مرة أخرى يثبت الكاتب «أشرف العشماوي» أنه كاتب مُتفرِّد، وصاحب مشروع جاد في الكتابة، وما زال في جعبته الكثير لإمتاعنا به. بدا لي العشماوي في رواية «سيدة الزمالك» مثل الجرّاح، يبحث بمهارة نادرة عن أصول العطب والعلل التي أصابتنا كمجتمع من خلال استقراء التاريخ بشكل مغاير لكل ما تعلمناه، وهو ما أراه مُتجسِّدًا في معظم أعمال العشماوي، سواء في «كلاب الراعي» أو «تذكرة وحيدة للقاهرة».

«سيدة الزمالك» هي رواية ممتعة ومرهقة في نفس الوقت، وتتطلب جهدًا كبيرًا من القارئ- كعادة كل الأعمال الأدبية الكبرى- من أجل الإمساك بتلابيب الحكاية أو قل الحكايات التي لا تفتأ تتوالد من رحم الحكاية الأم، والتي تبتعد ثم تقترب ثم تبتعد، وهكذا حتى نصل إلى النهاية، ونكتشف معها أن تلك المتاهة التي نسجها الكاتب ببراعة- والتي تضعه في مصاف كبار الحكائين المصريين- لم تكن سوى الحيلة الأدبية التي أراد أن ينكأ بها جراح الماضي، بغية تطهيرها.

القصة

القراءة الأولى للرواية تحكي عن جريمة قتل المليونير الإيطالي اليهودي «شيكوريل» بحي الزمالك، على يد خمسة أشخاص، ليتم القبض على أربعة منهم ويُعدَمون، بينما ينجو خامسهم وهو «عباس المحلاوي»، والذي فاز بخريطة ستُمكِّنه لاحقًا من معرفة أين كان يُخبِّئ المليونير قطع الألماس والذهب.

بعد هدوء العاصفة، يعود المحلاوي للحي الراقي ويحاول الاقتراب من أرملة المليونير «بولا هانم»، باعتباره مقاولًا كان القتيل قد تعاقد معه على تجديد الفيلا، ويُقدِّم لها أخته التي أتى بها من قريتهم وهي «زينب المحلاوي»، بعد أن قام بمحاولات كثيرة كي يُعلِّمها فنون الإتيكيت، كي تقيم معها كجليسة ومديرة للمنزل، ولكن كان هدفه الخفي من وراء ذلك هو أن تصبح زينب عينًا له على المكان يصل من خلالها للكنز.

تتعقّد الأحداث ولا يصل عباس لمبتغاه، في حين تحتل زينب بمرور الوقت مكانة معتبرة لدى بولا هانم، ولكنها تحمل سفاحًا من طبيب إيطالي كان يُعالِج بولا يُدعى «ساندرو»، ويحاول عباس أن يُخفِي الفضيحة بتزويجها لابن شريكه في المقاولات وتفلح المحاولة.

يقتل عباس ساندرو ثم تموت ابنة زينب بعد أن أتمت أربعة أعوام، لتواصل زينب بعد فترة حزن- طالت نسبيًا- مصاحبة بولا هانم. يستمر عباس في محاولة البحث عن الألماس، وبالفعل يصل إليه، ولكن في نفس الوقت الذي وصل إليه حسانين، الذي كان يعمل مُحاسبًا لدى المليونير القتيل، وهو منْ اشترك معهم سابقًا في اتمام جريمة القتل، وكانت زينب بدأت تميل لحسانين.

بعد محاولات عديدة من حسانين للفوز بالكنز بمفرده، يتمكن منه عباس ويقتله بعد أن عرف منه أن بولا كانت تعرف أن عباس هو أحد المشاركين في قتل زوجها لأنها رأته يوم الحادث، ولكنها تظاهرت بالنوم كي تنجو من القتل، وأيضًا عرف منه كيفية بيع الألماس، وذلك من خلال اليهودي «يعقوب زنانيزي».

زينب تشاهد عباس وهو يواري جثمان حسانين تحت أساسات فيلا كان يبنيها في الزمالك بالقرب من فيلا بولا هانم، بل وتقوم بتصويره لتقوم بابتزازه فيما بعد.

ولإتمام الاتفاق الذي توصَّل إليه عباس مع يعقوب زنانيري، والذي سيحصل الأخير بمقتضاه على خمسين ألف جنيه مقابل تصريف الماسة، يأخذ عباس ابنته «باتيل» كضمان عنده حتى يضمن عودته.

يُوظِّف الكاتب هنا بعض الحوادث الشهيرة في تاريخنا، مثل تحطم الطائرة التي كانت تقل الممثلة الشهيرة كاميليا، ويضع زانيري وزوجته على متنها ليقضيا نحبهما وتضيع معهما للأبد الماسة وكل أحلام عباس في الثراء.

يتزوج عباس في نهاية الأمر من بولا هانم، بعد أن وصل المرض بها لمراحل متقدمة وبإيعاز من زينب، وبحيل قانونية برع فيها سكرتيره «فهيم أفندي»، يتمكن من نسب الطفلة باتيل له ولبولا، ويتم تسميتها «ناديا»، وتتولي زينب تربيتها لاحقًا.

تنضم ناديا بعد أن تكبر إلى مجموعة الرواة لتحكي لنا كيف عاشت وترعرعت بين أبيها عباس وعمتها زينب، التي ظلت تحاول تقليد بولا هانم بعد وفاتها في كل شيء، على أمل أن تصبح نسخة منها، بخاصة بعد ما عانت كثيرًا من النظرات الفوقية من أهل الزمالك وأعضاء نادى الجزيرة لها، مُستغِلة نفوذ عباس الذي استفحل بعد أن غيّر جلده وتقرّب من نظام يوليو وأصبح من رجاله المخلصين، في إسقاط لا تخطئه عين القارئ على صعود فئات اجتماعية من أسفل الهرم الاجتماعي إلى أعلاه بعد يوليو 1952.

تمكّنت زينب من الحصول على عضوية نادي الجزيرة، وفي نفس لحظة حصولها على الكارنيه الجديد تُمزِّق القديم الذي كنت تحمله ولكنه خاص بالمربيات، وكأنها تحاول مسح كل ما يمت للماضي بصلة.

بظهور الضابط «مراد الكاشف»، نتمكن رويدًا رويدًا من الإمساك بالخيط الرئيسي للرواية، بعد أن أنهكنا الكاتب في متاهة جريمة القتل، رغم روعة السرد.

مراد الكاشف هو رمز للعهد الجديد الذي بدأ في يوليو، وللأسف يمثل أسوأ جوانبه وانحرافاته، يتمكن بنفوذه من الزواج بـ«ناديا» بمباركة زينب، التي كانت تهدف بموافقتها لاستغلال نفوذه رغم معارضة عباس في البداية.

تمكّن الكاتب ببراعة من خلال مراد الكاشف أن يرينا جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر كشخصيات روائية، وأدخلنا معهما في قص بديع إلى غرفة العمليات التي انتهت بهزيمة يونيو 1967، ليسافر بعدها مراد هاربًا للندن بمساعدة عباس، مقابل أن يُطلِّق ناديا، التي تشعر بعودة روحها مرة أخرى، وتحاول البحث عن حبيبها الأول، وللمصادفة كان «طارق بن حسانين» الذي قتله ودفنه أبوها عباس تحت أساسات بيتهم، ولكنها تفشل في لقائه. وكان طارق قد تم اعتقاله بتهمة انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، وهناك تم انتهاكه على يد مراد الكاشف.

إسقاطات الأحداث وبناء الشخصيات

تصل الأحداث إلى نهايتها عندما تكتشف ناديا حقيقة الماضي الأليم، لتنفك طلاسم وألغاز الحكاية، ونكتشف أن الكاتب عقد من خلالها محكمته الخاصة على تاريخ يجهله البعض، وللمفارقة فإن الكاتب في الأساس قاضٍ جليل. ويمكن اعتبار الرواية رحلة بحثية عميقة وممتعة كي نمسك الخيط من أوله ونعرف ماذا حدث، وكيف صرنا إلى ما نحن عليه.

وتظل شخصية زينب المحلاوي هي الأفضل في تمثيل رمزيات أهداف الرواية، في منْ كانت تنتمي للفئات المهمشة قبل يوليو، ولكنها استطاعت التلون والتقرب من رجال العهد الجديد، ومن خلال استغلال النفوذ لاحقًا تحوّلت إلى غول يلتهم كل جميل ويُؤسِّس لكل قبيح، من مبانٍ مخالفة إلى الاتجار بالدين في السبعينيات والثمانينيات.

تغطي الرواية حقبة زمنية طويلة نسبيًا، تقترب من السبعين عامًا، تحديدًا منذ عهد الملك فؤاد وحتى فترة حكم الرئيس مبارك، وهو ما مثّل إرهاقًا للقارئ في الإمساك بخيط الزمن، بخاصة أن الكاتب كان شحيحًا في إشاراته التاريخية في بعض الأجزاء. فهل كان فقدان الزمن في بعض أجزاء الرواية مقصودًا كي يقول الكاتب إن كل العصور متشابهة؟

استطاع الكاتب بمهارة فائقة توظيف كثير من الأمثال الشعبية، بخاصة على لسان زينب المحلاوي، وجاء ذلك مُتسقًا مع المستوى الاجتماعي الذي نشأت به. كذلك وظّف قصص الفساد الشهيرة في تاريخنا الحديث قبل وبعد يوليو، كما أشار إلى ظهور التيارات الدينية المتشددة بمباركة الدولة في عقد السبعينيات، والتي أسّست لثقافة دينية سطحية، مثّلتها زينب المحلاوي، التي كانت تجبر ابنة أخيها على ارتداء الحجاب، في حين لا تتورع عن بناء عمارات مخالفة تنهار لاحقًا على رؤوس ساكنيها ثم تجد من رجال الدين منْ يساعدها على التطهر من ذنوبها.

رغم استمتاعي الشديد بالرواية التي أعتبرها درة أعمال العشماوي، يظل هناك بعض من القصور في رسم بعض الشخصيات، بخاصة عباس المحلاوي الذي لم أقتنع بطريقة تحوله من مجرم محترف إلى ما وصل إليه في نهاية الرواية، وكذلك لم تكن الطريقة التي تزوج بها أرملة المليونير مُقنعة، وهي تعلم بأنه قاتل زوجها وهي سيدة مريضة. كذلك لم تكن قصة رهن اليهودي لابنته الرضيعة عند عباس مقنعة لي بالقدر الكافي.

كذلك وجدت صعوبة نسبية في تقبل السلوك الإجرامي الاحترافي الذي ظهر فجاءة دون تبرير مقنع وكاف على المقاول الطيب القادم من الصعيد، نسيب عباس في تتبع شخصيات مهمة ومؤثرة في القصر الملكي ثم قتل عباس ودفنه في أساسات الفيلا.

لم تخلُ الرواية من بعض الكليشيهات، والتي ظهرت بوضوح في حوار طارق مع زميله في السجن بعد خروجه ولجوئه إلى المخدرات كي يتناسى بشاعة الانتهاك الذي تعرض له أثناء الاعتقال، لدرجة أنني كنت أتوقع الجملة التالية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.