قبل أيام من ثورة 25 يناير، تبادلت الحديث مع بعض الأقارب والأصدقاء حول سقوط الرئيس التونسي والدعوة إلى التظاهر في يوم 25 يناير في مصر، كان سبب الحوار مُلصقًا صغيرًا بالكاد رأيناه معلقًا أعلى باب المسجد يدعو للتظاهر في يوم 25، اختلفت توقعاتنا حول الدعوة ومآلاتها، إلا أننا اتفقنا جميعًا على قوة النظام المصري وثبات رئيسه وقتها مقارنة بالرئيس التونسي… سنُصدم جميعًا لاحقًا وسيسقط أسرع منه.

لم تكن قدرة ثورة 25 يناير على إسقاط نظام مبارك بهذه السرعة محض مصادفة، لكنها حوت الكثير من عناصر القوة في مواجهة أدوات السلطة لإخمادها: كتركيبتها مثلًا، التي أمّنت لها دعم قطاع واسع من الطبقة الوسطى، وانضمام أهالي المناطق الشعبية إليها في لحظة معينة، ثم العمال في لحظة تالية، كل ذلك وتفاصيل أخرى شكلت معًا ضربة قوية وكبيرة للنظام لم يكن بوسعه التماسك أمامها.

كان انحياز العمال وظيفيًا إلى الثورة في لحظة معينة، قوة هامة مُضافة لها في توقيت حرج، لولاها ربما لم تتمكن الثورة من تجاوز آخر مناورات نظام مبارك، ما نحاوله هنا هو استعادة لتفاصيل المشهد مرة أخرى والتركيز على صفحة منسية، صفحة الحراك العمالي والسياق الذي ظهر فيه وأثره الحاسم في هذه اللحظة.

تسلسل زمني

لم تكد تغرب شمس اليوم الرابع للثورة إلا بفرار قوات الأمن وتحييدها وسيطرة المتظاهرين على الشوارع؛ ما استدعى نزول قوات الجيش، وفَرَضَ واقعًا ميدانيًا جديدًا. بانهيار الداخلية في «جمعة الغضب» في 28 يناير/كانون الثاني، فقد النظام أداة القمع العنيف للاحتجاجات، وفشل رهانه على إنهاء الانتفاضة بالقوة، وبدءًا من هذا التاريخ حاول احتواء الاحتجاجات بإظهار الاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين: كإقالة وزير الداخلية، وتغيير الحكومة، والتلميح بإلغاء التوريث بتعيين اللواء عمر سليمان نائبًا لرئيس الجمهورية، وكذلك قيام النائب العام بفتح تحقيقات مع بعض المسئولين المكروهين شعبيًا؛ لكنّ هذا لم يلبِّ طموح المحتجين واستمروا في التظاهر، ودعوا لتظاهرات مليونية في ميدان التحرير وجميع أنحاء البلاد في اليوم الثامن للثورة، الثلاثاء 1 فبراير/شباط 2011.

لاقت الدعوة استجابة جماهيرية كبيرة، خرج الرئيس على إثرها ليعلن عدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد ستة أشهر، وهو ما حقق بعضًا من طموح المتظاهرين وسبَّب انقسامًا في صفوفهم. رفض جزء منهم القبول بعرض الرئيس وواصلوا الاعتصام، حاول النظام استغلال حالة الانقسام تلك في فض الاعتصام مستخدمًا عنفًا أهليًا لا نظاميًا هذه المرة، بتسيير متظاهرين مؤيدين له وبلطجية إلى ميدان التحرير للاشتباك مع المعتصمين وطردهم من هناك؛ لكن المحاولة فشلت وأتت بنتائج عكسية ضد شعبية مبارك.

دعا المعتصمون في ميدان التحرير بعدها لتظاهرات مليونية جديدة يوم الجمعة 4 فبراير/شباط في جميع أنحاء البلاد، وأطلقوا عليها «جمعة الرحيل»، ولاقت استجابة شعبية كبيرة وتجاهلها النظام.

المناورة الأخيرة

صرف النظام النظر مؤقتًا عن تكرار محاولة فض الميدان بالقوة، وقرر اعتماد تكتيك آخر يقضي بتجاوز ميدان التحرير والمظاهرات في باقي المحافظات وتجاهلها، والعمل على تجميع السلطة المنهارة مرة أخرى، ليتحول ميدان التحرير بمرور الوقت من قلب انتفاضة تسعى للإطاحة بالرئيس إلى تجمع معزول تسير الحياة خارجه بصورة طبيعية.

كان تصريح رئيس الوزراء حينها الفريق أحمد شفيق مع قناة البي بي سي في أعقاب جمعة الرحيل 4 فبراير/شباط كاشفًا لهذا الخط الجديد الذي تبناه النظام تجاه الثورة، والذي تعمد فيه الاستخفاف من أثر الاعتصام في ميدان التحرير قائلًا: «هخلي الناس قاعدين وأجيبلهم فطار وبونبوني وأبسطهم جدًا… هايد بارك الناس بيقعدوا فيها أد ايه؟»

أظهر الجيش دعمه لتوجه الحكومة الجديدة، وطالب المتظاهرين بالمساعدة في عودة الحياة إلى طبيعتها في البلاد «ليس بسلطان القوة؛ ولكن برغبة في حب مصر». وفي 4 فبراير/شباط نزل المشير طنطاوي إلى ميدان التحرير واعتبر ما قدمه مبارك كافيًا وطالب المتظاهرين بقبول الحوار مع الحكومة، وفي اليوم التالي نزل اللواء حسن الرويني، قائد المنطقة العسكرية المركزية بالقوات المسلحة، إلى ميدان التحرير والتقى ببعض المعتصمين على أطرافه وطالبهم بالعودة إلى منازلهم وإنهاء الاعتصام، وفتح حركة المرور داخل الميدان، والتجاوب مع مسعى الدولة بإعادة الحياة إلى طبيعتها.

وبالفعل بدأ النظام في محاولة كسر الجمود الذي فرضته الاحتجاجات وفرض واقعًا مغايرًا، وفي يوم السبت 5 فبراير/شباط عادت السكك الحديدية للعمل مرة أخرى بعد توقف لخمسة أيام، وفي الأحد 6 فبراير/شباط قررت الحكومة عودة العمل إلى طبيعته في المصالح الحكومية، وعاد العمل بالمحاكم، وفتحت البنوك أبوابها من جديد.

في اليوم التالي، وفي تحرك لم يبدُ عفويًا، أعلن عدد من كبرى شركات القطاع الخاص العاملة في مصر يوم الإثنين 7 فبراير/شباط في بيانات صحفية عن عودتها للعمل، منها أوراسكوم ولافارج للإسمنت وسوزوكي وشركة سكايب للكيماويات وشركة الشحن أرامكس، وأصدرت شركات أخرى بيانات مشابهة. ودعمًا لتلك الخطوة تقرر في نفس اليوم تخفيض فترة حظر التجوال.

في تغطيتها لأحداث الثورة، اعتبرت صحيفة الديلي تليجراف بذلك أن «الانتفاضة تعثرت» ووصفت مبارك بالرئيس «المحنك» والذي تمكن من استعادة شيء من المبادرة بعد تمكنه من إعادة الحياة في القاهرة إلى طبيعتها نسبيًا.

هاجم المتظاهرون مجددًا، وحاولوا استرداد المبادرة مرة أخرى بحصار مقر رئاسة الوزراء المجاور لميدان التحرير لتعطيل مخطط الحكومة، لكنه لم يؤثر على عزم الحكومة بالمضي قدمًا في استرداد السلطة من جديد، وتخطته بسهولة بنقل اجتماعاتها إلى مقر وزارة الطيران المدني.

بطبيعة الحال امتد حصار النظام للثورة إلى الإعلام، لكنه هذه المرة ليس عن طريق الإنكار أو التحريض الفج، بل بمحاولة تبني خطاب أكثر عقلانية، حاول فيه تمثيل الإصلاح والاستقرار معًا، معتبرًا أنه استجاب لدعوات الإصلاح وقدم ما عليه وأن الحياة في البلاد بدأت تعود تدريجيًا إلى طبيعتها، محاولًا بذلك اختراق الشرائح المتعاطفة مع الثورة بخلاف الراغبين في عودة الاستقرار سريعًا، ساعيًا بذلك إلى فصل الميدان عن حاضنته الشعبية، وتكثيف الضغط على المعتصمين من دوائرهم للعودة إلى منازلهم.

بدا أثر الضغط على المعتصمين واضحًا، فعلى المستوى السياسي قَبِل بعض النشطاء الانخراط في جلسات الحوار الوطني مع نائب الرئيس عمر سليمان، وهو الأمر الذي رفضوه مرارًا في السابق وتسبَّب بخلافات بينهم. وعلى المستوى الميداني، لم يكن الوضع أفضل حالًا، وبدا القلق واضحًا على المعتصمين في ميدان التحرير، فقاموا بحصار مدرعات القوات المسلحة بالسلاسل والدروع البشرية وافتراش جنازير الدبابات المرابطة حول الميدان خوفًا من اقتحامها للاعتصام أو ترك تأمينه.

في تلك الأثناء بدت الثورة مُستنزَفة وتفقد زخمها شيئًا فشيئًا، وبدا النظام أيضًا قادرًا على استعادة شيء من المبادرة وحصد النقاط تباعًا، إلا أن عنصرًا هامًا دخل معادلة الصراع في تلك اللحظة وتسبَّب في قلب موازين القوة وترجيح كفة الثورة من جديد وإجبار الرئيس على التنحي، وهو الانتفاضة العمالية.

العصيان يبدأ

لن تدور الآلات… ولا التفاف على الثورة… ولن تسير البلاد خطوة واحدة للأمام ومبارك على رأس السلطة… قالتها الجماهير المصرية من موقع مختلف هذه المرة، ودون دعوة من أحد وبشكل عفوي تمامًا. بدأت البلاد إضرابًا عامًا تصاعد بقوة مستمدًا قوته من عشوائيته، فقد كان حالة غير قابلة للترويض، ولم تمتلك السلطات حيلة في إخماده.

1. العمال

كانت البداية يوم 8 فبراير/شباط، حيث أضرب عمال شركة المصرية للاتصالات ومصانع أسمنت حلوان وسيجما للأدوية وغزل كفر الدوار وبوتاجاز الفيوم والمطابع الأميرية وفنادق الأقصر. وتركزت مطالبهم على إعادة هيكلة الأجور والمرتبات، وعدالة توزيع الأرباح، والقضاء على الفساد. وأعلن عمال نظافة الجيزة أيضًا إضرابهم لحين رفع مرتباتهم وإقالة رئيس الهيئة، وكذلك أضرب مئات العاملين بوزارة الصحة مطالبين بتحسين أوضاعهم المادية والقضاء على الفساد.

وفي 9 فبراير/شباط، اعتصم ما يقرب من 1500 عامل في مصنع مصر حلوان للنسيج، واعتصم العاملون بمديرية الري، وأضرب عمال ورش السكة الحديد وأوقفوا حركة القطارات بخطوط وجه قبلي. امتدت الإضرابات لتشمل منطقة القناة، فأعلن عمال شركة القناة لأعمال الموانئ الاعتصام المفتوح، وكذلك عمال شركة القناة للإنشاءات البحرية، وعمال ورش الترسانة البحرية بهيئة قناة السويس. وفي الإسكندرية، أعلن ما يقارب 10 آلاف عامل الاعتصام من شركات مختلفة لحين تحقيق مطالبهم، وفي الغربية أعلن عمال غزل المحلة اعتصامًا مفتوحًا.

اعتصم مئات العاملين بعقود مؤقتة في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء مطالبين بالتثبيت وتحسين المرتبات، وأعلن موظفو وعمال مطار أسيوط الإضراب عن العمل، وفي القليوبية تجمهر الموظفون بقطاعات الري ومجالس المدن والاتصالات والتأمين الصحي وسائقو السرفيس، وتظاهر العشرات من العاملين بمجلس مدينة بنها والوحدات المحلية والقروية التابعة لها، وفي الجيزة تظاهر عمال وموظفو جامعة القاهرة مطالبين بالتثبيت وزيادة الأجور.

وفي قطاع البترول أضرب عمال شركات بتروتريد بالإسماعيلية، وبتروجاز، وصيانكو، والتعاون للبترول، وبتروجيت، وبترول أسيوط، والمنصورة للبترول وبوتاجاسكو سوهاج.

2. القطاعات الأخرى

  • المحامون: في 10 فبراير تظاهر آلاف المحامين بالأرواب السوداء في مسيرة اتجهت من قصر عابدين إلى ميدان التحرير، أعلنوا خلالها تشكيل عدة لجان لتوثيق أسماء الشهداء، والدفاع عن المعتقلين، وملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الثوار، وحصر ممتلكات الدولة المنهوبة ومحاسبة وسائل الإعلام.
  • الأطباء: نظم الآلاف من طلاب كلية الطب والصيدلة والعلاج الطبيعي وطب الأسنان مسيرة بالبلاطي البيضاء تأييدًا للمعتصمين في ميدان التحرير ونددوا بوحشية الشرطة.
  • أساتذة الجامعات: قاد وزير النقل السابق عصام شرف مسيرة تضامنية مع المعتصمين في ميدان التحرير ضمت عددًا كبيرًا من أساتذة الجامعات المصرية انطلقت من جامعة القاهرة حتى ميدان التحرير.
  • المهندسون: نظم آلاف المهندسين مسيرة تضامنية مع المعتصمين من مقر نقابتهم في شارع رمسيس وطافت وسط البلد وصولًا لمقر الاعتصام ميدان التحرير.
  • الصحافيون: أصدر مجموعة من العاملين بجريدة الأهرام القومية المتعاطفين مع المعتصمين ملحق شباب التحرير معلنين رفضهم لنهج جريدة الأهرام تجاه الثورة، ونظم عدد من الصحافيين في جريدة الجمهورية وقفة احتجاجية مطالبين بمحاسبة القيادات المتسببة في فقدان الجريدة لمصداقيتها، كما اعتصم عدد من العاملين والإداريين والصحفيين في صحيفة روزا اليوسف الاعتصام داخل مقر المؤسسة مطالبين بإقالة مدير التحرير، كما تظاهر عدد من الصحفيين ضد نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد وطردوه من مقر النقابة احتجاجًا على انحيازه للنظام، كما وقعت تظاهرات أيضًا داخل مبنى الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو).

بالطبع لا يتسع المقال لرصد كل الاحتجاجات العمالية التي شهدتها مصر في هذا التوقيت والتي بلغت كمًا مهولًا، حتى كان من أول ما طالب به المجلس العسكري عقب تنحي مبارك هو وقف الإضرابات العمالية، لكن يمثل أرشيف جريدة الشروق المصرية والذي كان مصدرنا، ولا يزال متاحًا عبر الإنترنت، كنزًا في توثيق هذه اللحظات.

مثّل اعتصام ميدان التحرير في ثورة يناير مشهدًا مثاليًا، قدم من خلاله الثوار أنفسهم إلى العالم بصورة حضارية ألفتها الكاميرات وكسبوا بها تعاطف الرأي العام العالمي، لكنه بالقدر نفسه همّش نضالات هامة في مواقع أخرى تستحق أن تُروى، كان أحدها الإضرابات العمالية. والأهم، دروس أخرى تحتاجها الثورات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.