العلاقة ما بين السلطة والفن علاقة معقدة، عالمان مختلفان تمامًا عن بعض ليس بينهما مساحة مشتركة، بين صفات عالم السياسة المتميزة فى سلطة النفوذ والصراع والأفكار السياسية والقبضة الحديدية فى الحكم وبين عالم أهل الفن المشهور طول الوقت بالحرية والإبداع والابتكار فى تقديم أعمال سينمائية وقصص – حكايات. ما بين عالمين بهذا الشكل المتناقض، تنشأ صلة وروابط قائمة على الشد والجذب الثواب والعقاب.

بعض أهل الفن يسعه أن يتنازل حتى ينال الرضا من الملوك ورجال القصر. البعض الآخر يؤمن بالاستقلالية وحياد الفن عن السياسة وجعل الانتماء فقط للدولة لا النظام، والشعب لا الحكومة. وهناك من أصبح له صوت مسموع يزعج السلطة دائمًا بالحديث عن آلام الشعب وجع الفقراء وغياب العدالة. فكان نجيب الريحانى وكان يوسف وهبي وجهين لعملة واحدة هي أنهما من الفنانين العظماء، لكنهما كانا صوتين أحدهما يمدح الملك والآخر يزعجه.

كانت بداية طريق يوسف وهبي لقصر الملك فاروق عام 1944 عندما قام ببطولة ثلاثية لفيلم غرام وانتقام مع الفنانة والمطربة أسمهان، وهو ثاني أفلامها وآخرها، فكان الفيلم من قصة يوسف وهبي وإخراجه وتمثيله. في نهاية الفيلم أضاف يوسف وهبي مشهدًا غنت فيه أسمهان نشيد الأسرة العلوية، وهو نشيد يمدح أسرة محمد علي التي كانت تحكم مصر منذ أيام الوالي محمد علي باشا ممثلة في ذلك الوقت في سليلها الملك فاروق.

فتحت أبواب القصر أمام يوسف وهبي بحضور الملك فاروق إلى افتتاح الفيلم انحنى احترامًا وطبع قبلة على يد جلالة الملك فاروق الأول، ليحصل بعد ذلك على لقب البكوية. وطبيعة شخصية وحياة الملك فاروق كان يهتم كثيرًا بأهل الفن، وحريص على إقامة الحفلات دائمًا في قصره أو بالنوادي الاجتماعية والجمعيات الخيرية التي يرتادها، وكان يستضيف أشهر نجوم الزمن الجميل ليقدموا عروضًا غنائية أو فقرات استعراضية أو كوميدية في هذه الأماكن. في تلك الأثناء ذاع صيت إسماعيل يس كفنان كوميدي في الإلقاء المواقف المضكة والنكات، الغريب أن البلد كن يعاني بكل الصور والأشكال من الجوع والبؤس والفقر والاحتلال والإقطاع وفساد الأحزاب، لكن ما شأن هؤلاء الملوك والأمراء بهموم الشعب، هم كانوا يبحثون عن الضحك وكل ما لذَّ وطابَ من الطعام. في عام 1950 دعي الفنان إسماعيل يس لإلقاء بعض مونولوجاته في حفل خيري لصالح جمعية «مبرة محمد علي» في «ملهى الأوبرج».

وكما يذكر المؤرخ الفني الدكتور محمد فتحي في إحدى مقالاته، أوعز الملك فاروق إلى أحد رجاله بدعوة إسماعيل إلى الاستراحة الملكية للتسرية عنهم، وقال الملك لإسماعيل: «يلا يا إسماعيل سمِّعنا نكتة جديدة».

من فرط الارتباك بدأ إسماعيل النكتة قائلاً: مرة واحد مجنون زي جلالتك كده! فصرخ الملك: انت بتقول إيه؟ يا مجنون! أدرك إسماعيل الموقف فما كان منه إلا أن سقط متظاهراً بالإغماء، وغادر الملك غاضباً لمتابعة بقية الحفلة، وإن ظل بعض رجال الحرس حول إسماعيل، لينفذوا العقاب الذي سيأمر به جلالة الملك.

يوسف رشاد – طبيب الملك الخاص – قال لتمرير الموقف إن إسماعيل مريض، تصيبه حالات من ضعف الذاكرة وفقد الإدراك، وهو في حاجة لأن يقضي فترة تحت الرقابة الطبية لمعالجة هذه الحالة، فأمر الملك بإيداعه مستشفى الأمراض العصبية والنفسية. لم يستمر أمر المستشفى أكثر من عشرة أيام، وخرج إسماعيل يس. نصح رجال القصر الملك فاروق بعدم الدخول في معركة شخصية مع إسماعيل يس، وأن هناك طرقاً كثيرة للتأديب.

28 فبراير 1952 أصدرت إدارة الرقابة أمرًا إلى إسماعيل يس تمنعه فيه من إلقاء منلوج «فقرا الحرب» لأنه يدعو للشيوعية وهذا المنلوج يبدأ هكذا:

عيني علينا يا فقرا الحرب يا عيني علينا عدى الحرب ولسه الكرب بيعلب بينا.

وقد منعته أيضًا من تبادل النكات مع المتفرجين، لكن لما يستمر الحظر طويلاً، ليرحل الملك فاروق ويأتي ملوك آخرون.

في السنوات القليلة التي سبقت ثورة 1952 كثرت حكايات الملك فاروق الغرامية، لكن تبقى الأشهر مع الفنانة الجميلة ليليان فيكتور (كاميليا)، واتسعت دائرة الشائعات حول علاقة غرامية مع الملك فاروق أنهت حياتها نهاية مأساوية وغامضة، وتظل كل الحكايات عن الملك فاروق وكاميليا مجرد تخمينات وظنون يطالها الشك، وإن اقتربت من اليقين.

لكن فى عام 1979، في حوار طويل على 3 أجزاء مع الفنان رشدي أباظة في مجلة الموعد كان الأجرأ في الحديث عن العلاقة المتشابكة ما بين الملك والفتاة الحسناء الفنان ابن الباشا وحفيد العائلة المشهورة، سئل رشدي أباطة:

كان الملك فاروق دائماً غريمك في المغامرات النسائية.. ألم يزاحمك أيضاً على الحسناء كاميليا.

وأخذ رشدي أباظة سيجارة ثانية وبدأ يروي قصة جديدة:

– كانت كاميليا أشبه بالحصان الجامح الذي لا يستطيع أحد أن يوقفه حتى ولا الملك فاروق نفسه.. إنها كانت تفعل ما يحلو لها، وتتحدى من تشاء، وإذا أحبت فهي تحب بعنف.

المحاور: وهل أذاقتك هذا العنف؟

يروي الممثل المغامر:

– حدث مرة أن دخلت كاميليا الى «الأوبرج» ووجدتني أجالس سيدة، فهجمت عليّ وصفعتني على وجهي مرتين.. كانت هذه هي أول مرة يجرؤ فيها إنسان على صفعي ومع ذلك فإنني عندما تلقيت منها الصفعتين صعب عليّ أن أردهما لها وهي المرأة الجميلة التي أحبها، ولم أستطع إلا أن أضحك، فكان ذلك سبباً في زيادة عصبيتها وثورتها.

وما الذي أحببته في كاميليا؟

– إنسانة صريحة جداً، وأذكر أنني غضبت عليها في إحدى المرات، وابتعدت عنها طوال ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع شربت كأسين، وذهبت إلى بيتها لكي أحاسب هذه المرأة التي تزعم أنها تحبني ولا تسأل عليّ إن غضبت منها، كانت تضع على عينيها نظارة، وتحمل كتاباً، واستدارت وعادت إلى الصالون، ودخلت وراءها وأخذت أتصرف بعصبية ونرفزة وهي لا ترد عليّ بل ولا تلتفت إليّ أبداً، وأخيراً، صعد الدم إلى رأسي فصرخت بها: إنت يا ست.. إزاي بتقولي إنك بتحبيني ولا تسأليش عني ثلاثة أيام!! فنظرت إليّ بلا مبالاة وقالت: ما دمت تحبني فقد كنت متأكدة من أنك سوف تلف وتدور طويلاً ثم تعود إليّ.. ومن يومها تعلمت الدرس الثاني في الحب، وهو أن الرجل الذي يحب فعلاً، لا يستطيع في النهاية إلا أن يعود إلى قواعده.

ولكن: كيف كانت المواجهة بينك وبين الملك فاروق حول كاميليا؟

– فعلاً.. لقد حصلت مواجهة بيني وبين الملك فاروق، ولكن لا أعتبرها مواجهة بين ملك مصر ورشدي أباظـة أبداً.. إنها مجرد مواجهة بين اثنين من الشبان، فإن الملك فاروق كان شاباً في العشرين من عمره، وكان ابن ذوات، ويهوى مثل كل الشبان المغامرات النسائية.

وكيف كانت تحصل المواجهة بينك وبينه؟

– كادت المواجهة تصل إلى منتهى العنف، ولكن لم تحصل، إنه كان فقط يهاجمني بالمكالمات التليفونية التي يخفي فيها شخصيته ويهددني بالموت إذا لم أبتعد عن كاميليا.. وفي أحد الأيام أرسل إليّ بعض رجاله.. ولكنني لم أتشاجر معهم، رغم قدرتي على مجابهتهم وضربهم بكل شدة.

أبتسم وأقول: هل هادنتهم لأنهم رجال الملك؟

– لا.. ولكن هم لم يبدأوا بالتحرش بي، وكانوا شباناً أولاد عائلات، ثم إنني كنت أعرف أنني أنا المخطئ، لأنني أقمت علاقة مع كاميليا في الوقت الذي كانت هي فيه حبيبة الملك، وتصورت لو أنه كان عندي أنا عشيقة وحاول أحدهم أن يخطفها مني.. ماذا أفعل؟ أضربه طبعاً!

أسأله: وهل إلى هذا الحد كان الملك فاروق يحب كاميليا ويغار عليها؟

أجاب وكأنه يروي تاريخاً:

– أحبها بجنون، وزاد حبه لها عندما حملت منه وتصوّر أنها سوف تنجب له ولداً يكون ولياً للعهد، لأنه كان سيتزوجها رسمياً لو أنجبت ولداً، ولكن أمله خاب لأن كاميليا أجهضت في الشهر السادس، عندما وقعت من فوق ظهر حصان في أحد الأيام.

وأعود إلى سؤاله: كم شهراً استغرقت قصة الحب بينك وبين كاميليا؟

ويذكر:

– على ما أظن استمرت بين سنة وثمانية أشهر، ثم خافت أمي عليّ من نتائج غضب الملك فاروق فأرغمتني على السفر إلى روما، وجئت لأودع كاميليا فقالت لي إنها ذاهبة بعد أيام إلى جنيف لحضور حفلة راقصة، وقد تواعدنا على اللقاء معاً في روما وهي في طريق عودتها إلى مصر، ولكن القدر.. وقف حائلاً.. دون هذا اللقاء فسقطت الطائرة التي أقلتها من القاهرة، واحترقت كاميليا فوق رمال الصحراء.

وقبل أن «نقفل» موضوع كاميليا: لو أن مواجهة شخصية حصلت بينك وبين الملك فاروق، هل كنت تملك الجرأة على ضربه وهو ملك مصر؟

– وماله.. كنت سأضربه بالشمال واليمين، لأنني عندئذٍ لا أعتبره ملكاً وإنما رجل عادي يخطف مني المرأة التي أحبها، وأنا والحمد لله جريء إلى أبعد حد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.