رحلة جوية مليئة بالدلالات، أبرزها أنها أول رحلة جوية في التاريخ العربي تنطلق رحلة رسمية وعلنية من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إسرائيل بعد اتفاق التطبيع التاريخي الذي وقعه الطرفان. لكن تحت تلك الدلالة توجد إشارات عدة أرادت إسرائيل أن ترسلها عبر أدوات أقل وضوحًا مثل نوع الطائرة التي اختارتها للرحلة، واسم الطائرة أيضًا.

أمّا نوع الطائرة فقد اختارت إسرائيل أن يكون من طراز بوينج 737، الطائرة مزودة بنظام تشويش شديد التقدم ومحمول جوًا، وقد أضافت لها شركة «إل عال» نظام الحماية المُسمى درع السماء، والذي لا تصنعه سوى شركات الفضاء والطيران الإسرائيلية. لهذا السبب اختارت إسرائيل في اللحظات الأخيرة تلك الطائرة بدلًا من الطائرة دريم لاين787 لأنها غير مزودة بنظام سكاي شيلد، الدرع السماوي.

أمّا اسم الطائرة، «كريات جات»، فهو اسم أكبر المستوطنات الإسرائيلية التي أقامتها عقب نكبة 1948 مباشرة، المستوطنة أقيمت على أنقاض بلدتي عراق المنشية والفالوجة الفلسطينيتيّن، تقعان في شمال غزة. كريات جات بدأت كمستوطنة إسرائيلية منذ الاحتلال البريطاني بين عراق المنشية والفالوجة، لكنها استمرت في التوسع وتهجير وتشريد أهالي القرى المجاورة.

ويتناقل عنها الفلسطينيون رواياتٍ كثيرة عن مقاومتها الباسلة ضد الإسرائليين، تقول إحدى الروايات إن الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر قد شارك بنفسه في إحدى حامياتها ومعه كتائب من الجنود المصريين. ما يُذكر بحصار الفالوجة عام 1948، الواقعة بين مدينة الخليل وقطاع غزة، وهي النقطة الواصلة بين جنوب وشمال فلسطين. كما أنها كانت آخر نقاط المواجهة بين الجيش المصري والأهالي الفلسطينيين جنبًا إلى جنب ضد القوات الإسرائيلية.

الجنود المصريون يدفعون ثمن إقامتهم

لكن حاصرتها إسرائيل لمدة 6 أشهر وقُطعت خطوط إمداد الجيش المصري، لكن صمد الضبع الأسود، السيد الطه، قائد اللواء المصري الرابع. الضبع الأسود لم ينسحب رغم أن الأوامر ظلت تتتابع عليه تطالبه بالانسحاب، واستدعته القوات الإسرائيلية تنذره بمهملةٍ محددة للانسحاب، لكنّه عاد من اللقاء ليُحفز جنوده نحو مزيد من المواجهة.

لم تتوقف القوات الإسرائيلية عن دكّ القرية بالقذائف، ولم تصل الإمدادات المصرية للجيش، فاضطرت القوات المصرية لاستهلاك موارد القرية، لكن مع كل موردٍ يستنزفه المصريون كانوا يعطون لأهالي القرية فواتير موثق فيها قيمة وكمية ما أخذوه بالضبط كي يقوم الأهالي باسترداد الأموال من مقر القيادة المصرية في الضفة الغربية.

كل تلك المقدمات لم تجعل أي سيناريو ممكنًا سوى الهزيمة للجنود المصريين، ومع توقيع اتفاقية جزيرة رودس في فبراير/ شباط 1949 انتهى الحصار وانسحبت القوات المصرية من الفالوجة. من نصوص الهدنة أن من يرغب من المدنيين الفلسطينيين في البقاء في الفالوجة وعراق المنشية فله الحق في ذلك، لكن في آخر فبراير/ شباط لم تلتزم إسرائيل بالهدنة، وبدأت في سياسات ترهيب وتهجير الأهالي إلى مدينة الخليل وقطاع غزة.

مصطفى كبها، مؤرخ وكاتب دفاتر النكبة، ذكر أن أرض البلدتين شهدتا استشهاد أكثر من 100 فلسطيني، وعربي، قبل سقوطها في يد الإسرائيليين. رازي نابلسي، الباحث الفلسطيني في مركز مسارات للدراسات السياسية، يصف المستوطنة أنها باتت مصدرًا للأمراض المعدية التي تفتك بالفلسطينيين.

مركز تكنولوجي على أنقاض المقاومة

لحظة خروج الأهالي من المدينة حوّلتها إسرائيل لمعبروت رسميًا عام 1954، المعبروت تجمع من الخيّام تؤسسه إسرائيل كاستيعاب مبدئي لليهود الوافدين من الخارج للعيش فيها. افتتحتها 18 عائلة من المغرب، ثم عائلات تونسية، وبتتابع الأعوام زادت الأعداد حتى بلغت 17 ألف ساكن عام 1970.

وحين حلّ عام 2012 كان اليهود قد بلغوا قرابة 95% من سكان المدينة، لكن من جنسيات مختلفة كشمال أفريقيا وإسبانيا والبرتغال، وبلغ عدد السكان إجمالًا قرابة 54 ألفًا.

لم تترك إسرائيل المدينة وظلت تعمل في تطويرها حتى منتصف التسعينيّات دخلت عملاق التكنولوجيا الأمريكية، إنتل، بافتتاح مصنع لها في المدينة بقيمة مليار دولار، تستثمر إسرائيل فيه 600 مليون دولار، ومنذ افتتاحه عام 1999 بدأ المصنع عمله وباتت المدينة المنكوبة من المدن التكنولوجية الرائدة في إسرائيل. وعمدتها الحالي، أفيرام دهاري، دارس لهندسة البرمجيات وكان يعمل في شركة نورتل الكندية للاتصالات.

وفي عام 2006 وضعت الشركة حجر الأساس لمصنعها الثاني في المنطقة، لكن ذلك لا يخفي حقيقة أن كريات جات فيها أعلى نسبة بطالة في إسرائيل، ما دفع وزير الاقتصاد الإسرائيلي للإعلان عام 2009 أن شركة إنتل سوف تستثمر 11 مليار دولار في مصنع ثالت.

ذهاب وعودة: أرقام لها معنى

كذلك قد حملت الطائرة رقم «إل واي 971»، رمز الاتصال الدولي بالإمارات، ويُتوقع أن تحمل طائرة العودة رقم 972، رمز الاتصال الدولي بالإمارات. لمزيدٍ من الدلالة على التواصل والتناغم بين الطرفين، ما تعكسه أيضًا كلمة سلام التي كُتبت بـ 3 لغات، العربية والإنجليزية والعبرية.

كل ذلك يبدو استجابةً لكلمة مستشار الرئيس الأمريكي، جاريد كوشنر، أنه ليس من المنطقي أن نجعل الماضي يُملي علينا الحاضر. فالطائرة لم تُحلق فوق الأجواء السعودية أو الإماراتية فحسب، بل حلقت فوق تاريخ كامل متجاوزة إياه، نحو مستقبلٍ جديد تراه القيادة الإماراتية والإسرائيلية.

في ذلك المستقبل يتوقع الطرفان بلورة خطة عمل تدفع العلاقات الثنائية بين البلدين قدمًا في مجالات عدة. أما بيني جانتس، رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتناوب ووزير الجيش، فقال إن العلاقات الجديدة سوف تخلق مجالات تعاون عدة في الزراعة والعلم والطب والثقافة والمواصلات.

لكن لم يذكر أحد الشراكة الأمنية أو احتمالية تقديم المقاتلة الأسطورية «إف-35» للإمارات، والتي تبدو من أبرز دوافع الإمارات لهذا الاتفاق، لكن حتى لو لم يتم هذا الحلم الإماراتي، فإنه لا يغير من واقع الزيارة ومدى تأثيرها وعمق ما تحمله من دلالات في كل ثناياها.