لم تكن كلمة كوسوفو مشهورةً في الإعلام العالمي أو العربي، لكن فجأة أصبحت كذلك. مجزرة راح ضحيتها 45 شابًا من العرقية الألبانية السائدة في كوسوفو. الصور لم تنقل قتل الشباب فحسب، بل صوّرت الوحشية التي تم بها تمزيقهم والتمثيل بهم. أصابع الاتهام لم تستغرق وقتًا طويلًا حتى تجد متهمًا تشير إليه، قوات الأمن. لكنها قوات الأمن الصربية التي تواجدت في إقليم كوسوفو قبل المجزرة بشهور.

الإقليم ارتفعت فيه الأصوات المطالبة بالاستقلال عن صربيا، فتدخلت قوات الأمن لتقمع هذا التمرد، فاستحال الأمر إلى حرب عصابات مفتوحة بين الطرفين، قوات الأمن الصربية وجيش تحرير كوسوفو. لكن مع تسرب صور مجازر الصرب بدأت الإدانات الدولية في التساقط على رؤوس الصرب، حتى من قبل الروس أكبر حلفاء الصرب، والمشتركة معهم في عرقهم السلافي واعتناقهم المسيحية الأرثوذكسية.

لكن المفاجئ أو المعتاد، أنه رغم تصاعد تلك الإدانات الدولية فلم يرتدع الصرب. بل زادت حدة القمع مع زيادة المقاومة. كان ذلك العنف مقصودًا لذاته، فالقتل الواسع قد يغيّر الواقع الديموجرافي على الأرض. سواء بإبادة أكبر عدد من سكان كوسوفو، بخاصة المسلمون، أو يدفع الرعب العدد الأكبر منهم إلى الفرار للدول المجاورة كي تفقد المقاومة المسلحة ظهيرها الشعبي، وتصبح الأقلية الصربية المتواجدة في الإقليم أغلبية.

كانت مجزرة الشباب في يناير/ كانون الثاني 1999، وبعدها بدأت المفاوضات لحل الأزمة سلميًا. بعد شهرين فحسب من المفاوضات كان عدد لاجئي ألبان كوسوفو إلى 200 ألف لاجئ. هذا العدد الضخم يمكن فهمه من معرفة أنه رغم بدأ المفاوضات فإن آلة القتل الصربية لم تتوقف. ففي مارس/ آذار من نفس العام ارتكب الصرب مذبحة أخرى، عُرفت باسم مذبحة الحديقة.

مجزرة الحديقة

20 أمًا وطفلًا، أوقفهم الجنود أمام سور الحديقة صفًا واحدًا، وفتحوا عليهم النيران. مذبحة أخرى تنقلها وسائل الإعلام، لتحكي عن مذابح أكثر غير معلنة. استغرق الأمر 24 يومًا بعد تلك المجزرة لتدرك أوروبا أن الصرب لن يتوقفوا عن القتل بسبب قرار شفهي صدر من طاولة مفاوضات. كما بدأت أزمة اللاجئين تزعج أوروبا، فالحرب تدور في قلب أوروبا، لهذا قرر حلف شمال الأطلسي، الناتو، التدخل عسكريًا لوضع حد لهذه المجازر.

في البداية ظن الناتو أن مجرد إعلان التدخل العسكري وإنهاء المفاوضات سيربك الصرب، لكن لم يحدث. استمرت حملة الناتو العسكرية قرابة 80 يومًا كاملة. في تلك الأيام استطاع القائد الصربي ميلوسيفيتش أن يقلب الكفة على الجميع. فاستغل الهجوم الخارجي لتأجيج المشاعر القومية والوطنية لدى أبناء قوميته، فاستمرت حملة الصرب على الإقليم بحماس أكبر، وعقيدة أشد.

لهذا تصاعدت عمليات قتل سكان إقليم كوسوفو، حتى بات الأمر رسميًا حملة ممنهجة للتطهير العرقي، وطرد الألبان بالكامل من الإقليم. زادت تلك الحملة من عدد اللاجئين والفارين، وبدأت أوروبا في دخول أزمة إنسانية كبرى. بجانب أن الناجين من الموت بدأوا في سرد الرعب الذي تمارسه القوات الصربية، فعاد الحشد الإعلامي ضد الصرب يكتسب زخمًا جديدًا.

لإنهاء الأمور بأسرع وقت قرر الناتو التنسيق مع جيش تحرير كوسوفو. فبدأ المعلومات الاستخباراتية التي يمده بها الجيس في جعل ضربات الناتو موجعة للقوات الصربية، وفي نفس الوقت قويت شوكة جيش تحرير كوسوفو على الأرض. ووسع الناتو ضرباته لتشمل مناطق متعددة داخل صربيا نفسها، بعد مرحلة من تركيز الضربات على القوات الصربية المتواجدة في إقليم كوسوفو فحسب.

في 10 يونيو/ حزيران 1999 أعلن ميلوسيفيتش قبوله الانسحاب الكامل من الإقليم، مقابل أن يوقف الناتو ضرباته. وبدأ اللاجئون الألبان في العودة تدريجيًا لبيوتهم. عاد الألبان وبداخلهم رغبة كاسحة في الانتقام، فارتكبوا أعمالًا انتقامية في حق الصرب، ما استدعى نشرًا فوريًا لقوات حفظ السلام في كافة أنحاء الإقليم.

نهاية مجرم الحرب

كان لا بد من تفكيك جيش تحرير كوسوفو، وبدأ بالفعل في نزع سلاحه، والانخراط القوات الأمنية الجديدة لكوسوفو تحت إشراف الأمم المتحدة. وبدأت بعض قيادات الجيش في تأسيس أحزاب سياسية استعدادًا للمرحلة التالية التي ستدخلها كوسوفو المنتصرة في حربها والحائزة حديثًا على الاستقلال.

العكس كان على الأراضي الصربية. هزيمة سياسية كبرى، ودمارًا اقتصاديًا يحتاج فاتورة ضخمة لإعادة إصلاحه. لهذا تصاعد الغضب الشعبي ضد ميلوسيفيتش، وتجلى هذا الغضب في الانتخابات الرئاسية التي حدثت في سبتمبر/ أيلول 2000. الانتخابات حدثت في يوغوسلافيا، المكوّنة من صربيا والجبل الأسود. المعارضة أعلنت فوز مرشحها كوستونيتشا. لكن ميلوسيفيتش رفض الاعتراف بهذه الهزيمة، فاندلعت المظاهرات في كافة أرجاء صربيا.

حاولت الشرطة الصربية معاملة تلك المظاهرات بمنطق تعاملها مع مظاهرات الألبان في كوسوفو. استمر القمع بضعة أيام حتى دعت المعارضة لمظاهرة كبرى في العاصمة بلجراد. في يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 اندلعت تلك المظاهرة المليونية. فشلت قوات الأمن في قمع هذا العدد الضخم، وبدأ المتظاهرون في اقتحام كل ما يصلون إليه. وأحرقت مبنى البرلمان، فاضطر ميلوسيفيتش للاستقالة والاعتراف بالهزيمة رسميًا.

كان ميلوسيفيتش يدرك أن خروجه من الرئاسة يعني نهايته. وهو ما أكده الواقع لاحقًا، إذ تم تسليمه لمحكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي عام 2001. ظلت محاكمته تتأجل مرة بعد أخرى بدعوى الظروف الصحية للرجل. لكن بعد 5 أعوام أخيرًا انتهت تلك المحاكمة، لكن دون أن تصدر حكمًا، فقد وُجد الرجل ميتًا في زنزانته يوم 11 مارس/ آذار 2006.

من أين أتى المسلمون؟

انتهت قصة ميلوسيفيتش لتبدأ بعدها بعامين قصة أخرى لكوسوفو. عام 2008 أعلنت قيادة كوسوفو، المنتخبة، استقلال إقليمهم رسميًا، وأنه بات إقليم له سيادته. تتابعت الدول في الاعتراف الرسمي بدولة كوسوفو الوليدة، مثل كوستاريكا التي أعلنت ذلك في يوم الاستقلال نفسه. ثم أتت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وتركيا وأفغانستان.

لكن رغم الاستقلال والسيادة، فكوسوفو تقع تحت طائلة العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها كافة الدولة، مثل الفساد والبطالة والتردي الاقتصادي. لكنها كلها مشاكل في نظر السكان يمكن التعايش معها وتحملها، أما الخضوع للصرب والحياة تحت تهديد القتل في أي لحظة، فلم يكن أمرًا محتملًا على الإطلاق. خصوصًا أن الصرب لم يكونوا ليقبلوا أبدًا، مهما طال الوقت، باستقلال كوسوفو عنهم.

لأن المسلمين في نظر الصرب ليسوا إلا غزاة في المقام الأول. أتوا مع السلطان العثماني مراد الأول عام 1389، الذي انتصر على أمير صربيا. سيطرة العثمانيين استمرت 500 عام، حتى هزيمتهم في حرب البلقان الأولى عام 1912. بعد تلك الحرب حصل الصرب على استقلالهم، وحصلوا على كوسوفو كجزء منهم. ويقع النزاع في أن سكان كوسوفو غالبهم من الألبان المسلمين، بينما الإقليم نفسه يحتوي العديد من الكنائس الأرثوذكسية التاريخية، لهذا يعتبره الصرب عاصمتهم الدينية والثقافية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تسيطر صربيا على كافة أراضي البلقان، وتبدأ فصلًا جديدًا من الاضطهاد لكل الأقليات الأخرى. لكن يأتي عام 1941 ليزيح موسوليني كل هؤلاء من طريقه ويكون جمهورية ألبانيا العظمى. بعد 4 سنوات يُهزم النازيون وينتصر السوفيت، ويُولد الاتحاد اليوغوسلافي الفيدرالي الشيوعي، الذي ورث مملكة صربيا كاملةً. مع الاعتراف في دستور عام 1974 بأن كوسوفو فيدرالية مستقلة داخل هذا الاتحاد.

ميلوسيفيتش يدفع الأزمة للانفجار

المظاهرات التي أججت الأوضاع بدأت عام 1981، مظاهرات معتادة اعتراضًا على أوضاع معيشية متردية. قوات الأمن لم تتفاهم وقمعت المظاهرات بالحديد والنار. تساقط القتلى بالعشرات تباعًا، فاشتعلت النظرة العرقية، وأدرك ألبان كوسوفو أنهم لا يُنظر إليهم كجزء من هذا الاتحاد، فبدأ مشاعرهم القومية تتقوى مدفوعة بالقمع الذي تعرضوا له.

سلوبودان ميلوسيفيتش حين وصل لزعامة اتحاد الأحزاب الشيوعية في يوغوسلافيا فاقم الأمر سوءًا. الرجل عارض بشدة منح أي حقوق لإقليم كوسوفو. وعارض أي انفتاح على الغرب، واستند على السوفيت، الذي بدأ نجمهم في الأفول، لكنه لم يقتنع بذلك. كان ذلك عام 1987، وبعد عامين من التطرف الشعبوي والحشد العرقي صار الرجل رئيسًا لصربيا، وأعلنها في أول أيامه أنه لن يسمح بأي محاولة للاستقلال.

حاول ألبان كوسوفو على مدى 3 سنوات التعايش مع وجود الرجل وقواته الأمنية، لكن لم يستطيعوا. لهذا في يوليو/ تموز 1990 أعلنوا استقلالهم عن صربيا. وفي سبيل ذلك قاموا بالمظاهرات السلمية، والإضراب المدني. لكن الرجل رد بفصل عشرات الآلاف من العمال من وظائفهم، كما أطلق يد قواته. كان الرجل يقاتل في كوسوفو قتال من لا خيار أمامه سوى القتل، فكان لا بد لكوسوفو أن يُهزم.

معركة لم تنتهِ

لأنه بعد انهيار السوفيت بدأ الاتحاد اليوغوسلافي في التداعي. مقدونيا، وسلوفينيا، وكرواتيا، والبوسنة، أعلنوا استقلالهم تباعًا. ميلوسيفيتش حاول منع تلك الانفصالات بالسياسة والقوة، لكن يفشل في النهاية. ويتم توقيع اتفاقية دايتون الشهيرة عام 1995 التي تمنح البوسنة وكرواتيا استقلالهم، لكن تترك قضية كوسوفو معلقة. ويدرك ألبان كوسوفو أن عليهم انتزاع استقلالهم بالسلاح لا بالسلمية.

وقد نجحوا في ذلك في نهاية المطاف. لكن جذور الصراع لا تجف، وتظل المجازر حاضرة في كل أذهان كل من عاصرها أو اضطرت عائلته للفرار لدولة مجاورة. وهو ما يشاهده العالم كل عدة سنوات في مباريات كأس العالم مثلما فعل تشاكا وشاكيري لاعبا المنتخب السويسري، في مونديال روسيا عام 2018، اللذان أشارا بعلامة النسر الألباني بعد إحرازهما هدفين في منتخب صربيا. تكريمًا لذكرى الانفصال، ولأهلهم الذين دفعتهم مجازر الصرب للفرار نحو سويسرا.

وعلى الجهة الأخرى فإن صربيا لم تنس أيضًا، فقد ترك المنتخب الصربي وراءه في غرفة تبديل الملابس في مونديال قطر 2022 خريطة يظهر فيها إقليم كوسوفو مدمجًا في خريطة صربيا. كما دارت عديد من المناوشات في ديسمبر/ كانون الأول 2022 بين نهاية القوت الأمن الصربية وبعض من سكان إقليم كوسوفو. لذا فكما يبدو أن الأزمة لم تنته بعد، أو انفجارًا قادمًا سيحدث بين الطرفين، تحاول فيه صربيا استعادة ما تراه حقها، ويحاول فيه كوسوفو الحفاظ على سيادته التي دفع ثمنها دماء كثيرة.