صبيحة الثلاثاء الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول،استبقت القوات العراقية والتركية – المُشاركة في مناورات عسكرية مُشتركة في ولاية شرناق التركية منذ ما يَرْبُو على الأربعين يومًا – زيارة رئيس الأركان العراقي الفريق الأول الركن عثمان الغانمي، وتحرّكت باتجاه معبر «الخابور» على الجانب التركي مع العراق وسط تضارب أنباء عن سيطرتها على معبر «إبراهيم الخليل» على الجانب العراقي الخاضع لحكومة إقليم كردستان.

تأتي زيارة الغانمي بحسب بيان لخلية الإعلام الحربي «للاطلاع ميدانيًا وتحديد المتطلبات العسكرية والأمنية لإكمال تنفيذ قرارات الحكومة الاتحادية في مسك الحدود الدولية وإدارة المنافذ اتحاديًا والانتشار الكامل للقوات الاتحادية في جميع المناطق التي امتد إليها الإقليم بعد العام 2003»[1].

تأتي هذه التحركات المُتسارعة من قبل القوات الاتحادية العراقية،تلبيةً لقرار قد اتخذ عشية الاستفتاء الكردي من قبل المجلس الوزاري للأمن القومي برئاسة رئيس الوزراء حيدر العبادي. كانت القوات العراقية مدعومة من قبل قوات الحشد الشعبي قد بسطت سيطرتها في وقت سابق على مناطق متنازع عليها بين حكومتي بغداد وأربيل منها محافظة كركوك وسهل نينوي وقضاء سنجار، وقضاء خانقين وجلولاء التابعتين لمحافظة ديالي مع الحدود الإيرانية.

تدفع السيطرة المتنامية للحكومة الاتحادية على حقول نفط كركوك، والمناطق المتنازع عليها في شمال العراق والمعابر مع إيران وتركيا وسوريا، إلى السؤال عن مستقبل الدولة الكردية بعد استفتاء إقليم كردستان العراق.


الأكراد: ألد أعداء أنفسهم!

كشف الاستفتاء النقاب عن تفتت الجبهة الداخلية الكردية، ولا سيما على صعيد القيادة السياسية للأكراد، التي لم تكن مُجمِعة على إجراء الاستفتاء في ذلك الوقت، وكشف كذلك عن التذمر من القيادة الأحادية للبارزاني وتحَكّمه وحزبه في المشهد الكردي في ظل الانسداد السياسي والمُماطلة في إجراء الانتخابات. هذا الانقسام الكردي هو السائد دائمًا في مسيرة الأمة الكردية منذ ثورة الشيخ عبيد الله ضد الدولة العثمانية في ثمانينات القرن التاسع عشر [2].

ظهر الانقسام أولًا، على هيئة تخبط بين الأجنحة المُتصارعة على قيادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والتي لم تستطع ملء الفراغ الذي تركه الزعيم الراحل للحزب جلال الطالباني. ففي الوقت الذي استمالت فيه طهران جناح أسرة طالباني – تحديدًا بافل ولاهور طالباني – اللذَينِ فضلا عن تأجيل الاستفتاء،عملت أربيل على استمالة جناح كوسرت رسول النائب الأول لأمين عام الاتحاد الوطني، ومُلا بختيار مسؤول الهيئة التنفيذية في المكتب السياسي للحزب إلى جانب قباد طالباني شقيق بافل ونائب رئيس وزراء حكومة كردستان، والَّذين أظهروا جميعًا دعمًا للاستفتاء.

أما حركة التغيير «غوران»،فتركت حرية التصويت لأنصارها كلّ بحسب تفضيلاته الشخصية. وعلى صعيد الأحزاب الإسلامية، ففي الوقت الذي دعم فيه الاتحاد الكردستاني الاستفتاء، عارضته الجماعة الإسلامية في كردستان. وعلى الرغم من كل هذه الانقسامات ذهب الأفرقاء السياسيون إلى الاستفتاء تحت ضغط حلم الاستقلال الكردي.


تداعيات سوء التقدير الإستراتيجي لبارزاني على المشروع الكردي

لو علم الزعيم الكردي التاريخي والرئيس السابق لإقليم كردستان العراق مسعود البارزاني أن إصراره على إجراء الاستفتاء ضد رغبة الحكومة المركزية العراقية والأطراف الإقليمية – تركيا وإيران – والدولية الداعمة للإقليم – الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا – سوف يؤدي إلى تلاشي سيطرته على المناطق المتنازع عليها مع الحكومة الاتحادية، بما فيها كركوك التي تنتج قرابة ثلثي نفط الإقليم، وخسارة الانفراد بالسيطرة على المعابر الحدودية، وكذلك خسارة الأطراف الإقليمية الداعمة كالأتراك، وتنحّيهُ عن قيادة المشهد السياسي الكردي وتقاسم صلاحياته بين الرئاسات الثلاث (البرلمان، والحكومة، مجلس القضاء)؛ وترحيل الحلم الكردي بالانفصال إلى أجل غير مسمى لما أقدَمَ البارزاني على تلك الخطوة الانتحارية.

اعتقد بارزاني أن الظرف الدولي داعم لإنشاء دولة كردية خاصةً في ظل الوفود الدولية التي كانت تتدفق على الإقليم، والدعم العسكري المُقدم من الغرب لقوات البيشمركة في قتالها ضد تنظيم الدولة، والدعم الإقليمي المتمثل في الدعم الإسرائيلي لإقامة دولة كردية [3]. وتعتبر إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أعلنت دعمها بشكل علني لانفصال كردستان، حيث جاء على لسان رئيس وزرائها نتنياهو أن إسرائيل: «تدعم الجهود المشروعة للشعب الكردي للحصول على دولة خاصة به»، وكذلك تصريحات النائب السابق لقائد جيشها يائير جولان أنه «حينما تنظر إلى إيران في الشرق، وعندما تتأمل في حالة عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة، فإن كيانًا كرديًا موحدًا ومستقرًا في وسط هذا المستنقع ليس فكرة سيئة على الإطلاق».

كذلك الدعم السعودي الذي ظهر إلى العلن من خلال تصريحات الجنرال السعودي المتقاعد ومدير مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية أنور عشقي، والتي قال فيها إن: «العمل على إيجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية، لأن ذلك من شأنه أن يخفف المطامع الإيرانية والتركية والعراقية التي ستقتطع الثلث من هذه الدول لمصلحة كردستان»، ولم يتوقف الدعم السعودي على مجرد تصريحات عشقي، بل أرسلت الرياض وزير الشؤون الخليجية ثامر السبهان، إلى الرقة حيث ظهر برفقة بريت ماكغيرك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى الحملة المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، وقادة عسكريين تابعين لقوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة (وهي مجموعات كردية مسلحة مدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية).

إصرار البارزاني على إجراء الاستفتاء جاء نتيجة خطأ جسيم في تقدير الظرف الدولي، وكذلك في تقدير قوة خصمه، والفشل في قراءة مدى الانقسامات الداخلية الكردية خاصةً على صعيد الأفرقاء السياسيين، والاعتقاد بأن السير قدمًا في تحقيق الحُلم الكردي بإقامة دولة مستقلة، وتصدير الأزمة خارج الإقليم ستؤدي إلى توحيد الجبهة الداخلية خلفه أو على أقل تقدير تهميش المجموعات الرافضة للاستقلال.

وعلى الرغم من التصريحات الرافضة لإقامة الاستفتاء أو الداعية لتأجيله من الداعمين الدوليين، أصر بارزاني على إقامة الاستفتاء في موعده ليجد نفسه وحيدًا أمام خصومه، ليستدعي هذه المرة أنصارُ حزبه حِكمَة خصمه الراحل جلال الطالباني: «ليس للأكراد صديق سوى الجبال»[4]، و يلقوا باللائمة على الولايات المتحدة لخيانتها الأكراد.

كذلك أخطأ البارزاني في تقدير قوة بغداد العسكرية النظامية وغير النظامية – قوات الحشد الشعبي، ومدي الدعم الإقليمي – الإيراني تحديدًا – والدولي الذي تحظى به هذه القوات، وحجمها ونوعية تسليحها. وعلى صعيد البيت الكردي فشل في تقدير مدى الانقسام الداخلي الذي لعب عليه خصومه جيدًا. أحسن الجنرال الإيراني قاسم سليماني استغلال علاقاته بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الخصم الرئيسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني، ونصح سليماني حلفاءه بسحب قواتهم من كركوك وإلا سيتعرضون لهجوم شرس من القوات العراقية المدعومة إيرانيًا، دفع تحذير سليماني قيادة حزب الاتحاد الوطني لسحب قواتها من كركوك والمناطق المتنازع عليها؛ الأمر الذي عمق الشقاق الكردي، ودفع البارزاني لاتهامهم بالخيانة.

وتثير تبعات هذه التقديرات الخاطِئة للموقف من قبل بارزاني تساؤلات كثيرة حول مستقبل الإقليم الكردي وحدود سلطاته وطبيعة علاقاته بالحكومة المركزية.


استمرار الحكم الذاتي أم إلحاق ببغداد؟

مَنَحَ الدستور العراقي صلاحيات فيدرالية واسعة لإقليم كردستان العراق، وعمل الإقليم على توسيع هذه الصلاحيات، ومنذ يونيو/حزيران 2014 تمدد الإقليم للمناطق المتنازع عليها؛ لملء الفراغ الذي خلَّفته الحكومة العراقية، وتدبير مصادر دخل إضافية للإقليم، الذي كشف تدهور أسعار النفط عام 2014 عن خلل بنيوي في اقتصاده. لم تذعن بغداد لفرض أمر واقع بشكل أحادي من قبل حكومة إربيل، وتركت ملف الإقليم لحين الانتهاء من خطر تنظيم الدولة. وفي السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول شنت الحكومة العراقية حملة بتنسيق إيراني، وضوء أخضر أمريكي على كركوك والمناطق المتنازع عليها واستعادتها من قبضة البيشمركة بأقل الخسائر؛ نتيجة للتنسبق المُسبق مع حزب الاتحاد الديمقراطي فرع أسره طالباني.

تبدو بغداد عازمة على تقويض امتيازات الإقليم، حيث تعمل بغداد على السيطرة على المعابر الحدودية بشكل منفرد، أو على أقل تقدير الإدارة المشتركة للمعابر مع حكومة كردستان؛ حيث تكون الإدارة المدنية كردية، والعسكرية اتحادية، وكذلك السيطرة على كافة الأراضي المتنازع عليها مع الإقليم، بل إن الأمر قد يمتد، وفي غمار الانتصارات السهلة، إلي تخطي حدود الأراضي المتنازع عليها لبسط النفوذ على أراضي كردية كمعبر فيشخابور. قدمت حكومة كردستان تنازلًا بتجميد نتائج الاستفتاء بعد شهر من انعقاده، وكذلك القبول بإدارة المعابر بشكل مشترك، لكن تتطلع بغداد إلى المزيد.

ليس من مصلحة طرفي الأزمة التصعيد عسكريًا، فالجيش العراقي لم يَختبر بعد قدراته في السيطرة على الأراضي التي استعادها من قبضة تنظيم الدولة والبيشمركة إلا أن السوابق تشير إلى ضعف قدرة هذا الجيش على الاحتفاظ بالأراضي، وكذلك ليس من مصلحة أربيل المحاصرة بين تركيا وإيران وبغداد القتال ضد الحكومة المركزية.

تشير المؤشرات السابقة إلى أن الحلم الكردي بإقامة دولة بات الآن صعب المنال، وكذلك العودة لحدود الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول – حدود كردستان عشية الاستفتاء – باتت كذلك من الماضي، وفي ظل إصرار الحكومة المركزية على السيطرة على كل الأراضي المتنازع عليها والمعابر فإن العودة لحدود العام 2005 أصبح مشكوكًا فيها. وفي ظل انقسام كردي – كردي فإن التقوقع في أربيل والسليمانية يبقى هو الخيار إلى حين.

على صعيد الظرف الإقليمي والدولي، لا تبشر الأمور بخير بالنسبة للدولة العراقية، ففي ظل اعتزام بعض الأطراف الإقليمية والدولية التصعيد ضد طهران وحلفائها قد يجد العراق نفسه مسرحًا لهذا التصعيد، وكذلك قد يكون أبناؤه أدوات في صراع إقليمي ودولي لا دخل لهم به.


[1] وفي اليوم نفسه قام الغانمي بزيارة معبر فيشخابور الحدودي مع الجانبين التركي والسوري للأمر عينه. [كردستان: قوات عراقية تركية تدخل معبر إبراهيم الخليل، المدن، 31/10/2017، (تاريخ الدخول 3/11/2017)].[2] هارفي موريس وجون بلوج: «لا أصدقاء سوى الجبل: التاريخ المأساوي للأكراد» ت. راج آل محمد.[3] تعود العلاقات الإسرائيلية – الكردية لستينات القرن العشرين حيث كان التواصل على أشده مع الزعيم الكردي مصطفى البارزاني، وتوطدت هذه العلاقات بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 حيث أرسلت إسرائيل مستشارين عسكريين لأربيل لتدريب قوات البيشمركة الكردية. [انفصال كردستان عن العراق اسرائيل الداعم الوحيد، عرب 48، 18/8/2017، (تاريخ الدخول 3/11/2017)].[4] تحت عنوان مُقارب، كتب الصحفيان الغربيان هارفي موريس وجورج بلوج كتابهما عن القضية الكردية: «لا أصدقاء سوى الجبال .. التاريخ المأساوي للأكراد». للمزيد من الاطلاع على الخذلان الغربي لهذه القضية وبخاصة الأمريكي.