كانت فكرة انتهاء العبودية في أمريكا لها كثير من المؤيدين بالطبع، إلا أن بعض هؤلاء كان يحلم بشيء مختلف: وهو عودة الأمريكيين الأفارقة الأحرار إلى وطنهم الأم أفريقيا.

هكذا ببساطة قرر الرجل الأمريكي أن ينهي عصور العبودية وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن الأفارقة جميعهم ينحدرون من نفس العرق، وكأن كل تلك أجيال من الأفارقة الذين عاشوا في أمريكا لا يستحقون أن يكونوا مواطنين أمريكيين، طالما أن فكرة العبودية انتهت.

قررت جمعية تعنى بهذا الأمر بناء مستعمرة في غرب أفريقيا وإعادة هؤلاء الأفارقة على أمل إنشاء مستعمرة مزدهرة في أفريقيا وهكذا وجدت ليبيريا. لم تكن ليبيريا أبدًا مزهرة كما روج المؤسسون إنما تركت في الفقر والجهل والحروب الأهلية.

واحدة من المآسي التي تشتهر بها البلد منذ عقود هي شيوع حالات الاغتصاب، لذا لم تملك الفتاة «آنا كوينوه» التي لم تبلغ عامها الثالث عشر من أمرها شيئًا بعد اغتصابها؛ لذا تم تزويجها سريعًا، حيث ولدت طفلها الأول في عامها الرابع عشر ثم ألحقته سريعًا بطفلها الثاني لكن وبعد الولادة الثانية انفصلت عن هذا الزوج الذي قرر أن يبعث أطفاله لتربيهم أمه وأخته الكبرى في «كلارا تاون»، تلك الضاحية العائمة فوق المستنقعات التي تكتظ بالبيوت الصفيح على شكل جيتو مثالي للفقراء.

هذا الطفل الثاني كان اسمه جورج، جورج ويا. نحن الآن رفقة قصة واحد من أساطير كرة القدم في أفريقيا، لكن الأمر ليس كما تعتقد، ليست قصة كلاسيكية عن لاعب أفريقي فقير ستنصفه كرة القدم، بل نحن سنقص قصة طفل عنيد جاء من المستنقع ليصبح ملكًا، نحن رفقة الملك جورج وقصته.

جورج أفريقيا: الفقر يولد العناد

كان على جورج أن يعيش على حليب نساء حي جبل طارق، حيث تم اصطحابه ليعيش مع عمته الكبرى إيما. كبر جورج وأصبح أكثر الأطفال عندًا وشغبًا في المدينة، لم يحترم يومًا أي شخص لمجرد أنه أكبر منه سنًا، حتى إن الجيران ابتهجوا سرًا في اليوم الذي أصيب فيه جورج بحروق من الدرجة الثالثة.

كان يتلقى اللوم دومًا، لماذا لا تصبح مثل أخيك الكبير؟ أنت لا تحقق أي تطور في التعليم ولا تنتهي من إلحاق الضرر بالجميع، كان جورج عقله دومًا في شأن آخر، هو لا يمكنه أن يحلم بأن يكون مثل أي شخص في تلك المدينة؛ لذا كان يحلم بأن يرحل من هنا للأبد.

لم يدرك ويا أبدًا أن كرة القدم التي يلعبها منذ أعوامه الأولى ستكون سبيله لذلك، كانت كرة القدم مثل موسيقى الريجي أو بيع الفشار والتسكع في أزقة المدينة، أشياء يفعلها جورج للهرب من الجميع والركض بحرية دون التفكير في المستقبل. إلا أن كرة القدم كانت الأقرب لقلبه؛ لأن الجميع كان يشهد له بالبراعة دون شك.

لعب جورج في فريق الحي ثم بعض الفرق الليبيرية، لكنه كان دومًا يسبقه سمعته كلاعب رائع لكنه مشاغب، قرر أحدهم أن يعطي له فرصته الأولى بالسفر نحو فريق متواضع في الكاميرون. هكذا أصبح ويا لاعبًا في صفوف فريق «تونير ياوندي» وكان منتخب الكاميرون تحت إمرة رجل شهير محب حقيقي لأفريقيا وهو المدرب «كلود لورو».

قرر لوروا أن يشاهد ويا عن كثب؛ لذا قرر استدعاء اللاعب لمعسكر المنتخب الكاميروني رغم جنسيته، وبعد حصة تدريبية واحدة هاتف صديقه الذي كان يشرف على تدريب موناكو ويعلم الجميع أنه رجل مختلف في عالم التدريب، إنه السيد «أرسين فينجر».

جورج وأرسين: هذا ما كان ينقص القصة

كان ويا فتى جامحًا وكان أرسين مدربًا مؤمنًا باللعبة وتفاصيلها، يؤكد البعض أن فينجر أتى للكاميرون بنفسه ليشاهد ويا، لكن الأكيد أن الاثنين اجتمعا معًا في موناكو عام 1988. كان ويا يفتقر للياقة المناسبة للعب في الدوريات الأوروبية، وكان فينجر يرى فيه لاعبًا عبقريًا لا ينقصه سوى الانصياع للأوامر، وهو الأمر الذي لا يفعله ويا أبدًا ومن هنا نشأت العلاقة الفريدة بينهما.

أدرك فينجر أن سر عناد ويا أنه يفتقر إلى احترام الناس له؛ لذا أعطاه كثيرًا من الاحترام والإيمان وتحدث معه بشكل مباشر أنه يمتلك مقومات أفضل لاعبي العالم، لكن عليه العمل كثيرًا من أجل أن يكون كذلك.

كان يمثل لي قيمة الأب وكان يعتبرني ابنه. عندما كانت العنصرية في ذروتها، أظهر لي الحب. كان يريدني أن أكون في الملعب من أجله كل يوم. إلى جانب الله، أعتقد أنه بدون أرسين لم يكن هناك أي طريقة لأنجح في أوروبا.
جورج ويا

للمرة الأولى كان ويا يؤمن بشخص غيره، لم يمانع ويا جلسات الركض في الصباح الباكر وآخر الليل رفقة فينجر نفسه، وبمجرد أن ارتفع نسق ويا البدني وضعه فينجر في قيادة هجوم موناكو وقدمه للجميع. تألق ويا رفقة موناكو على مدار أربع سنوات ثم قرر الرحيل عن مدربه صوب حديقة الأمراء ليمثل ألوان باريس سان جيرمان ويقطع شوطًا جديدًا تقديم نفسه للعالم.

بعد انتقاله إلى باريس سان جيرمان. انتقد الجمهور بشدة، فكتب المشجعون على لافتة أنه غير مرحب به داخل هذا النادي ولوحوا بأعلام الصليب المعقوف في وجهه، لكنه قرر في المقابل أن يثبت للجميع مدى جودته.

تألق ويا كما لم يفعل أحد من قبل، كان الجميع يرى مهاجمًا متكاملًا من حيث السرعة والمهارة والتهديف، حصل على لقب أفضل لاعب في أفريقيا ثلاث مرات خلال سنواته رفقة موناكو وباريس وأصبح مطلبًا لكل أندية العالم دون استثناء وكان الميلان وحده قادرًا أن يقنع الرجل بأن يكون درة تاج الدوري الأفضل في العالم حينئذ، ووافق ويا.

جورج الميلان: الحنين إلى بجعة اوترخت

كان فان باستن في ذهن جماهير الميلان مثل حلم جميل انتهى فجأة، وفي كل مهاجم جديد كانت الجماهير تنتظر أن تعود للحلم الذي لم يكتمل، وحده ويا هو من شفى جرح جماهير الميلان من الحنين إلى بجعة أوترخت، الذي ظن الجميع أنه غير قابل للشفاء.

انفجر ويا في الميلان على أرض الملعب وأثبت أنه الأفضل في العالم دون شك وتوج بالفعل بالبالون دور على حساب الجميع، وهو الأفريقي الوحيد الذي استطاع فعلها حتى الآن، كانت كل مباراة بمثابة عرض جديد لهذا المهاجم ينتظره مشاهدو كرة القدم في العالم أجمع حتى إن فيديوهات التعريف عن الدوري الأيطالي لا تخلو من هدفه الشهير أمام جيرونا. لكن ويا كان أبسط من كل ذلك.

كان ينتظر أيام الراحة للعب مباريات السلة رفقة بعض الزملاء، أو التوجه إلى كوت دازور في فرنسا لمقابلة أصدقائه القدامى، كان ذلك يغضب المسئولين في الميلان، وبمجرد تعرضه لحادث سير على طريق ميلان فينتيميليا واجه اللوم الشديد من المسئولين في النادي.

نفس اللوم الذي عاش حياته يهرب منه يومًا بعد يوم، ونفس التقييد الذي عاش ليثبت أنه لا يحق لأحد ممارسته ضده وجده ثانية بعد كل ذلك.

أنهى ويا المناقشة على النحو التالي: حدث ذلك يوم الإثنين. ويوم الإثنين هو يوم إجازتي وأنا رجل حر.

كان يعطي كل روحه لأرض الملعب؛ لأنه هناك يشعر بالحرية، وهناك يعرفه الجميع باسم الملك جورج، أما خارج الملعب فكان مسئولو الميلان يخافون عليه كاستثمار لا غنى عنه في الفريق. لكنه كان يفعل ما يحلو له ضاربًا بكل قواعدهم الحائط، لكن مع الوقت كان هناك شرخ في العالقة بين ويا وإدارة الميلان، ووجد الرجل نفسه مهاجمًا ثالثًا بعد بيرهوف وشيفتشينكو لذا قرر الرحيل.

رحل ويا نحو إنجلترا مصحوبًا بهالة كبيرة ومخيفة للجميع، لكنه لم يكن ويا أبدًا، وخلال موسمين رفقة تشيلسي والسيتي، كان الرجل يعرف أنه لن يعود ويا الذي اعتاده الجميع.

ويا ليبيريا: الجذور

لم ينسَ ويا أصوله أبدًا، بل ظل دومًا مرتبطًا بأحياء ليبيريا الفقيرة. حتى إنه بمجرد وصوله إلى إيطاليا ليلتحق بالميلان، ذهب إلى صاحب متجر ميلانو وحصل على قميص الفريق وأمر بطباعة اسم «بانبي» عليه وإرسال الطرد إلى مونروفيا عاصمة ليبيريا. كان بانبي هذا صديقًا رائعًا له، وقد استلم الهدية ليبقى أهم رجل داخل ليبيريا حينئذ.

يؤكد البعض أنه دعا الأصدقاء والأقارب والمعارف البسيطة إلى ميلان وأقاموا في منزله ثم أخذهم إلى النادي لمشاهدة التدريب.

عاد ويا إلى ليبيريا واشتغل الرجل بالسلك السياسي رغم أن البعض استنكر الأمر في البداية لكنه كان يعمل وهو يؤكد للجميع أنه الوحيد الذي شاهد القصة من الداخل. لقد أتى من صفوف الفقراء ويعرف جيدًا ما يحتاجونه واستطاع بعد محاولته الثانية أن يصبح رئيسًا لتلك البلاد.

يقولون إنك عندما تقول الملك جورج يجب أن تحدد أي ملك إنجليزي تقصد، أما في عالم كرة القدم فيكفي أن تقول الملك جورج ليعرف الجميع أنك تعني جورج ويا… الملك الأول والأخير.