وصلت الانتخابات التركية إلى جولة إعادة، ليزداد بذلك الانقسام، وتصبح الصفوف أشد تمايزًا، لا وجود للمرشح التوافقي، أو الاختيار الذي يمزج بين فضائل هذا وفضائل ذاك، جولة الإعادة بين الرئيس الحالي، طيب أردوغان، ومرشح المعارضة الشرسة كليجدار أوغلو، وكل طرف يدعو أنصاره لرسم مستقبل تركيا بطريقتهم عبر التصويت له، وفي ذلك ظهرت البرامج الانتخابية المتباينة من كل طرف، لكن هل حقًا ستختلف تركيا جذريًا حال ظل أردوغان في السلطة عنها إذا أصبح كليجدار أوغلو رئيسًا؟

التصريحات توحي بتناقض صارخ بين الرجلين، وأن ما ينتظر تركيا حال فوز أيهما يختلف تمامًا عن الآخر، لكن خلف تلك التصريحات يوجد واقع مختلف. ليس بحدة التصريحات، ولا بصلابة البرامج الانتخابية المُعلنة، فمثلًا لا يتوقف أردوغان عن اتهام الغرب بالتدبير للانقلاب الذي جري عليه، ما يوحي بعدواة بين أردوغان والغرب، بينما يقول كليجدار إنه ينوي دفع تركيا نحو الغرب أكثر، وجعلها دولة أكثر ديمقراطية بالمعايير الغربية.

لكن الواقع يقول إن تركيا بالفعل جزء من التحالف الغربي الدفاعي، الناتو. وعلاقات أردوغان جيدة بالدول الغربية، ويعرض الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، ويُنظر غربيًا إلى تركيا على أنها مكان للأمن والسلام، فيما يتعلق بسياسة الحروب والانحياز فيها، وهو ما تنوي المعارضة فعله أيضًا، فكليجدار والمعارضة ينوون العودة لمفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، لكن في الوقت نفسه، يحافظون على علاقات وثيقة مع روسيا، وسوف يستمرون في تشغيل المحطة النووية روسية الصنع الموجودة في تركيا، والمفتتحة قبل الانتخابات.

ربما المختلف بين الطرفين في تلك النقطة، أن أردوغان يريد دفع تركيا إلى نقطة تصل فيها تركيا على المدى القصير، أو البعيد، إلى موقع يجعل عضوية الناتو بالنسبة لها أمرًا غير ذي أهمية كبيرة.

الاقتصاد والأكراد

النقطة الثانية التي يتجلى فيها سجال انتخابي ضخم هي الاقتصاد، فأردوغان يؤيد الاستمرار في سياسة الانهيار المتعمد للعملة التركية، بينما تدعو المعارضة إلى سياسة اقتصادية منضبطة، لكن في التوقيت نفسه تقول المعارضة إنها ستحافظ على تحسن الميزان التجاري الذي شهدته تركيا مؤخرًا، كذلك سوف تبذل جهدها للحفاظ على زيادة الصادرات، كما يعد الطرفان بخلق قرابة ستة ملايين وظيفة؛ استجابة لحالة انتعاش السياحة، وزيادة التصدير.

اللافت أن هذا الانتعاش هو نتيجة لسياسات أردوغان الاقتصادية الأخيرة، ما يعني أن أردوغان قد رأى ثمارًا تجعله مصرًا على سياسته حال فوزه، ويعني أيضًا أن المعارضة أدركت أن تلك السياسة لها فوائد حقيقية، لذا من المتوقع أن تستمر تلك السياسة، مع تعديلات ستُدخلها المعارضة حال فوزها.

أبرز تلك التعديلات المعلنة هي استعادة استقلالية البنك المركزي، التي تآكلت بفعل سياسات أردوغان، لكن من غير المُرجح أن تنفذ المعارضة ذلك الوعد، لأن الخبراء الاقتصاديين في الغالب غير مقتنعين بسياسات أردوغان الحالية، وطالما أرادت المعارضة الإبقاء عليها، ولو نسبيًا، فإنها مضطرة للحفاظ على وجود رئيس للبنك المركزي يميل ناحية تنفيذ آراء القيادة السياسية.

الأكراد من الأمور التي يدور حولها جدال كبير في كل انتخابات تركية؛ فالأكراد يرون هذه الانتخابات هي الأهم في تاريخ تركيا، ويدعم الأكراد علنًا كليجدار أوغلو، واستمال كليجدار أصواتهم بشكل صريح حين قال إنهم يُعاملون كإرهابيين، وإن الحكومة الحالية تشوه صورتهم باستمرار، لكن الواقع يقول إن الأكراد قد تحسنت أحوالهم في سنوات حكم أردوغان الأولى، لكنها تدهورت لاحقًا بسبب فشل محادثات السلام لإنهاء النشاط المسلح لحزب العمال الكردستاني.

المهم أن الدول الغربية التي يريد كليجدار الدخول في تحالفاتها حال فوزه تعتبر الحزب الكردستاني حركة إرهابية، كذلك فإن النزعة القومية لدى الأتراك تدفعهم لمعارضة رغبات الأكراد، وإذا كانت الضرورة الانتخابية فرضت على كليجدار وأنصاره التآلف مع الأكراد لإزاحة أردوغان، فإنه بعد الإطاحة بالرجل يُرجح المحللون كفة أن يستمر كليجدار في التضييق على الأكراد، ومقاومة سلوكهم المسلح، حتى لو شهدت العلاقات تحسنًا مؤقتًا في أيام كليجدار الأولى.

اللاجئون السوريون

اللاجئون السوريون في قلب الأزمة الانتخابية، إذ تحتوي تركيا على 3.5 مليون لاجئ سوري يتمتعون بحماية تركيا، يراقب اللاجئون الانتخابات بحذر، فهي بالنسبة لهم اختيار بين رجل سيحافظ عليهم في بلاده، وآخر سيعيدهم إلى بلادهم فورًا، وهو ما يقوله كل مرشح لأنصاره، وتُعتبر تلك النقطة من أبرز نقاط الخلاف المعلن بين الطرفين.

لكن في كواليس تلك التصريحات نجد ما يقترب من التوافق، كليجدار أوغلو يقول إعادتهم فورًا، وفورًا تلك شرحها في برنامجه أنها تمتد على مدار عامين كاملين، صحيح هي مدة قصيرة، لكنها ليست فورًا، كما أنها ستمنح اللاجئين فترة كافية لتدبير أمورهم، فالأمر لن يكون ترحيلًا قسريًا، ويقول كليجدار إن ذلك لن يكون إلا بتنفيذ اتفاقية مع الحكومة السورية، وسوريا بدورها ترفض أي اتفاقية ما لم تغادر تركيا المنطقة العازلة التي يبلغ عمقها 30 كيلو مترًا داخل سوريا.

وخروج تركيا من تلك المنطقة يعني احتمالية قيام سوريا بهجمات جديدة، ما يخلق موجة نزوح جديدة، المهم أن ربط العودة بالاتفاق مع بشار الأسد، يعني أن الأمر قد يستغرق عقدًا من الزمن لا مجرد عامين، فالاتفاق مع الأسد هو نفس الشرط الذي يقوله أردوغان أيضًا، فمن أجل تخفيف استياء الشارع التركي من الوجود السوري في تركيا فقد وعد أردوغان بوعد مشابه لما قاله كليجدار.

فقد صرح أردوغان بأنه سيعمل على العودة الطوعية لأكثر من مليون سوري، لم يحدد الرجل جدولًا زمنيًا لتلك الخطوة، لكنه وعد الشارع التركي بالإسراع فيها، مع الوضع في الاعتبار أن عودة السوريين طواعية لبلادهم تبدو فكرة صعبة المنال للغاية، لهذا فالسوريون ينتظرهم واقع جديد بعد الانتخابات، قد يكون فيه أردوغان هو الرئيس الذي يجبرهم على العودة لبلادهم، بينما كليجدار هو من يقف في صفهم، وقوفًا مؤقتًا ربما، ريثما تفرض سوريا شروطها.

زيادة صلاحيات البرلمان

المعارضة قدمت وعودًا مثالية كالتي يقدمها المرشحون دائمًا، كفتح القصور الرئاسية للزائرين، وبيع الطائرات الرئاسية كافة، وهي وعود يدرك أنصار المعارضة قبل معارضيها أنها لن تُنفذ، كما تقول المعارضة إنها ستعمل على تعديل الدستور حيث تعيد منصب رئيس الوزراء الذي ألغاه أردوغان عبر استفتاء عام 2017، كما تنوي جعل الرئيس موجودًا في منصبه لمدة رئاسية واحدة تبلغ 7 سنوات غير قابلة للتجديد.

تلك الإصلاحات وغيرها تحتاج لموافقة البرلمان التركي، كما من المفترض أن كليجدار ينوي منح البرلمان صلاحية إلغاء الاتفاقيات الدولية، أو التراجع عن بعض خطط الحكومة التي تضر البلاد، كل هذه الصلاحيات من المفترض أن يضعها كليجدار أوغلو في يد البرلمان، لكن لا أحد يعرف هل سيتراجع الرجل عن هذه الخطط أم لا، بخاصة بعد اكتساح التحالف المؤيد لأردوغان في الانتخابات البرلمانية.

ما يعني أن أي صلاحية جديدة يعطيها كليجدار، حال فوزه، للبرلمان ليست إلا هدية جديدة في يد العدالة والتنمية لخنق كليجدار أوغلو، ولتجنب ذلك فلن يقوم كليجدار بمنح مزيد من الصلاحيات للبرلمان، ما يعني استمرار الوضع على ما هو عليه، كذلك فإن سيطرة أردوغان على البرلمان عبر الحزب تعني تحكمه في سياسات كليجدار أوغلو.

إذًا يبدو أن خلف التصريحات النارية يكمن هدوء مشترك واتفاق ضمني على مسار متشابه ستمضي فيه تركيا بغض النظر عن هوية الفائز، وأن هوية الفائز ستحدد فقط سرعة المضي في هذا المسار، أو الصيغة الإعلانية لتقديم هذا المسار للجمهور، لكن لا يجب أن يُفهم أنه ليس هناك اختلافات جوهرية بين الرجلين، أو أن هناك مفترقات طرق قد تتعرض لها تركيا باختلاف الفائز.