الفيلم الفائز بجائزة سيزار لأفضل فيلم فرنسي لعام 2007، بالإضافة لجوائز سيزار لأفضل ممثلة صاعدة «حفصة حيرازي»، وأفضل سيناريو أصلي/ أفضل مخرج «عبد اللطيف كشيش»، مع ترشح بدون فوز لأفضل مونتاج «غالية لكروا، وكاميل توبكي»، وقرابة العشرين فوز وترشح لجوائز أخرى. الفيلم إنتاج فرنسي وناطق بكلتا اللغتين العربية والفرنسية، من بطولة «حفظة حيرازي» (ريم) و«حبيب بوفارس» (سليمان بيجي)، ومن تأليف وإخراج «عبد اللطيف كشيش».


أن يبدأ بلا أولوية، ثم ينتهي إلى لا نقطة نهاية

La Graine et le Mulet
La Graine et le Mulet

يدور الفيلم في جنوب فرنسا حيث سليمان (حبيب بوفارس) عامل بناء السفن، يواجه صعوبات أثناء عمله نظرًا لتقدمه في السن بالإضافة لتعسف مديره ضده، مما يدفعه أن يفكر في بدء مشروعه الخاص بمساعدة عائلته.

لقاربة الساعتين وربع الساعة، نشاهد رحلة سليمان (حبيب بوفارس) الطويلة إلى هدفه، خلالها افتقد السيناريو الوحدة الموضوعية للفيلم، فمنذ اختيار الاسم «كسكسي بالبوري» نظن لبعض الوقت أننا بصدد مشاهدة فيلم وثائقي عن إحدى الوجبات الشعبية في بلاد المغرب العربي، إلى نقطة بداية الفيلم واستعراض الميناء أثناء إحدى نزوات نجله الطائش حميد (عبد الحميد أكوتش) الذي يعمل مرشدًا سياحيًا، بينما نمر بأزمة سليمان في عمله وخلافه مع طليقته حول النفقة ومصروفات المعيشة، ثم زيارته لابنته واستعراض مفصل ورتيب لحياتها لدرجة أن الحوار استهلك وقتًا ليس بالقليل في توبيخ أم لطفلتها على عدم استخدامها للنونّية! بعدها تطرق حديثه مع ابنته وزوجها إلى التضييق على المهاجرين القدامى في العمل، لتجد نفسك تتساءل: هل هو فيلم درامي اجتماعي يناقش حياة سليمان وبالتالي نحن أمام ممثلين وحوار مكتوب تسير به أحداث الفيلم؟ أم وثائقي يناقش صعوبات حياة المهاجرين العرب في فرنسا دون تدخل من المخرج أو إضافة عناصر خارجية أو تقنية؟ ولماذا يبدأ –في كلتا الحالتين– بداية لا علاقة لها بموضوعه من الأصل. بداية –كان يمكن حذفها- جعلت الفيلم يفقد ميزة براعة الاستهلال، وتركت انطباعًا محيرًا لدى المشاهد.

مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».
مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».

بالاستمرار في المشاهدة، نتعرف على علاقة بين سليمان وصاحبة الفندق الذي يقيم فيه، وعلاقة أبوة تجمعه بابنة صاحب الفندق ريم (حفصة حيرازي)، بينما يجتمع شمل عائلته في منزله القديم حول وجبة كسكسي بالبوري. في هذا الفصل بالتحديد تتجلى عشوائية السرد في الفيلم، فقد عادت سمة الفيلم الوثائقي أثناء حوار بين أسرة سليمان على مائدة طعام، وسرد لتفاصيل حياة شخصيات فرعية بعضها لن يظهر مرة أخرى في باقي أحداث الفيلم، ومن يظهر منهم لن تكسبه هذه التفاصيل أي بعد إضافي. مدة الفصل الطويل نسبيًا بالإضافة لكم التفاصيل المذكورة فيه وعدد الشخصيات غير القليل، يجعلك تعتقد أن هذا الفصل هو فيلم منفصل.

إذا كنت أحد الناجين الذين لم يفقدوا اهتمامهم بالفيلم أثناء الفصل السابق، فستجد أن الطابع الدرامي قد عاد، وفكرة إنشاء مطعم على ظهر مركب قديم قد ظهرت من العدم لدى سليمان، وتشرع ريم في مساعدته في هذا الشأن عن طريق الحصول على قرض من البنك تارة، وعن طريق جمع المساعدين له تارة أخرى، وسرعان ما يبدأ التحضير للمطعم، ثم ينتهي تحضيره ويبدأ الإعداد لليلة الأولى فيه.

عائلة سليمان من الإناث يقمن بإعداد الكسكسي بالبوري في المنزل بينما يتولى سليمان متابعة وصول الزبائن، وفي تفجر درامي غير ممهد، يقوم حميد ابن سليمان بأخذ السيارة وداخلها الكسكسي المعد للعشاء ويذهب دون أن يعلم أي شخص إلى أين ذهب، مما يدفع سليمان للذهاب إلى منزله للبحث عنه، فتُسرق دراجته ويمضي ليلته في الجري وراء سارقيها بلا طائل، وفي المطعم يبدأ الضيوف في التذمر فقد تأخر العشاء مدة طويلة، إلى أن تقطع ريم هذا التذمر بوصلة رقص على أنغام التخت الشرقي الذي جلبته من فندقها لتسلي الجمهور المنتظر حتى يأتي العشاء ثم.. انتهى الفيلم. ينتهي دون أن نعلم ما الذي أراده عبد اللطيف كشيش طوال مدة الفيلم!


طاقم التمثيل -غير المحترف- وحفصة حيرازي نقطة مضيئة

من المدهش أن نعرف أن الممثلين بالكامل كان هذا الفيلم هو فيلمهم الأول، وعدى حفصة حيرازي فقد كان الفيلم هو الوحيد لمعظمهم، إلا أن التمثيل كان متميزًا، وكون الممثلين غير محترفين أكسب الفيلم واقعية شديدة، كأنك تشاهد مجموعة من البشر تم تصوير حياتهم خلسة، وعلى رأسهم حفصة حيرزاي في دور ريم والتي كان عمرها وقت تصوير الفيلم 17 عامًا تقريبًا، وتحديدًا في مشهد جمعها مع والدتها أثناء إقناعها أن تذهب لحفل الافتتاح، اتقان حفصة جعل من شخصية ريم الشخصية الأهم في الفيلم، وأحد دوافع الاستمرار في مشاهدته.

مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».
مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».

الإخراج/ المونتاج، من المُتهم؟

نظرًا لكونه فيلم يتناول قصة إنشاء مطعم، فقد حاول المخرج إضافة إحساس بجودة الوجبة المقدمة باسخدام لقطات مقربة (Close) للممثلين أثناء تناولهم الكسكسي بالبوري، بل إن استخدامه للقطات المقربة في عمومًا الفيلم أضفى قربًا من الشخصيات؛ أكسب ما يشعرون به بعض الاهتمام. وتزيد اللقطات قربًا كلما كان المشهد قريبًا من حياة سليمان الخاصة، وتسخدم اللقطات الواسعة (long) في استعراض حياة سليمان من الخارج، ليظهر وحيدًا تائهًا وصغيرًا في مساحة كبيرة حوله كمشاهد انتقاله من وإلى الفندق/ العمل، ومشهد سعيه وراء الدراجة الخاصة به.

مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».
مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».

كما استخدم عبد اللطيف كشيش الإضاءة والألوان تعبيريًا بشكل جيد، فنجد أن اللقطات في الفصول الأولى تستخدم ألوان باردة كدرجات الأزرق والأخضر والرمادي الرتيبة التي تشبه حياة سليمان، بينما تم التقسيم من حيث الإضاءة إلى مرحلتين: الأولى تحدث كلها نهارًا، وقد تم تقسيمها لتصبح المشاهد التي توضح ضغط الحياة على سليمان تحدث ظهرًا، يبدو فيها أثر العناء من الشمس واضحًا على الممثلين، بينما الفترة التي تجتمع فيها الأسرة ويحلم فيها سليمان بإنشاء المطعم كانت عصرًا إلى وقت الغروب.

أما المرحلة الثانية فهي ليلًا، حيث اللحظات المأساوية، فنجد فيها مشاهد عجز سليمان عن قضاء ليلته مع صاحبة الفندق، وأزمة اختفاء الوجبة وبداية توتر جمهور المطعم، وخلاف ريم مع والدتها حول الذهاب إلى الافتتاح، بينما مثّل التنقل بين الظلمة خارج المطعم والإنارة داخله حالة سليمان نفسه الذي تتم إعادة إحياء حلمه داخل المطعم، حيث سعادة الجمهور بالموسيقى ورقص ريم وبدلتها باللون الأحمر الصريح الذي يظهر للمرة الأولى لتمييز هذه اللقطة بالتحديد بصريًا عن باقي مشاهد الفيلم، بينما توشك حياة سليمان أن تنهار وبالكاد يستطيع التقطات أنفاسه أثناء ركضه في شوارع المدينة التي بدت كمدينة أشباح، حتى أن الرقصة تلك قد بدأت من إظلام تام للمطعم.

مشهد من فيلم «La Graine et le Mulet».

إغراقًا في الواقعية، فقد اختار عبد اللطيف كيشيش أن يكون الفيلم بلا موسيقى تصويرية ولن تصدر الموسيقى إلى من عزف حي داخل الفيلم، وقد كان اختياره موفقًا في فصل نهاية الفيلم، بينما لم يكن كذلك في الفصول الأولى، والتي كانت مملة على مستوى الحدث. وقد أزاد هذه الفصول مللًا غياب المونتير الذي كان من الممكن أن ينهي أزمة الفيلم بإزالة كل هذه الأجزاء الزائدة والتي خرجت بالفيلم عن أن يكون له مسارًا واضحًا، وأطالت من مدته بلا طائل.


ختامًا..

عاملنا عبد اللطيف كشيش في فيلمه كما عامل سليمان زبائن مطعمه، أتينا إلى الفيلم طمعًا في وجبة جيدة، طال بنا الوقت في انتظارها، جذبتنا بعض لحظات الفيلم، ولقطات مميزة بصريًا، وإخراجه الموفق نسبيًا، إلا أن دقائق الرقص التي آنست زبائن سليمان وجبتهم، لم تنسينا –بعد نهاية الفيلم- أن وجبتنا التي كنا ننتظرها لن تأتي أبدًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.