التحليق في الخيال لم يعد صعبًا في أيامنا هذه، كلنا نفعله كل يوم بلا انتباه، يكفينا أن نغرق بين صفحات كتاب ممتع أو نندمج في مشاهد فيلم متقن، والكثير منا يلجأ لشيء ثالث أكثر تفاعلاً: الألعاب الإلكترونية.

أحببتُ هذا النوع من الخيال منذ صغري، حتى قادني الحظ لحضور تجربة لعبة عربية فريدة يتم تدشينها الآن، ولكن لنحكِ قليلاً عن الألعاب نفسها، هل تستحق منّا الاهتمام كغيرها من الفنون؟

الألعاب ليست لهوًا

في أحد الأعداد الأخيرة لسلسلة «فانتازيا» للأديب الراحل أحمد خالد توفيق، يقول رجل أعمال داهية لـ «عبير» بطلة السلسلة:

الألعاب ليست إلا نوعًا من قص القصص بشكل تفاعلي، السينما مثلاً تجعلك تتقمصين الشخصية لكنك عاجزة عن تغيير سلوكها على الشاشة، بينما ألعاب الفيديو تسمح لك بأن تكوني متفرجة ومؤلفة ومخرجة في الوقت ذاته.

هذه الكلمات تلخّص الكثير مما أريد قوله عن الألعاب الإلكترونية، تلك الصناعة الحديثة جذبت الملايين أمام الشاشات، مضاهية السينما وكرة القدم وبقية الثقافات المحببة للجمهور. لقد سافرت الألعاب لنا كعرب في أواخر القرن الماضي على شكل أجهزة «أتاري» و«سيجا» و«نينتندو» وكلها منسوبة لشركات أجنبية وغالبًا يابانية، ومنها ما حمل بصمة عربية بشكل ضئيل في أجهزة «صخر» الشهيرة في التسعينيات.

غلاف لعبة «تحت الحصار» العربية من إنتاج سوري لعام 2005.

على مر السنوات، تطورت الألعاب وتطور سحرها من الشرائط إلى الأقراص المدمجة إلى الهواتف الجوالة، وبدأت المحاولات العربية الجادة تبزغ منذ بداية الألفية، فأولها كانت لعبة «تحت الرماد» بتطوير سوري عن مقاومة الكيان الصهيوني في فلسطين، وأتبعها الجزء الثاني بعنوان «تحت الحصار» ثم توالت الألعاب الشبيهة المعبرة عن الهوية العربية الثرية.

يكفيك أن تلقي نظرة على الإنترنت لتجد ألعابًا مثل «أسطورة زورد» الإماراتية، ولعبة «قريش» السورية الإستراتيجية عن فترة البعثة النبوية، وآخر المحاولات المرموقة جاءت من المملكة العربية السعودية في شكل لعبة «الركاز في أثر بن بطوطة» حول جولات الرحالة العربي الأشهر، ثم لعبة «بادية» عن بيئة العرب الصحراوية الصالحة لمغامرات السفاري الممتعة.

فرسان النور: الأضخم حتى الآن

لم يكن حظ الإستديوهات المصرية من تطوير الألعاب كبيرًا، فأول لعبة تتبادر للذهن عند ذكرها ستكون «بوحة» أو «أبو حديد» التي طورّها فريق مصري عام 2007 اعتمادًا على الفيلم الشهير للفنان محمد سعد، وكانت كما أذكرها فقيرة من ناحية التحكم والرسوميات برغم المجهود الواضح، فالألعاب الإلكترونية تتطلب ميزانيات مليونية بلا مبالغة، فضلاً عن عدد هائل من المبرمجين والفنانين.

لعبة «بوحة» المصرية، من إنتاج عام 2007، قبل تغيير اسمها إلى «أبو حديد».

هنا يأتي إستوديو «رامبلنج» للألعاب، ليعلن عن مشروعه الأكبر، لعبة بفريق عربي كامل تقريبًا، تستلهم من التاريخ الإسلامي قصتها ومن الصحابة أبطالها، كيف لا، واسم الاستوديو نفسه Rumbling أي «القعقعة»؟ وهو مستوحى من اسم الصحابي «القعقاع بن عمرو التميمي» بطل لعبته الأولى «فرسان النور» حول معركة القادسية، وبتصنيف (AAA) وهو في عُرف هذه الصناعة أعلى فئات الألعاب تكلفة وعملاً.

فكرة المشروع

أحمد فؤاد، مخرج اللعبة ومديرها التنفيذي، تنقل بين عدة مجالات للعمل، بدأها من الإرشاد السياحي الذي درسه بالجامعة، ثم إلى برمجة المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الجوالة، ومنها إلى تأسيس شركة كاملة في هذا المجال باسم «زون تك».

ملصق دعائي للعبة «فرسان النور».

قادت البرمجة نفسها «فؤاد» إلى فرع آخر منها وهو الألعاب، خاصة مع برمجته لألعاب بسيطة على الهاتف الجوال، لكن مع بحثه في تفاصيل الألعاب الأكبر حجمًا وصناعة، عرف أن شركة Epic Games الأمريكية تتيح محرّكها الشهير Unreal مجانًا للجمهور، وهو ما يعني فرصة عظيمة لكل من يحلم بتصميم لعبة متقنة، بما يوفره المحرّك من أموال طائلة.

محرّك الألعاب Game Engine هو البرنامج الأساسي لتصميم اللعبة، ومحرّك Unreal تحديدًا تم استخدامه في صناعة ألعاب عديدة فائقة النجاح، أشهرها PUBG، التي أحدثت ثورة حقيقية على كافة الأجهزة المشغلة للألعاب، وبعد توافر المحرّك خطرت الفكرة لأحمد فؤاد مباشرة؛ لماذا لا يصنع مع فريقه لعبة ضخمة تقوم على الثقافة العربية وكذلك التاريخ الإسلامي؟

لماذا القعقاع والقادسية؟

تمويل اللعبة والبحث عن الموهوبين أصبح متاحًا الآن، وذلك عبر شركة «زون تك» الخاصة في الخدمات البرمجية، سيكون إستوديو رامبلنج بمثابة فرع آخر من الشركة، وبدأ تجميع فريق اللعبة من خريجي كليات البرمجة والعاملين في مجال الألعاب من المصريين، لُيكتب أول سطر من الكود البرمجي للعبة عام 2015.

القعقاع وأخيه عاصم التميمي على الملصق الرسمي للعبة فرسان النور.

الفكرة كانت في ذهن «فؤاد» منذ البداية، فعمله كمرشد سياحي جعله مهتمًا بالتاريخ بالضرورة، وقصة «القعقاع بن عمرو التميمي» بطل معركة القادسية الشهير ضد الفُرس كانت مغرية بشدة، خاصة بعد المسلسل المعروض عن حياته عام 2010، ولكن مع الوقت تغير فكر فريق اللعبة إلى تعميم المشروع إلى الفرسان المسلمين بشكل عام، ليصير الاسم «فرسان النور» توطئةً لعمل سلسلة تضم صلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وغيرهم من عظماء قادة المسلمين.

وجهة نظر مخرج اللعبة وفريقها ليست وعظية في اختيار موضوع تاريخي إسلامي كهذا، لكنهم حرصوا على تقديم ثقافتهم العربية لأنهم الأولى بها من غيرهم، وتناول ثقافة أخرى سيُعد تكرارًا رتيبًا، كما أن الألعاب ذات الطابع الشرقي أثبتت نجاحًا كبيرًا مثل Assassin’s Creed.

القصة: من روائي وباحث

محمد عبد القهار، مُبرمِج مصري خريج كلية الهندسة، انضم أيضًا لفريق اللعبة ولكن كمؤلف وسيناريست هذه المرة، فقد اختار الكتابة الروائية التاريخية إلى جانب تخصصه الهندسي، وله بالفعل روايتان في هذا المجال هما «سراي نامة: الغازي والدرويش» عن نهاية عهد الدولة العثمانية، ورواية «غارب» عن قائد جيوش غرناطة في حصارها الأخير، بالإضافة للكثير من المقالات التاريخية القادمة من قلب المراجع والوثائق.

سعى عبد القهار بنفسه للاشتراك في مشروع اللعبة بمراسلة الفريق وإبداء رغبته في العمل معهم، فهو يرى أنها تجربة ثرية وجديدة، ستجعله للمرة الأولى يكتب بشكل جماعي مع الفريق، برغم أن الكتابة كما يراها «عمل أناني» في العادة، إذ يتكفل المؤلف بفكرته وصياغته وكتابة عمله بالكامل.

هذه المرة يعمل الروائي مع فريق كامل ويراعي ملحوظاتهم وتفاصيل عملهم، كما انضم إليهم أستاذ التاريخ في جامعة تورنتو الدكتور «آدم علي»، لكتابة أكثر دقة وتفصيلية عن الفترة التاريخية المتناولة في اللعبة، حيث تدور في العراق سنة 630م، لترصد الصراع الشيق بين القبائل العراقية، والخلاف العقدي والعرقي بينهم، وتبدأ اللعبة بمعركة الحصيد التي قادها القعقاع ضد الفرس.

اعتمد محمد عبد القهار على المرجع الأشهر «تاريخ الطبري» والأطالس التاريخية للفرق والمذاهب لمؤلفها «سامي بن عبد الله المغلوث»، مع عدم الالتزام بالحرفية التاريخية كحال أغلب الأعمال المستلهمة من التاريخ، فالأساس هو الإمتاع والتفاصيل التي تخدم القصة الإنسانية، هكذا شأن الفن في استلهامه كما يرى المؤلف، واللعبة ستكون نافذة جديدة وشيقة لعرض هذا التاريخ الثري.

استغرقت الكتابة سنة ونصف السنة، ويرجو الروائي الشاب أن يخرج العمل بصورة لائقة ترضي الجمهور، خاصة أنه أول أعماله منذ روايته «غارب»، ومن الممكن كذلك أن تخرج اللعبة في صورة رواية مصورة فيما بعد، إذا حققت النجاح اللازم.

اللعب بجدية

فريق ستوديو «رامبلنج» يتكون من 20 فردًا بالتقريب، ما بين العاملين بدوام كامل أو عن بُعد، وإنجاز لعبة كاملة بهذا العدد يحتاج حتمًا إلى وقت أطول من اللازم، وقد كان. 4 سنوات كاملة من الحرب والقعقعة بين برامج التصميم والبرمجة، وحين ترى الفريق مجتمعًا للعمل لن تتخيل أنهم يصنعون «لعبة» في النهاية.

كل فرد منهم يجلس أمام شاشتين عملاقتين مرتبطتين ببعضهما، يتحرك مؤشر الفأرة من هذه الشاشة ليذهب للأخرى في مشهد لا تراه كثيرًا، والسبب هو كثرة العناصر التي يريد المبرمج أو المصمم أن يتحكم بها بسرعة وسلاسة.

جزء من فريق لعبة فرسان النور.

طبعًا كان هذا شيئًا قليلاً بالنسبة للعبة من فئة (AAA)، نحن لا نتحدث عن لعبة بسيطة، بل عن شخصيات مرسومة بعناية وقصة تضارع الروايات المعقدة، وبالطبع أسلوب لعب فريد وتفاصيل متناهية الدقة، والهدف الأهم أن يخرج العمل بجودة الألعاب الناجحة مثل The Witcher مع تحكم قتالي ممتع كلعبتي Shadow of Mordor وDevil may cry.

اعتمد الفريق على مدرب فنون قتالية خصيصًا لضمان جودة الحركات وضربات السيوف في المعارك، واللعب سيكون بشخصيتين مختلفتين في القدرات: الأول هو «القعقاع» القوي ضخم البنية، والثاني أخوه «عاصم» الرشيق سريع الحركات، والأسلوب القتالي لا يشمل الحرب بشخصية واحدة فقط بل بسرايا كاملة تهاجم معًا بتشكيلات حربية ممنهجة.

المطورون بالفريق منهم من عمل في ألعاب أخرى هامة مثل Assassin’s creed، وبينهم المتخصصون في الأزياء لاختيار ثياب الحقبة القديمة، كما ضموا مُصمم المواقع الذي رسم بيئة العراق كاملة بكل قبائلها وصحرائها في هذه الحقبة العتيقة، ويتولى الدبلجة العربية للشخصيات نفس الإستوديو الذي عمل على لعبة Shadow of Tomb Raider التي لاقت الكثير من الإعجاب، والفريق عمومًا يحتاج لشرح طويل لذكر مهامه المختلفة والمتنوعة مما يستحق مقالاً كاملاً.

ستخرج اللعبة في نسختها القصيرة على موقع Steam في الربع الأول من عام 2020، ويستطيع المشتركون وضعها على قائمة الأمنيات كي تصلهم بمجرد صدورها، ويرجو الفريق بكامله أن يترك بصمة جيدة تلفت نظر مجتمع الألعاب العالمي للمطورين العرب وثقافتهم الثرية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.