الكتابة في التاريخ الإسلامي مسألة صعبة جدا، وذلك ليس من قلة المراجع التاريخية، ولكن لأن هذه المراجع التاريخية ما كتبت إلا بهوى ذاتي للمؤلفين فقدمت شخصيات على أنها مثالية وشوهت شخصيات أخرى وامتلأت بآراء مذهبية وسياسية أضرت بحيادية كتابها مما يجعل علينا مسؤولية كمثقفين: إعادة تنقية هذا الموروث التاريخي من الخرافة والأسطورة وكل ما يتعارض ويعارض العقل.

لقد اخترت في البداية الكلام على قضية مقتل عمار بن ياسر لأنها قضية مهمة وإشكالية. فيكاد ينحصر دليل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن تبعه من أهل الشام على صحة موقفهم من أن الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام قال لعمار في يوم بناء مسجد قباء: «ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية». ولا شك أن هذه الرواية لها من القوة والاتساع ما يجعلنا نعتقد أنها متواترة رواها جمع من الصحابة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وبذلك فإننا على يقين من صحتها. ولكن الرواية لم تشِر صراحة إلى أن الفرقة التي كان يقاتل فيها عمار بن ياسر هي جماعة الحق، ولم تشر كذلك إلى أن الفئة التي تقاتل عمار هي فئة كافرة، بل هي مجرد فرقة باغية دون تحديد ماهيتها. وفي الحقيقة لا يوجد دليل تاريخي واحد يثبت أن من قتل عمار بن ياسر هم أهل الشام.

ولكي أحل هذه المسألة التاريخية ألزمت نفسي الإجابة على ثلاثة أسئلة:

– من هو الذي زعم المؤرخون قتله عمار بن ياسر؟

– كيفية الرد على من زعم أن عمرو بن العاص قال أن من قتلوه هم الذين أخرجوه؟

– من هو القاتل الحقيقي لعمار بن ياسر؟


أولا: من هو الذي زعم المؤرخون قتله عمار بن ياسر؟

لم يستطع المؤرخون بدقة تحديد قاتل عمار بن ياسر مما دفعهم لاختلاق شخصية وهمية هي أبو غادية الجهني الذي لم يستطع أهل الحديث إثبات اسمه أو صفته وتاريخ مولده أو وفاته. ولم يروِ له من علماء الحديث إلا الإمام أحمد في المسند، حديثا ونصه: «عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، حدثنا أبي قال: كنت بواسط القصب عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فقال الآذن: هذا أبو الغادية الجهني. فقال: أدخلوه. فدخل رجل عليه مقطعات، فإذا رجل ضرب من الرجال كأنه ليس من رجال هذه الأمة، فلما أن قعد قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: بيمينك؟ قال: نعم. قال: وخطبنا يوم العقبة فقال: «يا أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام».

وقال في خبره: وكنا نعد عمار بن ياسر فينا حنانًا فوالله إني لفي مسجد قباء إذ هو يقول: إن معقلًا فعل كذا -يعني عثمان- قال فوالله لو وجدت عليه أعوانًا لوطئته حتى أقتله، فلما أن كان يوم صفين أقبل يمشي أول الكتيبة راجلًا حتى إذا كان بين الصفين طعن الرجل في ركبته بالرمح وعثر فانكفأ المغفر عنه فضربه فإذا رأسه قال: فكانوا يتعجبون منه أنه سمع: «إن دماءكم وأموالكم حرام»، ثم يقتل عمارا». وقد وثق الإمام أحمد ربيعة بن كلثوم بن جبر ولم يوافقه النسائي فقال فيه: ليس بالقوي. وكذلك يرى فيه كثير من أهل الحديث. ولم يروِ لهذا الصحابي المزعوم أي رواية أو حديث سوى الروايات التي تدور حول قصة حياة عمار بن ياسر. فقد روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء رواية أخرى:

روى حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر، عن أبي غادية، قال: سمعت عمارا يشتم عثمان، فتوعدته بالقتل، فرأيته يوم صفين يحمل على الناس، فطعنته فقتلته. وأخبر عمرو بن العاص، فقال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:قاتل عمار وسالبه في النار».

وعلق على هذه الرواية الذهبي فقال: فيها انقطاع.

وقد كتب في قصة أبو غادية علماء الفرق الإسلامية، فيقول ابن حزم الظاهري في كتابه «الفصل في الأهواء والملل والنحل» (4/ 164):

«وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي. شهد (أبو الغادية) بيعة الرضوان، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه. فأبو الغادية رضي الله عنه متأوِّلٌ مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا. وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه، لأنه لا مجال للاجتهاد في قتله، لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد إحصان ولا ارتد، فيسوّغ المحاربة تأويل، بل هم فُسّاقٌ محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل، على سبيل الظلم والعدوان. فهم فساق ملعونون»

قلت: أخطأ الإمام الأكبر رحمه الله فأبو غادية (المزعوم) كان من جهينة وليس من سليم ولسنا متأكدين على الدقة هل هو فعلا قاتل عمار بن ياسر، ولو صح ذلك فالروايات التي يرويها إشكالية وتطرح قضية معقدة محل خلاف هو خلود مرتكب الكبيرة في النار (و هذا مما يخالف اعتقاد أهل السنة الذين لا يعتقدون بذلك).

ولذلك حاول ابن تيمية الاستدراك على ابن حزم فقال في منهاج السنة النبوية (الجزء 6 / صفحة 205):

«والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية، وقد قيل أنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم، فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة»

وحاول ابن حجر العسقلاني تأويل قصة أبوغادية الجهني فقال:

«والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا فيها متأولين وللمجتهد المخطئ أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى» (الإصابة 7/ 312)

في الحقيقة كل المتكلمين المسلمين حاولوا تأويل القصة دون النظر في تحديد وجود أو عدم وجود شخصية أبو غادية الجهني من الأساس وعدم معرفة تاريخ ميلاده بدقة، فيزعم ابن حزم أنه شهد بيعة الرضوان ويزعم أبو غادية نفسه أنه شهد حجة الوداع، ولم يعرف له علماء الطبقات تاريخ وفاة كما قرر بذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء.

يبقى أن نجيب إذا كان أبو غادية الجهني شخصية وهمية، ولم يقتل عمار بن ياسر، فهذا لا يمنع أن يكون قاتل عمار بن ياسر رجلًا آخرَ من أهل الشام؟

أجيب بأنه لا يعرف عند المؤرخين قاتل مفترض لعمار بن ياسر، ولو صح ذلك لكان من الصعوبة تمرير قصة مقتل عمار بن ياسر لسبب آخر، وهو زعم المؤرخين أن عمرو بن العاص رضي الله عنه خرج على الناس فقال: «والله ما قتلنا عمارا إنما قتله الذين أخرجوه» ويروي كذلك المؤرخون على لسان الإمام علي أنه أجاب عمرو بن العاص أنه بهذا قتلوا حمزة إذ أخرجوه يوم أحد.


ثانيا: كيفية نرد على من زعم أن عمرو بن العاص قال أن من قتلوه الذين أخرجوه ؟

وفي هذه الرواية اشكالية أخرى أنها لا تتناسب مع عبقرية ودهاء عمرو بن العاص الذي يقر بها خصومه قبل أعدائه، وكيف أنه يورط خصومه ولا يتورط كما فعل عندما أثار قصة عيسى ابن مريم مع ملك الحبشة ليحرضه على المسلمين وكما فعل مع أرطبون الروم (اسم قائد رومي) وكما فعل كما زعموا مع أبي موسى الأشعري فألزمه بأن يخلع صاحبه دون أن يخلع هو صاحبه، فكيف يستقيم برجل يمتلك كل هذا المقدار من العبقرية والدهاء أن يقول مثل هذا القول، وكيف اقتنع من هم في معسكره (من المغرر بهم) بهذا القول الذي لا يصدقه ولا يقتنع به إلا الأطفال.

وهذه القصة برمتها في رأيي أيضا أنها ملحونة وموضوعة من الإخباريين لتشويه عمرو بن العاص أحد دهاة العرب وإظهاره بمظهر الضعيف والعاجز عن استحضار المبررات.


ثالثا: من هو القاتل الحقيقي لعمار بن ياسر؟

كنت عاجزًا عن الإجابة على هذا السؤال حتى فترة قريبة، حتى مررت في أحد الأيام بآية مهمة في سورة الحجرات: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين».

فاستحضرت القصة وقلت فإن الطائفتين المؤمنين هم أهل الشام وأهل العراق، اقتتلا ثم تصالحا فيما بينهما وتحاكما إلى كتاب الله، فجاءت طائفة من أهل العراق وبغت ورفضت الصلح وهي طائفة الخوارج، فقاتلها الإمام علي رضي الله عنه، فربما كان في جيشه عمار بن ياسر وقتل على أيديهم فتكون الطائفة الباغية قاتلت عمار بن ياسر هي طائفة الخوارج لا أهل الشام وكلامي هذا ينطبق مع قول عمرو بن العاص أن من قتلوه هم من أخرجوه لأن الخوارج كانوا في معسكر الإمام علي رضي الله عنه، ورفضوا المصالحة وأثاروا الفوضى والاضطراب فهم الفئة الباغية بلا شك.