الله أكبر هذه آياتنا فاقرأ: باسم الفدائي الذي خلقَ من جزمة أفقا، باسم الفدائي الذي يرحل من وقتهم لندائه الأوّل، الأول والأول، سندمر الهيكل
محمود درويش: في مديح الظل العالي

بداية الكابوس

لا يمكن تحديد نقطة بدأت منها عمليات الطعن، فهي موجودة متناثرة على امتداد عمر النضال الفلسطيني؛ لكن يمكننا النظر إلى تلك العمليات التي أوجعت إسرائيل بشدّة، لرمزيتها العالية ولأنها تجيء في وقت يراهن فيه رئيس بلدية القدس اليهودي مغربي الأصل نير بركات على أسطوانة التعايش المشروخة.

(نير بركات مدير بلدية القدس يحمل في يده بندقية)

تكمن أهمية العمليات التي حدثت مؤخرا في القدس أن من بين منفذيها، أسرى سابقون أفرج عنهم في صفقة وفاء الأحرار ومن بين هؤلاء، الشهيد المقدسي معتز حجازي.

بالنسبة لشهداء كمعتز حجازي والذي ينتمي إلى فصيل الجهاد الإسلامي؛ يتوقف الزمن عند اللحظة التي اعتقل فيها، فالشهيد كان قد اعتقل في انتفاضة الأقصى سنة 2000 أثناء دفاعه عن الحرم القدسي، ومن البديهي أنه حينما خرج كان قد عاد ليكمل ما بدأه. سنة 2014 وصلت اقتحامات الأقصى ذروتها، فضلا عن الوعيد المستمر من الحاخام يهودا غليك بتحويل المسجد إلى هيكل في وقت قريب، وتزعمه العديد من عمليات الاقتحام.

ليقوم صبيحة يوم 30 أوكتوبر من 2014 بمحاولة اغتيال غليك بإطلاق الأعيرة النارية صوبه من مسافة صفر، لم تتمكن إسرائيل من معرفة هوية المنفذ لأسابيع، حتى توجهت قوة خاصة إلى بيت الشهيد في قرية سلوان- القدس، واغتالته بدم بارد على سطح البيت، لتتركه مضرجا بدمه لساعات.لكنّ الانتقام لحجازي كان أكثر ما ستتحمل إسرائيل تكلفته، مزيجًا من بدائية أسلحة الانتفاضة الأولى، ونوعية عمليات الانتفاضة الثانية.

بدأت عمليات الطعن في القدس تستمد زخمها من الملحمة البطولية للشهيدين عدي وغسان أبو جمل المنتميين لـ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث توجها صبيحة يوم الثامن عشر من نوفمبر العام الماضي، نحو قرية دير ياسين المهجرة سنة 1948، والتي ارتكبت فيها مذبحة تطهير عرقي من قبل عصابات الهاغاناه، وعيونهما على كنيس مشيد مكان المذبحة، ليقطّعا بالبلطة والسكين، 5 صهاينة ويصيبا ثمانية بجروح خطيرة.

هرعت الشرطة إلى المكان، وأطلقت عليهما النار لترديهما شهيدين. فجّر بيت الشهيدين ليلة أمس فقط، فيما كل القدس تنتفض بالأسلحة البيضاء.

هُنا؛ كانت قد أضحت عمليات الطعن جزءًا من روتين الحياة في القدس. تبعها بشهر تقريبًا، عملية طعن جديدة في أزقة البلدة القديمة، وتحديدا عند باب الأسباط المؤدي للمسجد الأقصى المبارك:

شتاء سنة 2014، كان الأصعب على إسرائيل منذ سنين؛ فقد كان على الاحتلال أن يبدأ فصلا جديدا من فصول مواجهة المقاومة الفلسطينية، مقاومة فردية لا يظهر فيها اسم التنظيم إلا كي ينعى الشهيد؛ ما يعني أن صعوبة هذه العمليات تكمن في أنها مبادرات من أشخاص، يفكرون بين ليلة وضحاها وانطلاقا من شعور ذاتي بالمسؤولية تجاه القدس بالانتقام. عمليات لا تستطيع أي أجهزة تنصُّت إحباطها، لأن كل الحوار الذي يتعلق بها، كل السيناريو المخطط لتنفيذه موجود في خلد رجل واحد وحسب. مواطن فلسطيني عادي/غير عادي.


أسبوعان في الجحيم

طيلة النصف الأول من العام الجاري، وعمليات طعن ودهس متفرقة تقضُّ مضجع الكيان بين فترة وأخرى، من بينها عملية دهس للشهيد إبراهيم العكاري -أسير محرر في صفقة وفاء الأحرار- في نوفمبر من العام الجاري.إلا أن أشد هذه العمليات صعوبة كانت تلك التي ستدفع برئيس بلدية احتلال القدس، إلى نزع البزة الرسمية والخروج إلى الشوارع على هيئته الصهيونية الأولى «الكيباة» على الرأس، والرشاش في اليد، خطوات متسارعة جيئة وذهابا في عرض الشارع.منذ قرابة الأسبوعين والقدس تنتفض، سكاكين تمزق أحشاء تل أبيب وأوسلو؛ تصل الضفة بالقدس من جديد بالدّم بعد أن حال بينهما الاسمنت لعقد من الزمان. فهل كان الجدار العازل مشيدا بالفعل؟ يقول الشهيد مهند الحلبي ساخرًا «لا».

يظهر الشهيد مهند في مقطع فيديو مُقبلاً يد والد الشهيد ضياء التلاحمة الذي اغتيل بدم بارد أثناء اقتحام قوات الاحتلال مدينة الخليل في الضفة الغربية.

لكنه بعد أيام سيتوجه للصلاة في القدس، وبحسب شهود عيان فإنه ورفاقه كانوا قد وجدوا بوابات المسجد الأقصى موصدة، فهو شاب من أقاصي رام الله اتجه نحو القدس للصلاة بطريقة تليق بالمدينة وحدها.

الشهيدان ينتميان لفصيل الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية

هرول الشهيد بقميصه الأسود وجسده النحيل على بعد أمتار من مستوطن يحاول النجاة بحياته، يطعنه مرة، اثنتين حتى يقضي عليه، وتحت منزل استولى عليه رئيس الوزراء السابق آرئيل شارون في البلدة القديمة، ينزل مجند لإسعاف المستوطن، لكن مهند سيحسب منه السلاح ويغتاله ويصيب اثنين آخرين بجراح خطيرة. ليترجل مهند الحلبي عن الحلم إلى الشهادة.


حماس .. مرة أخرى

لم يكن يتطلب الأمر أكثر من رجلين كـ مروان القواسمي وعامر أبو عيشة، وانتماءً لحركة حماس، ومدينة هي الخليل، كي يتم اغتيال 3 مستوطنين قرب مستوطنة كريات أربع بعد اختطافهم، ليرد المستوطنون بإحراق الطفل المقدسي محمد أبو خضير حيا في أحراش دير ياسين بعد اختطافه في إحدى ساعات فجر رمضان الماضي.

ما سيشعل القدس لثلاثة أشهر، ليتعرف الجيش الإسرائيلي عن كثب على جيل مختلف من الفلسطينيين، يتصرف من تلقاء نفسه، وبأشد الأسلحة بياضا. وما سيتيح للمقاومة لأول مرة أن تصرّح بأن انقطاع العلاقات مع إيران والنظام السوري ليس نهاية العالم.

فالصواريخ القسامية محلية الصنع ستدك القدس، وستسقط في أماكن للمستوطنين فقط، ما يعني أن هذه الصواريخ ليست طويلة المدى إلا أنها دقيقة التحديد كذلك.

ويدخل قطاع غزة في حرب عرف جميعنا نتائجها.

وفي هذا العام أيضا، ستقوم خلية لحماس في مدينة نابلس بالشيء ذاته، فلم يكن الأمر يتطلب أكثر من اغتيال ضابط صهيوني سابق في جيش الاحتلال مع زوجته في سيارة على طريق بيت فوريك لتقوم القيامة ولا تقعد، ويعلَن عن اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، يتوسم فيها المحاربون خيرًا، ويقول محللون أنها ليست بأكثر من هبّةٍ لعوامل عديدة لم تكن موجودة حينما اندلعت الانتفاضتان الأولى والثانية.

أبرزها أن نقاط الاشتباك كانت فيما مضى بين فلسطينيين ومستوطنين على نقاط تماس بحيث لم يكن يفصل بين المستوطنين والفلسطينيين أكثر من شارع، لكن تكتل المستوطنات اليوم، والطرق الالتفافية الكبرى تجعل احتدام المواجهة ودمويتها أشد فتورا عن سابقتيها، ولهذا كل العيون متجهة صوب المدينة الأشد رمزية، والمدينة أشد اكتظاظا بنقاط التماس: نحو القدس.

فهل نحن على أعتاب انتفاضة أولى، ثانية؟ بالنظر إلى أساليب المقاومة، يمكن قول هذا. لكنني أثق أن الأحداث الكبرى ستكون في القدس.

فاليوم فقط، وقعت 4 عمليات طعن، اثنتان منها في القدس، وبالنظر إلى آخر سنتين، ومع تعداد عمليات الدهس والطعن في القدس فقط، سنكون أمام فصول جديدة من النضال الفلسطيني، لا نستطيع أن نجزم بمآلاتها.


إجراءات انتقامية

555555555
قد ينتهي الحدث بالنسبة إلينا هُنا؛ عند اللحظة التي يغمض فيها الشهيد جفنيه. لكنه بالنسبة إلى أهالي الشهداء والمعتقلين يكون قد بدأ للتو.

تلجأ إسرائيل إلى أساليب العقاب الجماعي بحق أهالي الشهداء. حيث يعتبر استشهاد المنفذين فرارا من القصاص المحتوم، وكلما كان قدر الإبداع في تنفيذ عميلات الطعن والدهس كبيرًا، كان مقابله تفنن غير مسبوق في إذاقة أهالي الشهداء مرارا إضافيا.

في بعض الحالات تلجأ إسرائيل إلى هدم بيوت ذوي المنفذين، لكنها ومنذ فترة قريبة ابتكرت عقابا من نوع مختلف، يسمى ‘‘سكب البيت بالباطون’’؛ والباطون في الدارجة الفلسطينية يعني الإسمنت. حيث تأتي شاحنات الاسمنت في عز الليل/النهار، وتبدأ بمد أنابيب عريضة إلى داخل بيت أهل الشهيد، وفي أحيان أخرى إلى غرفته هو وحسب.

يعني سكب البيت بالباطون أن إعادة استصلاح البيت ستكون بالغة الصعوبة والتكلفة، حيث تمتلئ الغرف جميعا بالاسمنت من الأرضية إلى السقف، وعمليا، ستعني عملية إعادة استصلاحه أن عشرات الجرافات ستواجه صعوبة في كسر كتل هائلة من الاسمنت المضغوط.

وفي الحالات التي تلجأ إسرائيل بها إلى صب غرفة واحدة فقط بالاسمنت، سيعني ذلك أن كتلة البناء قد ازداد ثقلها بما لا يسمح له مخطط البناء الأصلي، ما قد يضمن انهيارا في البيت بعدها ببضع سنين، ويعتمد هذا العقاب إن كان بيت الشهيد موجودا في بناية سكنية. كما نرى؛ تعتمد إسرائيل كثيرا على عامل الزمن.

في هذا الفيديو يلتقط جنود الاحتلال«السيلفي» أثناء سكب غرفة الشهيد معتز حجازي بالباطون :

قد ننظر إلى هذه العمليات على أنها ضئيلة النتائج، فالسكين تطعن واحدا أو اثنين لتترك ملايين آخرون يمارسون حياتهم بشكل طبيعي. إلا أنّ هذا غير صحيح؛ في الحرب الأخيرة على قطاع غزة كان النقب خاليا بنسبة 70% من المستوطنين بسبب زخم قذف صواريخ المقاومة.

ما يعني أن هذه العمليات، على قلة حصادها المادي، تحصد من الدمار النفسي ما لا يظهر على الشاشات ولا تعتدُّ به نشرات الأخبار.

إنها تُبقي دائما وهج التساؤلات لدى المستوطنين متقدا، «من نحن» و «ما الذي جاء بنا إلى هنا» و «لدي جواز فرنسي على كل حال، لماذا لا أغرب عن هذه الأرض» و «لماذا يحاربوننا».

وفي الختام، لا يسعني أن أقول إلا ما قال غسان كنفاني ذات مرةٍ:

إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح، إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه