو جرى إصلاحه وتجديده في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة، ومنها: تكية درب الجماميز التي أنشأها عباس باشا الأول، و«تكية الفقراء» بالإسكندرية التي جددها ديوان عموم الأوقاف في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وكانت تحتوي على 20 سريراً، وكان بها قسمان: أحدهما للرجال، والآخر للنساء، وكل منهما مقسم إلى أقسام: للصغار، والكبار، والأرامل، والعذارى، وكان شرط الإقامة بها هو العجز المطلق عن الكسب، والخلو من الأمراض المعدية. ومنها أيضاً: «تكية العجائز الفقيرات» التي جددها أبو بكر راتب باشا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأثنى عليه رفاعة الطهطاوي لقيامه بهذا العمل الخيري (محمد عمارة «محقق»: الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، ج1/ص578، وص579).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.